بقلم بيار سمعان

اضم صوتي الى سائر الأصوات التي ادانت مجزرة مدينة «كرايست تشيرش» في نيوزيلندا، واستنكر عملية قتل الابرياء اينما كانوا بغض النظر عن اعراقهم وعقائدهم. وحده مانح الحياة يحق له ان يأخذها، لأن له وحده سلطان على الموت. ولا يحق بالتالي لأحد، تحت اية ذريعة ان يقتل آخرين، لا باسم الشرف، ولا الدين او اية مقولة  اخرى… وحده الدفاع عن النفس مقبول، دون ان يتجاوز حق الانسان بالبقاء على الحياة، وحماية النفس والعائلة، واحترام حياة الآخرين.

لقد اثارت مجزرة نيوزيلندا ردود فعل كثيرة ومتعارضة. لكن لا بد من التوقف عندها، ومحاولة تحليل خلفياتها واهدافها وابعادها الخطيرة، الأمر الذي لم تتطرق اليه وسائل الاعلام، بل اكتفت بسرد الوقائع وإعطاء لمحة عن حياة الجاني «برانتن تارنت». كما رغب هو نفسه ان ينظر اليه الناس والمجتمع الدولي، او كما ارادت «الأيادي الخفية» التي تحركه ان يسلط العالم الأضواء عليه وعلى معتقداته.

– من هو برانتن تارنت؟

تم التعريف على برانتن تارنت من قبل السلطات انه من سكان غرافتون من ولاية نيو ساوث ويلز، يبلغ من العمر 28 عاماً، فيما اكدت مصادر اخرى انه يتجاوز 42 عاماً من عمره.

برانتن ليس مسيحياً، وينتمي بأصوله الى ديانة اخرى غير مسيحية، رغم الإدعاء انه حاول في جريمته الانتقام للمسيحيين من اعتداءات المسلمين عليهم عبر التاريخ. وقد استهدف مسجدي النور ولينوود في مدينة كرايست تشيرش بكل دم بارد وحرفية ، ونقل على الفايسبوك مباشرة تفاصيل الهجوم الدموي، ليراه ملايين الناس حول العالم، كما حدث في 11 ايلول 2001 عندما نقلت شبكات التلفزة عملية تدمير برجي التجارة في نيويورك. وامل برانتن احداث صدمة لدى المشاهدين، وبعث من جراء ذلك اكثر من رسالة، اسعى الى تحليلها لاحقاً.

المهم ان العالم شاهد عملية اعدام مباشرة لخمسين مصلٍ وجرح العشرات بدم بارد، وكأننا نشاهد احدى اللعب الالكترونية الرائجة او ان المعتدي هو قاتل محترف لديه المتسع من الوقت لتنفيذ مهمته.

في رسالته المطولة، ادعى برانتن انه انسان «ابيض» من اصول اسكتلندية، ايرلندية وبريطانية، لكنه يتجاهل اصوله الاثنية والدينية الحقيقية. ويدعي انه لم يحصّل الكثير من العلم، ويقوم بعمل بسيط في احد النوادي الرياضية.

غير ان السلطات في كوريا الشمالية، والباكستان، وبلغاريا وتركيا والكرواتيا اكدت ان المواطن الاسترالي برانتن تارنت قد زار بلادها بين عامي 2016 و2018.

ويتساءل المرء، كيف تمكّن انسان ذو دخل محدود من القيام بهذه السفرات؟ من موّله، ومن سهّل له الوصول اليها، وما هي الاهداف الحقيقية لهذه الزيارات؟

وذكر برانتن في رسالته المطولة انه خلال زيارته الى اوروبا، شاهد رجلاً اوزبكي يقود شاحنة، ويجتاح مجموعة من السياح في ستوكهولم، مما اسفر عن مقتل خمسة ابرياء. واسهمت هذه الحادثة، على حد ما جاء في البيان الى دفع تارنت للقيام بعملية الثأر لاحقاً.

وكتب تارنت انه نفذ الهجوم ليقول للغزاة الاغراب ان اراضينا لن تكون ابداً ارضهم كما انه اراد الانتقام للفتاة السويدية إيبا آكرلاند (12 عاماً) التي جرى اغتيالها في ستوكهولم في نيسان 2017، جريمة القتل هذه نفذها بشكل عنيف رحمات أكيلوف، وهو طالب لجوء من اوزباكستان.

واعرب تارنت ان هدفه من ارتكاب هذه الجريمة هو خفض معدلات الهجرة الى الدول الاوروبية عن طريق نشر الذعر لدى «الغزاة الجدد» والقضاء عليهم جسدياً…

ووصف تارنت عدداً من حوادث الاعتداءات التي وقعت في عواصم اوروبية ، مشيراً انه يصعب على المرء ان يتجاهلها.

كما اشار الى حادثة الاغتصاب المرعبة التي ارتكبها «آل سكاف» في سدني عام 2000، والى عمليات الاغتصاب في دول اوروبية وغير اوروبية، والى عمليات استغلال ما يزيد على 1400 طفل في شمال انكلترا، على يد رجال باكستانيين في الثمانينات والتسعينات والألفين.

وكتب تارنت على اسلحته ومعداته العسكرية اسماء شخصيات اوروبية نفذت عمليات انتقام ضد «الاغراب المعتدين». كما ذكر تواريخ محددة لمعارك وقعت بين الدولة العثمانية و دول اوروبية، وصولاً الى كوسوفو والصرب.

وادعى انه التقى خلال زياراته الى بعض الدول الاوروبية، بعض من نفذوا عمليات ارهابية ضد المسلمين، وحصل على بركتهم لتنفيذ هجومه . واكد انه يسعى من جراء جريمته الى استنهاض عزيمة الاوروبيين لكي ينتفضوا، ويغيروا المنحى الذي تسير باتجاه الدول الاوروبية.

خطورة هذه الحادثة الأليمة تكمن في الرسائل المشفرة التي تحملها الى جانب الرسائل الخطية التي تعود الى مئات السنين من الصراع الديني، بين المسلمين والمسيحيين في اوروبا. وقد اعطى برانتن تينانت الحجة العقائدية وفتح جروح الماضي، كما اعطى الحركات الاصولية منهجاً عملياً يحتذى به، اي حمل السلاح وتنفيذ عمليات هجومية مماثلة ضد المسلمين، كما فعل هو بالأمس.

– جريمة «كرايست تشيرش»: ردة فعل ام حلقة جديدة؟

لا يمكن فهم مجزرة كرايست تشيرش انها مجرد جريمة منفصلة عن احداث دامية واعمال اضطهاد تجري حول العالم، خاصة في الشرق الاوسط، ومنذ سنوات.

كما يصعب فهم ما جرى في نيوزيلندا بمعزل عن اعمال القتل والإبادة والاغتصاب والسبي  والجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش وتنظيمات اصولية اسلامية اخرى، يحق المسيحيين واليزيديين والاقليات المستضعفة في الشرق الاوسط وافريقيا، والهند والباكستان وغيرها.

وبالأمس القريب قتل مئات المسيحيين في نيجيريا وباكستان كما جرى تنظيف العراق من الوجود المسيحي. ويتعرض المسيحيون يومياً للاضطهاد.

ما قامت به المجموعات الاصولية باسم الاسلام واشرطة الفيديو لعمليات جذ الرقاب وحرق الضحايا وقتل الابرياء، وبثها عبر الانترنيت خلق هوّة فسيحة من النفور وأوقد  مشاعر الكراهية، وفتح جراح الماضي. خاصة ان بعض اصوات المسلمين في اوروبا واميركا واستراليا اصبحت تطالب بتغيير الانظمة، تطبيق الشريعة الاسلامية. اصوات قد تكون «عميلة او مأجورة» طالبت بالاستيلاء على «البيت الابيض» والفاتيكان وبأسلمة العائلة المالكة في بريطانيا.

لكن، وللأسف الشديد، قلة ضئيلة من المسلمين رفضوا هذه النداءات او شجبوا اضطهاد المسيحيين والأقليات لكن الأغلبية العظمى لم ترفع صوتها  لتدين التطرف، بل اكتفوا بترداد مقولة ان هؤلاء لا يمثلون الاسلام. بالواقع لم يصدر اي قرار او فتوى صريحة بحق هؤلاء او استنكار صريح للمجازر التي ارتكبها بعض المسلمين.

وهنا تكمن خطورة التأويلات والتحاليل.

لذاء جاءت مبادرة قداسة البابا فرنسيس الأخيرة وتعاونه مع مفتي الأزهر لتضع مسيرة جديدة للمواطنة ولقبول الآخر المختلف.

غير ان العقلاء يخشون الآن ان تطيح جريمة نيوزيلندا بالمعاهدة المسيحية والاسلامية وان تفرض المزيد من التشنّج والتأزيم في العلاقات بين الأديان.

– جريمة العصر ونظرية المؤامرة.

معظم الاحداث الهامة التي وقعت عبر التاريخ، تبين لاحقاً انه جرى التخطيط مسسبقاً لها، وان منفذها لم يكن المخطط والمنفذ الوحيد لها، بل وقفت   وراءها مجموعة من التنظيمات ذات الاهداف البعيدة. فكيف يمكن قراءة جريمة نيوزلندا اليوم؟
جرت اشاعات ان برانتن تارنت هو غير مسيحي، وانه ينتمي الى احدى الجمعيات السرية ومسجل في احد محافل كانبيرا.

ومن ينظر الى الصور المرفقة، يرى ان تارنت يعطي اشارات رمزية بيده اليمنى، وهي علامة (666) التي تعتمدها التنظيمات السرية للتواصل فيما بينها. وفي الصورة الثانية يمكن رؤية يدي المتهم وهو يعطي اشارة «الكمال او المواجهة» العظمى. وهذا هو المطلوب باعتقادي.

– الواقع الذي نعيشه اليوم:

اذا عدنا في الذاكرة الى بعض الطروحات والاحداث الهامة خلال العقدين الماضيين. بعد التخلي عن مفهوم الاندماج الاجتماعي، جرى اعتماد التعددية الثقافية في اواخر السبعينات. واصبح هذا الطرح اساساًً لقوانين معظم الدول التي شجعت الاقليات الاثنية والدينية على الاحتفاظ بخصائصها العقائدية والثقافية ضمن القانون.

في عام 1990 الاعلامي اليهودي برنارد لويس نشر مقالاً في مجلة Atlantic Monthly تحت عنوان : اصول الغضب الاسلامي. ثم نشر كتاباً حول نزاع الأديان.

المحلل السياسي صموئيل هانتينغتون رأي في مؤلفاته ان حروب المستقبل لن تقوم بين الدول، بل بين الثقافات. وفي 1993 اعتمدت وزارة الخارجية الاميركية هذه النظرية، وبدأ الحديث رسمياً عن «صراع الثقافات والديانات».

وعلى ضوء هذه النظرة الفلسفية السياسية يمكن فهم التيارات الاصولية الاسلامية والمتطرفة. كما يمكن فهم التيارات العرقية المتشددة في الدول الغربية. فالدعم الذي تتلقاه هذه المجموعات المتطرفة من العديد من الدول ورجال الاعمال، بعضهم عن وعي والبعض الآخر من باب التزمت والتعصب الديني، يدخل ضمن هذه المقولة: اي دفع العالم باتجاه صراع الثقافات على امل نشر الثورات والفوضى وفرض حالة من اليأس الاجتماعي، لكي يطالب الناس حول العالم ، بإلغاء الأديان وابطال الأنظمة التي فشلت في توفير الأمن والاستقرار للمواطنين، والقبول بنظام عالمي جديد.

من هنا يمكن فهم موجات التحريض والتشويه والإساءة الى الأديان السماوية وما يتعرض له رجال دين من اتهامات تهدف في آخر المطاف الى زعزعة ايمان الناس وفقدان ثقتهم بالله ورسله وقادته.

باعتقادي ان ما حدث في مدينة كرايست تشيرش اي «كنيسة المسيح» فيه دلالات خطيرة. فالكلمة بحد ذاتها تعني مذبحة المسلمين في كنيسة المسيح. فاختيار مسجدين في هذه المدينة، لم يكن من باب الصدفة، بل يحمل دلالات خطيرة بحد ذاته، لأن المطلوب هو اشعال نار حرب دينية تشمل كل الغرب وتؤدي الى حرب كونية بين الاثنين، بغية دمار الاسلام والمسيحية معاً.

فزيارة مطران الموارنة  انطوان طربيه لمسجد لاكمبا، والوقوف الى جانب المسلمين، ليس من باب المجاملة او المسايرة، بل لادراكه العميق لخطورة جريمة نيوزلندا خاصة انه ابن لبنان «الرسالة».

كما يجب فهم دعوة اسقف سيدني للكاثوليك انطوني فيشر للصلاة مع كل المذاهب، على انها استكمال للمسيرةالتي بدأها البابا فرنسيس، والتي اراد الالحاد العالمي ان يقضي عليها في مهدها لأن المطلوب هو صراع الأديان وليس لقاءها وتقاربها.

آمل ان يدرك الجميع خطورة ما حدث واتمنى على الأخوة المسلمين ان يتحلوا بالحكمة ويعمدوا الى نبذ وادانة التطرف.. لأن المحبة وحدها تبني الناس والمجتمعات وتطور الأديان والثقافات، ولأن من يحب الله الذي لا يراه عليه ان يحب اخاه الانسان الذي يعيش معه..

وإلا.. فعلى الدنيا السلام.

فدعوة برانتن تارنت هي واضحة وصريحة، قد يستفيق على اثرها كل خلايا الشر النائمة حول العالم، بحجة الدفاع عن الأديان، والثأر لتاريخ حافل من اعمال الاضطهاد وردود الفعل عليه.

فهل تتحوّل جريمة «كرايست تشيرش» الى صدمة ايجابية لوعي الناس من مختلف الفئات، ام انها بداية مرحلة جديدة من «صراع الأديان»؟

pierre@eltelegraph.com