بقلم بيار سمعان

بالأمس سار الكاردينال جورج پيل نحو قاعة المحكمة محاطاً بنفر من رجال الشرطة الذين طوقوه، وكأنه من كبار المجرمين الخطيرين في البلاد.

لم يحرّك له جفن، لم ينطق بكلمة, لم يبالٍ  لبعض الاصوات «المعادية» التي ارتفعت بين الجموع، وهي تصرخ بكلام نابي بذيء.

بعض الاصوات التي تدعي حماية الطفولة كانت ترتفع من هناك او هنالك.. لقد صدر الحكم مسبقاً بإدانة جورج بيل، وهو يدرك في قرارة نفسه انه سيُدان، ليس لصدقية التهم الموجهة اليه، والتي انكرها مراراً وتكراراً في وسائل الاعلام وخلال استجوابه من قبل شرطة فيكتوريا، بل كونه يعلم ان حرباً منظمة تشن ضد الكنيسة الكاثوليكية، يقودها بخبث مجموعة الالحاد العالمي، بواسطة عملائه داخل النظام (شرطة وقضاء) وبتغطية اعلامية من قبل بعض وسائل الاعلام التي اصبحت معروفة في استراليا.. والشعب، هو آخر من يعلم، بعد ان غسل دماغه  واصبح يتقبل ما هو غير طبيعي، على انه طبيعي (زواج المثليين). ولعبت وسائل الاعلام دورها في تجييش مشاعر العداء على الكنيسة ورجالاتها، بسبب اخطاء القلة الضئيلة من الكهنة الفاسدين.

جورج پيل ادين، ولكنه سيستأنف الحكم، لأنه يدرك ان الحكم هو خاطئ، وان هيئة المحلفين جرى التلاعب بأرائها ومشاعر اعضائها. وهو يعلم في قرارة نفسه ان الحقيقة ستظهر، لأنه «لا يضاء سراج ويوضع تحت المكيال..» لذا صمت وسار كبيراً بين صغار القوم. وهو يعلم ايضاً انهم هكذا فعلوا بمعلمه عندما اقتيد لمواجهة حكم قيصر، بعد ان ادانه «الفريسيون» مسبقاً. وهو ليس افضل من سيده الذي حذر قائلاً: «سيقودونكم الى المحاكم من اجل اسمي، لكن لا تخافوا، انا معكم…».

لذا بدا جورج پيل عظيماً بين صغار القوم الذين صرخوا، كما فعلوا مع معلمه: اصلبه، اصلبه…

< اخطاء يجب التوقف عندها.

1 – الشرطة، باعتقاد اكثر من خبير قانوني، كانت مقصرة في تعاملها مع الاتهامات الموجهة من قبل شخص ادعى ان الاسقف پيل اعتدى عليه وزميل آخر (31 عاماً) ،سنة 6991، مباشرة بعد قداس يوم الاحد.

الضحية الاولى توفيت منذ سنوات نتيج لتعاطي المخدرات، لكن الرجل اعترف لوالدته قبل وفاته انه لم يجر الاعتداء عليه جنسياً، حسب شهادة الوالدة في المحكمة.

نقطة الضعف الاخرى تكمن في عدم تدقيق الشرطة في رواية المدعي الآخر ولم تشكّك في مصداقيتها، خاصة انه ادلى بتفاصيل تتناقض مع الحقيقة والواقع.

ولم تبال الشرطة بالمقابل بإنكار الكاردينال بيل للتهم الموجهة اليه جملة وتفصيلاً.

وتدرك الشرطة، كما يدرك الجسم القضائي الذي اشرف على المحاكمة، انه غالباً ما يكرّر المجرم جريمته في اكثر من مناسبة. فمن يعتدي على الاطفال «داخل الكنيسة» سوف يجد مناسبات اكثر اماناً وملاءمة لتكرار جريمته مع اطفال آخرين، الأمر الذي لم يحدث مع جورج بيل، لا قبل 6991، تاريخ الجريمة الوحيدة، ولا بعدها. وفي هذا الواقع دليل ثابت ان بيل هو بريء من التهم الموجهة اليه. وهذا ما دفع رئيسا الوزراء السابقين جون هاورد وطوني آبوت الى توجيه رسائل الى المحكمة، يمتدحان فيها خصال جورج پيل ومصداقيته، الأمر الذي سبّب لهما موجة من الانتقادات من قبل الاعلام الملحد في استراليا.

والمحكمة مقصرة ولم تحكم بالعدل، بعد ان استمعت الى 52 افادة شهود  حاولوا اثبات براءة جورج پيل بالأدلة والوقائع.

لكن القاضي وهيئة المحلفين لم يبالوا الى ان الأدلة والتهم الموجهة للكاردينال پيل كانت ضعيفة، لا بل ان وقائعها مستحيلة، اذ اهمل الاثنان كل الشهادات التي تدحض هذه التهم. فمكان وقوع الاعتداء على الطفلين ، وكيفية حصوله ومدة الاعتداء ، إن صحّت، تشير الى ان جورج پيل هو رجل مهووس جنسياً، وهذا يتناقض مع مجمل حياته الكهنوتية والعملية على مدى عقود.

لذا تطرح اسئلة حول هوية القاضي وميوله الشخصية وحقيقة شعوره وآرائه ومواقفه من الكنيسة الكاثوليكية ورجال الدين بشكل عام..

كذلك تثار التساولات حول هيئة المحلفين ومستواهم الثقافي وميولهم العقائدية، ودور المؤثرات الخارجية والضغوطات التي مورست مباشرة او خفيةً عليهم.

ولم يتردد الأب ريمون دي سوسا في تعليق له في جريدة  Catholic Weekly  من اتهام شرطة فيكتوريا، انها مارست ضغوطاً على هيئة المحلفين لإدانة جورج پيل، اذ لا يعقل ان يتفق اثنا عشرة منهم على ادانة الكاردينال پيل رغم كل الأدلة التي عرضت امامهم وهي تثبت بطلان التهم الموجهة اليه.

ويذهب الكاتب ان شرطة فيكتوريا كانت تعمل سراً منذ 4 سنوات للبحث عن اشخاص هم  على استعداد للإدعاء ان پيل اعتدى عليهم جنسياً. وشملت تحرياتهم وثائق وسجلات قديمة  وقصص اعتداءات سابقة قد تساعد في الجمع بين «ضحية محتملة مرت في حياة پيل خلال خدمته في ابرشية ملبورن».

وجاءت اتهامات پيل بعد ان نشرت المفوضية الملكية للتحقيق في الاعتداءات الجنسية على الاطفال في استراليا تقريرها النهائي الذي ورد فيه ذكر بعض الاعتداءات التاريخية داخل المؤسسات الكنسية.

فالرأي العام الاسترالي كالمؤسسات القانونية، كانت في حال من الصدمة بسبب حجم الاعتداءات على الاطفال في استراليا، بشكل عام، مع العلم ان التقرير لم يذكر شيئاً عن الاعتداءات على الاطفال من قبل رجال السياسة والقضاء وكبار المسؤولين في البلاد.  والمطلعين على هذه الخفايا، يدركون حجم هذه الاعتداءات وقوة تنظيمها، ومدى سريتها، وحتى ارتباطها بالعصابات الدولية وبعبدة الشيطان…

< النظام القضائي في فيكتوريا

عملاً بالقوانين في فيكتوريا، وفي حالات الاعتداء الجنسي، يدلي الضحية بشهادته خلال محكمة مغلقة وبالتالي فإن الجمهور لا يطلع على تفاصيلها، ولا يمكنه تقييم مصداقيتها.

في حالة جورج پيل ادلى صاحب الشكوى بشهادته امام هيئة المحلفين. فصوّتوا بالاجماع على عدم الإدانة.

في المحاكمة الثانية، لم يشهد صاحب الشكوى اطلاقاً، لكن جرى الاعتماد على سجلات شهادته الاولى بدلاً من ذلك، ويبدو ان هيئة المحلفين في المحاكمة الاولى وجدت افادته اقل مصداقية من هيئة المحلفين الثانية التي لم تقابله ابداً وجهاً لوجه.

هكذا يبدو انه جرى ادانة جورج پيل استناداً الى شهادة شاهد واحد قدم رواية «لا تصدق» ودون اية ادلة ثبوتية او تفاصيل منطقية وموضوعية.

لذا اعتقد انه سيجري تبرئة جورج پيل في حال جرى الإستئناف على هذا الحكم.

فالإساءة الى پيل قد حصلت والإساءة الى الكنيسة الكاثوليكية قد تم، وتشويه سمعة رجال الدين كان مادة دسمة لوسائل الاعلام الاسترالي والدولي.

<  معاناة الضحية والاتهامات الكاذبة للكهنة

يميل الناس الى التعاطف مع الضحية في معظم الاوقات، كون الاطفال هم مستضعفون اولاً، ويجري استغلالهم عنوة لاشباع رغبات جنسية او سادية. فالاعتداء على الاطفال هو جريمة لا اخلاقية، بغض النظر عن هوية المعتدي، ويجب بالتالي حماية الاطفال ووضع حدّ لأعمال الاعتداء عليهم، ليس فقط لأن هذه التصرفات هي لا اخلاقية وتتعارض مع كل القيم الانسانية، بل لأنها تدمر شخصية الطفل، وتقضي على طموحه ونموه الانساني الطبيعي. وغالباً ما تضع حداً لطموحه وتجعله اسير تجارب قاسية تطبع شخصيته وتحوله الى انسان عدائي،  قد يلجأ بدوره الى الاعتداء على آخرين كتعويض عن معاناته، كما تحوله الى شخص غير اجتماعي، يكره ويرفض ويحقد ولا يمانع في الحاق الأذى بمن تسببوا في عقده التاريخية. وقد لا يلام من تعرض الى الاعتداء عليه من قبل شخص كان مصدر ثقة لكنه تحول، نتيجة لما ارتكبه الى خصم والى مصدر كراهية يصعب تناسيهااو التغلب عليها دون مؤازرة اخصائيين، او خلق ظروف مؤاتية وايجابية تساعده على تناسي معاناته والتعويض عنها بنجاحات قد يراها مستحيلة في مرحلة زمنية من حياته.

لكن بالمقابل يتناسى الناس والمؤسسات والمسؤولون المعاناة التي يواجهها رجال الدين الذين يجري اتهامهم زوراً بالاعتداء على قاصرين.

فقد اظهرت احصاءات كنسية ان ثلث الاتهامات التي توجه الى رجال الدين في الولايات المتحدة هي باطلة، بينما تدعي مراجع امنية ان ما يزيد على نصف الاتهامات هي بالواقع مزورة.

فرجل الدين المتهم زوراً يعاني الأمّرين من هذه الاتهامات الباطلة. فهو يصاب اولاً بصدمة شديدة، يرغم على التخلي عن كامل المسؤوليات الموكلة اليه. يعاني من الاشاعات والتحليلات والإشاعات والتعليقات من كل حدب وصوب …

ويجد نفسه فجأة في عزلة كاملة. لا عائلة او اهل لديه. حتى السلطة الكنسية تتخلى عنه بحجة ان قضيته بيد القضاء، وعليهم جميعاً انتظار نتائج التحقيقات والمحاكم.

احد الكهنة الكاثوليك الذي اتهم زوراً في ايرلندا اعلن بعد تبرئته ان اتهامه كان بمثابة طلق ناري على جبينه. وكان يفضل الموت على استهدافه بمثل هذه الاتهامات.

لكنه استطرد قائلاً: ان المحنة التي عانى منها منحته فرصة افضل لفهم اعمق للمعاناة التي عاشها السيد المسيح ولادراك عمق تفكيره عندما قال: اذا اخطأ اخاك الانسان سبع سبعين مرة فاغفر له.

غير ان مثل هذه الاتهامات الباطلة او المحقة، لا تطال فقط صاحب العلاقة، بل تشمل بشكل ما كل الكهنة ورجال الدين، وتؤثر على صورتهم ودورهم ومصداقيتهم. وتخلق هوّة بينهم وبين ابناء رعاياهم من المؤمنين. وهذا ما يزيد من حجم المعاناة لدى رجل الدين المتهم زورا.

وغالباً ما يتخذ المجتمع موقفاً مسبقاً في حال اتهم اي كاهن. فهو يدان قبل المحاكمة. والمفهوم المعتمد «انك بريء حتى تثبت ادانتك»، نادرا ما يطبق عليه. اذ يتحوّل رجل الدين الى زانية، يرغب الجميع رميها بحجر، عند اطلاق اول اشاعة او تهمة اليه.

فلا يوجد الآن تكافؤ اخلاقي بين العذاب الذي يعاني منه ضحايا الاعتداء، وخاصة الاطفال، والشقاء الذي يعاني منه الكاهن المتهم زوراً، لأنه لا يمكن علاج الظلم عن طريق التسبّب بظلم آخر.

الحقيقة الاخرى ان اتهام الكهنة زوراً، يرافقه اتهام غير مباشر للكنيسة ولقيادتها، وتضعهم في حالة من الصمت الالزامي وعدم القدرة للدفاع عن النفس. وهذا يزيد من  معاناة الكاهن، لأنه يشعر ان التهمة الموجهة اليه تطال تبعاتها الجميع، وتتركه وحيداً في مواجهة المجتمع والنظام ووسائل الاعلام.

لذا ارتفعت مؤخراً اصوات تطالب بتأسيس جمعيات تدعم الكهنة خلال هذه المرحلة، على ان توازن بين التدابير الشرعية وحماية حقوق الطرف المتهم.

> لماذا استهداف جورج پيل؟

الآن، وقد صدر حكم بحق الكاردينال جورج پيل انطلقت موجة من التعليقات في وسائل الاعلام.

القلة الضئيلة تتساءل بموضوعية حول مصداقية الحكم، اما الاغلبية، ومعظمهم من الليسار الملحد والمؤيد لزواج المثليين وتطوير النظام التعليمي في استراليا ليتلاءم مع تشريع زواج المثليين. بدأ هؤلاء حملة خطرة تهدف بدهاء الى تشويه صورة «الكاردينال العملاق» والتشكيك بازدواجية المعايير لديه، وتزويد القراء بمعلومات وبراهين وحجج لانتقاد الكنيسة ورجالاتها.

جورج پيل عارض بشدة زواج المثليين ومنع من يجاهرون بميولهم من تقبل «سر القربان» وتمسك بالطابع المحافظ في العقيدة والممارسات، واسس مع اساقفة آخرين سداً منيعاً في وجه اختراق الكنيسة الكاثوليكية. فكان لا بد من الإطاحة به لتسهيل عملية اختراق الكنيسة وضرب تعاليمها وزعزعة مواقفها.

المقصود ليس شخص جورج پيل بالتحديد، بل الكنيسة الجمعاء. وكل ما تبشر به وتدعو المؤمنين للحفاظ عليه. فالكاردينال پيل ليس اسقف سدني وحدها، بل هو ثالث شخصية بعد قداسة البابا فرنسيس في هيكلية الكنيسة. وهنا تكمن اهمية ادانته.

فالمطلوب اذلال الكنيسة جمعاء وكشف طابع القدسية لديها، وخلق هوّة بين الاكليروس والعلمايين، وزرع بذور الشك في نفوس المؤمنين، رغم كل الانجازات والخدمات الهائلة التي قدمتها للمؤمنين والمجتمع بشكل عام دون تمييز او استغلال، عملاً بوصية المعلم. «مجاناً اخذتم فمجاناً اعطواً».

< البراءة ؟

يبقى السؤال الأخير والأهم. ماذا لو اظهرت محكمة الاستئناف براءة جورج پيل ؟ فهل سيتمكن هو او النظام القائم من اصلاح كل الاضرار التي سببتها محاكمة جورج پيل وما رافقها من اتهامات زائفة وتشويه سمعة.

وهل ستنعكس النتائج ويبدأ المواطنون بالتشكيك بمصداقية عمل النظام القضائي وبدور المؤسسات الأمنية والاعلامية عامة؟

ام يصرخ الجميع : «يحيا العدل»؟! وهل سيطالب جورج پيل بتعويضات مالية ضخمة للأضرار التي لحقت به شخصياً وبالكنيسة الكاثوليكية في استراليا والكنيسة الرسولية جمعاء؟ ام انه سيكتفي بترداد ما قاله سيده على الصليب: « يا ابتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون؟

لا شك ان استراليا تعيش اليوم ازمة مصيرية تتعلق بتحديد هويتها المستقبلية. ربما نسير نحو الدولة البوليسية التي ترغب بالتخلص من خصومها عن طريق تلفيق الاتهامات وفرض العقوبات، وازاحة مَن يعارض توجهات الطبقة الحاكمة التي يسعى اغلبيتها الى فرض الالحاد قانوناً للبلاد، لأن «الله قد مات»، وعليهم القضاء على اتباعه.

كلي ايمان ان وعود الله ستتحقق.

الكنيسة بنيت على الاضطهاد ولن تموت لأن الله معها.