العميد المتقاعد وجيه رافع
اثبتت الوقائع والاحداث الجارية في لبنان منذ اكثر من ثلاثة عقود تقريباً،اي منذ اقرار وثيقة اتفاق الطائف وصولاً الى ايامنا هذه، ان المؤسسات الدستورية والسياسية اللبنانية لم تعد تشكل اداة حقيقية واضحة وصالحة للنهوض بالبلاد، فهذا الوطن الذي اراده ابناءه وطنا للسلام والمحبة وواحة للحرية والعيش المشترك، ركيزته الدستور والقانون، اضحى مع الاسف يعيش الضياع والضوضاء والآلام، وتحولت ساحاته الجميلة الى مساحات حمراء تسيل فيها دماء الابرياء مع كل صباح، إما على طرقاته القاتلة،اوعلى يد عصابات متناثرة في ارجائه كافة ،وصولاً الى افتداء زعامات اجادت في استرخاص الابرياء في كافة مناطقه.
ونلمس بما لا يقبل مجالا للشك، ان الضياع وانسداد الافق هما سمتان متلازمتان لمؤسسات البلاد كافة، بحيث ينخر الفساد عظامها حتى النخاع، واضحى شعار مكافحة الفساد محل تندّر واستهزاء على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن يدعي محاربة الفساد وأجاد تحويله الى لازمة في كل حركاته ومواقفه، هو نفسه الاكثر «مهارة» في ممارسة طقوسه وألوانه المختلفة والمتشعبة.
اذا قاربنا الادارة في مؤسسات البلاد، حدّث ولا حرج، لقد تحوّلت مع الأسف الى استثمار وظيفي تتعهده القوى لسياسية، وتمارسه بنفعية واستزلام ومهانة بحق كل صاحب كفاءة واختصاص، وتحوّلت المواقع والمراكز الوظيفية الى املاك خاصة بيد زعماء البلاد،ناهيك ان الموظف فيها هو الآمر والناهي لا القانون، والمواطن هو الزبون الذي لا خيار امامه الا الانصياع، وباب الاجتهاد مفتوح للموظف على مصراعيه، اذا اراد الحل فتحت الابواب، واذا شاء مزاجه اغلقت، وكل موظف مدعوم ومسنود لمن يعلوه، وهكذا بالتدرج وصولاً الى الزعيم، فالمحسوبية هي الفيصل والكفاءة طواها الجهل والنسيان.
واذا عرّجنا على أم المؤسسات، ايضاً لها نصيبها في حالة الضياع هذه، بعدما برع السياسيون في ابعادها عن دورها التشريعي الرقابي الحقيقي، واضحت واحة وساحة لمن يملك المال والجاه، لا لمن غاصت افكاره في كتب التشريع والقوانين،عند اقرار قوانين الانتخاب التي ينبثق منها مجلس نوابنا الكريم، حيث يُعمل بمقصات الطائفية والجهل ل تشق طريقها الى عتمة الضياع بكل تسهيل وتيسير،بالكاد يصل الى منابرها ولو شبه فقيه في اصول الحكم والتشريع.
وماذا يمكننا القول في سياسات البلاد التنفيذية،انها عبارة عن مركب من خليط هجين، كلٌّ يفسر مواد الدستور وفقاً لمصالحه ورؤياه، وما بين دستور وميثاق وأعراف ونصوص واجتهادات، يعيث القلق والتردد فراغات قاتلة في حياة الوطن المستمر قيد التأسيس،اتفاق طائفه الذي وُجد كخشبة للخلاص بعد حرب دامية، اضحى عبارة عن حطام متناثرة هنا وهناك، كل فريق يتعلق بجزئه الخاص من هذا الحطام ويدعي تعلقه به، و الاكثر حرصاً عليه كلامياً هو الاكثر إيغالاً في تحطيمه عملياً، وتحول هذا الاتفاق، مع الاسف، الى جسد بلا روح، غارق وتائه في بحر عميق من التناقضات والتباينات جعلت سياسات البلاد مترددة،قلقة،خائفة ومرهقة في كل الميادين.
اقتصاديات البلاد تتربع على شفير الهاوية والافلاس منذ زمن، يحاول رئيس البلاد مع المؤسسات المالية القائمة ابعاد كأس الانهيار قدر المستطاع، المعلومات تتحدث عن قلق وخوف كبيرين يسودان الواقع الاقتصادي والمالي في لبنان، ضياع السياسات التنفيذية القائمة والمستمرة ادت الى ضياع الخطط الاقتصادية الشفافة والفعالة في جميع ميادين الاقتصاد،وفرص العمل تحاكي الصفر، في ظل معلومات عن اغلاق مؤسسات مهمة في البلاد.
كل ذلك يجري والمالية العامة في تدهور مستمر، يظللها ثراء فاحش لطبقة حاكمة جشعة تتسلط على مقدرات البلاد عبر مختلف الاشكال على حساب الشعب والمجتمع، فالعدلة الاجتماعية غائبة في ظل تنافس غير شريف واحتكارات تتحكم بالاسعار والارزاق، ويرزح المواطنون تحت معاناة كبيرة في جميع مناحي الحياة. لكن الاخطر في كل ما يجري هما مشهدان خرجا الى العلن بقوة في الفترة الاخيرة،اذ بدأت السهام تطال مؤسستان كبيرتان يفترض انهما المنطلق لكل استقرار سياسي واقتصادي في البلاد، عنيت بهما الامن والقضاء.
لقد كشفت حادثة البساتين ? قبرشمون عن عمق الانقسام الذي طال مؤسسات لبنان الامنية، حيث بيّنت المعطيات التي ظهرت بعد هذه الحادثة، ان اجهزة لبنان اضحت مربعات طائفية ومذهبية، اذ اختلف ساسة لبنان «العظماء» على الجهة الامنية الموثوقة للمباشرة بالتحقيق كلٌّ وفق نظرته وموقعه، فتبين لنا، ان جهازا امنيا تسلم بعض المشتبه فيهم، وقام بتسليمهم الى جهاز امني آخر، الذي قام بدوره بتسليمهم الى جهاز ثالث للتحقيق معهم ، ليتحول بعدها الملف الى المحكمة العسكرية التي طالتها سهام التشكيك، مما ادى الى تشظي كبير في هيبة القضاء اللبناني، ولو ان هذا التشظي ليس بجديد، اذ انه بدا قبل فترة منذ اتهام القضاء سابقا باخفاء ملفات لأمنيين سابقين، وصولا الى الحديث عن احكام تصدر بالتراضي في العديد من الملفات، وليس انتهاءً بما افشاه احد الوزراء مؤخرا حول بعض الهندسات القضائية التي جرى الاعداد لها في غياهب الكتمان.
تمت التسوية السياسية لهذه الحادثة المؤسفة مؤخراً بعد الخوف والقلق الكبيرين الذين سيطرا على البلاد والعباد، لنجد الصورة القاتمة على الشكل التالي: نظام سياسي متوتر غير عادل ينتج الازمات ويشرّعها على مصارعها بين افراد الشعب، فتعم الفوضى وتنتشر بين الطوائف اللبنانية او داخل كل طائفة، فيقوم الجيش فورا بالتدخل لفرض الاستقرار واضفاء التوازن واعادة الهدوء والحياة «الطبيعية» بين الجميع، ليكافأ قائد الجيش بعدها بموقع الرئاسة تسليما بدوره الوفاقي الجامع بين اللبنانيين، ويحكم الاخير ويغرق في بحر ازمات النظام المختلفة، فيمضي عهده على وقع هذه الازمات المتناسلة والتناقضات المستمرة،ويخرج بعدها خالي الوفاض والحنين وليظهر ان كل ما تغير فقط في البلاد هو انضمامه الى نادي الأثرياء مثله مثل حكام البلاد من باقي الطوائف والمذاهب.
هكذا تدور الحياة السياسية في البلاد، وتستكمل دورتها الضيقة، نظاما ينتج الازمات، وجيش يطفأها ويحمي مولّدها ، دورة تجري وسط التحريض والضياع واالانين ،كل ذلك يحدث مصحوبا بالفساد والسرقة والاختلاس وتصفيق الشعب العنيد، حالهم كما قال الشاعر الراحل محمود درويش في رائعته:
«لا اعلم من باع الوطن ولكنني رأيت من دفع الثمن».