بقلم بيار سمعان

منذ بضعة سنوات وصل شاب قريب لي الى استراليا لمتابعة دراسته الجامعية العليا. وبعد تخرجه حصل على الإقامة الدائمة. ثم على الجنسية الاسترالية، بعد ان عمل في احدى كبريات الشركات الدولية في سيدني.

هذا الشاب الطموح والمثقف، كمعظم اللبنانيين، يعشق لبنان و»شعب لبنان العظيم»، قرر العودة الى الوطن الأم، بعد ان  ضمن وظيفة لائقة في احدى دول الخليج العربي، الأقرب الى لبنان، رغم محبته واحترامه لاستراليا، بلد الفرص والعدالة الانسانية والقانون القائم على احترام الاختلافات العرقية والدينية والمساواة بين المواطنين. لكن استراليا، بلد القانون تتعارض مع روح الفوضى غير المنظمة في لبنان، وهي الآن جزء من الثقافة السائدة.

بعد عودته الى عمله، بقيت على تواصل معه. وغالباً ما كنا نتطرق الى امور الساعة على الساحتين اللبنانية والاسترالية.

بعد ان شرعت استراليا «زواج المثليين»، وجه صديقي «كومة من الانتقادات» لاستراليا التي تخلت عن المثل الاخلاقية، وقد اوافقه الرأي هنا، لكنه اعتبر ان لبنان لا يزال وطن الإيمان والاخلاق والمثل العليا، وهو الأفضل لتربية العائلة على اسس سليمة.

اعترضت على كلامه، كون ما جرى في استراليا يدخل في آجندا عالمية، وان رياح التغيير هي متجهة نحو لبنان. وانها مسألة وقت لا غير.

لكن يبقى السؤال الأهم هو التالي: ما هي العوامل التي دفعتني لرؤية لبنان يتجه نحو التغيير؟ وما هي الأسباب التي دفعت بعض اللبنانيين لتبني «مشروع ليلى»؟

– «مشروع ليلى» نتيجة وحلقة جديدة

اثار قرار لجنة مهرجانات بيبلوس إلغاء حفل «مشروع ليلى» ردود فعل متضاربة. البعض أيّدوا القرار، كون الفرقة تسيء الى الرموز الدينية المسيحية، وآخرون دعموا الفرقة وحرية التعبير في لبنان. وانتقدوا الدولة التي تقاعست عن اتخاذ المواقف الحازمة بوجه «موجة الكراهية» والتمييز وعدم حماية الحريات في لبنان، .

لبنان، الوطن الصغير الذي يعترف دستوره بـ 18 طائفة ومذهب، ويقوم النظام فيه على تكريس وحماية الطوائف، وعلى المحاصصة في تقاسم السلطات  والمراكز والمال العام.

فالعلاقات بين الطوائف هي دقيقة للغاية اذ تسعى مختلف المكونات اللبنانية الى عدم تجاوز خطوط وصلاحيات الآخرين، حفاظاً على الأمن القومي ومنعاً لانتقال النزاعات السياسية الى الشارع.

– الحرب اللبنانية تضرب البنية الاجتماعية

لكن الحرب اللبنانية التي استمرت من عام 1975 الى 1990 ضربت كل الاعراف واسفرت عن مقتل  ما يقارب من 300 الف قتيل بين لبناني وغريب حمل السلاح على ارض لبنان وخلفت الآلاف من المعاقين بسبب اصابتهم خلال الحرب.

كما ادت الحرب الى هجرة ما يزيد على مليون لبناني، استقر معظمهم في كندا واستراليا  والولايات المتحدة الاميركية ودول اميركا اللاتينية واوروبا الغربية.

وتسببت الحرب اللبنانية بدمار مدن  وقرى، وارغام الأقليات على النزوح الى مناطق آمنة بالنسبة لهم. وشهد لبنان حالة من الانقسام الجغرافي المذهبي، وتعمقت الانقاسمات الطائفية والسياسية وتكرست الولاءات الخارجية، بعد ان سعت كل اقلية للحصول على دعم وضمانات كتدبير وقائي للبقاء على قيد الحياة.

الدولة التي يفترض ان تكون الحاضنة لجميع اللبنانيين، ضعفت، بعد ان كثر السلاح، وتشعبت  الولاءات للخارج.

ومن نتائج الحرب المباشرة، كان تعميم الفوضى، والاعتماد الذاتي، كل مجموعة على نفسها، وانتشار آفة المخدرات بين المقاتلين وفئات الشباب بشكل عام. وولدت هذه الحالة، بالاضافة الى القلق الجماعي، الكثير من الامراض العصبية ومشاعر الخوف والقلق على المصير، وشاعت ظاهرة اللجوء الى العقاقير المهدئة بين اللبنانيين.

واليوم يعاني معظم اللبنانيين الذين تضرروا من الحرب ولو بدرجات متفاوتة، من الانعكاسات السلبية لها. البعض خسروا أباً او شقيقاً او عائلات، آخرون خسروا املاكاً  ومنازل ومصادر رزق، وآخرون، حملوا امتعتهم وانتقلوا من مكان الى آخر بحثاً عن الأمن النسبي، او قرروا الرحيل نهائياً عن الوطن لأنهم رفضوا ان يوجهوا اسلحتهم الى صدور جيرانهم، او ان يُقتلوا دون سبب، فقط لأنهم يختلفون مع الآخر في الدين او المذهب او التوجهات السياسية.

باختصار كانت الحرب العنصر الأكثر دماراً للانسان اللبناني، من النواحي المادية والاجتماعية والاخلاقية والنفسية. لذا نشأ في لبنان اجيال عبثية. لا تولي الاخلاقيات والعقائد الدينية اية اهمية. البعض اختاروا الكفر والالحاد كردة فعل لرفضهم لما يجري في الوطن. آخرون اختاروا التدين الأعمى والمتطرّف عقائدياً، وتحولوا الى مشرعين يصدرون الفتاوي، يحرمون ويحللون حسب ميولهم السياسية. وولدت تنظيمات مسلحة تحمل اسم الله وتدعي الدفاع عنه.

وعندما توقفت الحرب في 1990 او اعلن وقف القتال، تسلم زعماء الميليشيات السلطات في البلاد، لكن لم يعمد المسؤولون عن الحرب الى اجراء مراجعة لاسباب اندلاعها، ولم يقر احد بالجرائم التي ارتكبها بحق اللبناني الآخر وبحق الوطن.

طويت الصفحة دون اي نقد ذاتي او فعل ندامة واعتذار من الوطن والشعب اللبناني، على خلفية المآسي التي سببها زعماء الحرب، خاصة على العائلات والاطفال والشهداء الأحياء لم تجر اية مصالحة مع الذات او مع الآخرين .

نعم تصالح اللبنانيون، او بالأصح تصالح زعماء الميليشيات فيما بينهم مطلقين الشعار المألوف: «عفا الله عما مضى». لكن وجع الناس لم يعالج، ومصدر آلامهم بقي في القلوب، وحزنهم على الخسائر التي تكبدوها، ترك لهم الخيار للتعامل معها ومعالجة ذيولها.

– 15 مكرر… !!

يسهل توصيف العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخ لبنان، كما يلي: 15 سنة حرب، 15 سنة هيمنة سورية و15 سنة نهب وسرقة اموال الدولة.

منذ اندلاع الحرب حتى يومنا هذا، لم يجر احترام الدستور او تطبيق اتفاق الطائف روحاً ونصاً. فتحولت المؤسسات الى مراكز فارغة ودكاكين للإثراء غير الشرعي للوزراء والمدراء والموظفين العاملين فيها. وتوافق  المسؤولون على عمليات النهب، وانتشر الفساد، واصبحت الخوة العنوان الأبرز والأخطر لمفهوم الدولة.

ودفع لبنان وشعبه ثمن الأمعان في الفساد ونهب ثروات البلد وتقاسم خيرات الوطن. وهذا ما انتج طبقة جديدة من الأثرياء الذين حققوا مكانة اجتماعية بواسطة الثروات الطائلة التي جمعوها بطرق غير مشروعة. واصبح الفساد عنواناً للنجاح ومؤشراً له، في اذهان المواطنين الذين لا حول ولا قوة لهم. وازداد التفاوت الاجتماعي والطبقي بشكل غير مسبوق، وانخفضت الطبقة المتوسطة، مما دفع المزيد من اللبنانيين الى النزوح نحو المدن او اللجوء الى الهجرة، بعد ان فقدوا املهم «بالتغيير والاصلاح» .

واصبحت مزاريب الهدر والنهب مكرسة  «على عينك يا تاجر» ، تحت عنوان المحاصصة والحفاظ على حقوق ومكتسبات الطوائف والمذاهب. وبات طبيعياً ان يسطو المسؤولون وعائلاتهم على خزينة البلد، عن طريق الصفقات والمخصصات للجمعيات الوهمية التابعة للزعامات السياسية.

فالنهب المتواصل دون خجل او مساءلة، رفع من ديون لبنان، ووضعه في مواجهة الافلاس.

وما يشاع حول التصميم على مكافحة الفساد هو مجرد عملية تضليل يشترك فيها الطبقة الحاكمة والفاسدة لخداع المواطنين، وايهامهم ان الاصلاح قادم، والمحاسبة على الابواب وان استعادة اموال الدولة اصبحت على مرمى حجر.

– الفساد يدفع المواطن الى الغربة داخل الوطن

وما يعزز من غربة الناس في وطنهم، هو الشعور بالاحباط واقتناعهم بعدم جدوى اي علاج جذري، فالفساد هو اليوم جزء من المشهد السياسي، كونه على صلة وثيقة  ببنية النظام اللبناني. فالفساد المالي يغذي الفساد السياسي، والعكس صحيح.

لذا يرى اللبناني نفسه مكبلاً وعاجزاً بعد ان تعاون امراء السياسة مع امراء المال، داخل نظام طائفي يحمي الاقطاع ويكرّس الزعامات التي تختصر طوائفها وتنوب عنها وتتحدث بإسمها.

فالطبقة الحاكمة تتعاون فيما بينها للحفاظ على مكتسباتها وخيراتها  ومواقعها، هذا الواقع يشكل معادلة متعارضة مع شروط بناء الوطن وتدعيم الديمقراطية التي اصبحت اسيرة النظام الطائفي، تتلاعب بتفسيرها الطبقة الحاكمة، وتستفيد منها باسم الطوائف التي تمثلها.

– واقع كافر

هذا الواقع انتج حالة من الاحباط الجماعي، ودفع العديد الى حالة تقارب الكفر: كفر بالوطن، كفر بالطبقة الحاكمة، كفر برجال الدين، بعد ان تحول بعضهم الى آداة بيد السياسيين، او داعية تروج لهم. كما ننخر سوس الفساد بعضهم… لذا مال بعض اللبنانيين الى الكفر بالعزة الإلهية وبدأوا البحث عن مصادر دعم لهم في تنظيمات وقوى اخرى.

– المجتمع الفاسد

يقال ان اللبناني هو عبقري، والأصح ان اللبناني يميل الى تقليد الآخرين والتماهي بالخارج بعد ان ضعف الداخل، ابتداءً بمفهوم الدولة الراعية والقادرة، ووصولاً الى العائلة التي كانت تبنى على تضحيات الوالدين، واحترامهما، وعلى احترام الإيمان والمثل العليا، وهذا يترجم في الحياة اليومية.

للأسف انفتحنا على الشرق، فاكتسبنا منه الروح القبلية والتعصب، وانفتحنا على الغرب فتبنينا روح الانفتاح والتحرّر والأباحية، والتغني بشعارات الحرية والمساواة…

لقد تخلّت المرأة اللبنانية عن جمال شخصيتها بعد ان هشمتها الحرب، ودمر الفساد فرص نجاحها وقدرتها على الزواج وبناء عائلة كريمة.

وتخلت المرأة عن دورها الأساسي داخل العائلة، بعد ان اوكلت مهام تربية اطفالها لخادمة اجنبية، حلت مع الوقت مكانها في المنزل. فاصبحت الخادمة هي المربية والطباخة والساهرة على راحة العائلة، وقد تكون الزوجة..

وفقدت «اخت الرجال» دورها بعد ان ادخلت ثقافة جديد على نمط حياتها، من صالون الشعر الى عمليات التجميل الى الكافيتاريا والاركيلة ومتابعة المسلسلات وآخر موضة. واصبح الرجل آخر من يعلم.. فالمهم السترة والظهور بمظهر عصري ولائقيتماى مع صورته في المجتمع.

ومع دخول الانترنيت وشيوع شبكات التواصل الاجتماعي، ازداد منسوب التلهي والوعي الزائف، كما ارتفع منسوب الافساد للاجيال الناشئة.

فالبطالة المتفاقمة وتعميم الفساد، وأكوام الكمامة وانتشار السرطان والامراض الناتجة عن الاهمال وغياب الرعاية، وحب التقليد والتشبّه بالآخرين واستغلال المنظمات الخفية، وحالات اليأس المتفشية هكذا  دخل الشر لبنان من ابوابه العديدة والواسعة.

جيل الشباب الجامعي الذي يصطدم بأسوار الفساد والمحسوبية والجهل والتقاليد المتزمتة، ويعاني من البطالة المرتفعة، غالباً ما يبحث عن حلول لمعاناته النفسية والمادية في اماكن بديلة.

لذا بدأنا نسمع مؤخراً بعبدة الشيطان في لبنان، بلد القداسة، وسمعنا بأصوات تطالب وتروج للمثلية الجنسية، كتدبير ثأري للأوضاع الرديئة ولغياب فسحة الأمل.

في هذه البيئة الفاسدة، ولد «مشروع ليلى» كبديل يسعى الى انشاء ديانة جديدة ترفض الأديان التي يعترف بها الدستور، وساهمت في دمار الوطن. انها بديل للمسيحية، بعد ان تخلى المسيحيون عن نظافة ايمانهم، وبدأنا نسمع اصوات كهنة يشكّكون بدور العذراء مريم في التدبير الخلاصي، فجاءت «ليليت» لتحل مكانها كما هي بديل لطروحات اسلامية متطرفة ترفض قبول الآخر المختلف.

ولد «مشروع ليلى» بعد ان فشل مشروع بناء الوطن واعادة بناء الانسان الذي يفاخر بانتمائه لوطن يحتضن ابناءه ويرعاهم. لقد حوّل السياسيون المواطن الى مطية وسلعة يتاجرون بها.

فمشروع ليلى لن يتوقف عند إلغاء حفلة هنا او هناك، اذ تطلب معالجة اي مشروع شيطاني هدّام،  تبني مشروعاً اصلاحياً يبدأ برأس الهرم وينتهي عند آخر مواطن يعيش على الارض اللبنانية.

ربما نحتاج اليوم الى انتفاضة شعبية حقيقية تطيح بالمنظومة القائمة على الفساد وغياب المساءلة وتطبيق القوانين على الجميع… وإلا، سوف نستفيق غداً على اكثر من مشروع ليلى يدمر الكيان اللبناني برمته.

فالمؤامرة على لبنان لا تزال مستمرة، ولو بطرق مختلفة.

pierre@eltelegraph.com