بقلم بيار سمعان

الشيخ محمد بن زايد وصف الزيارة التاريخية التي قام بها قداسة البابا فرنسيس الى الإمارات، وهي الاولى من نوعها الى الخليج العربي، انها تعزز السلام والتفاهم بين اكبر ديانتين في العالم، وانها تحمل رسالة الى العالم كله، أن المنطقة العربية، مهبط الديانات السماوية الثلاث، عاش اهلها على اختلاف دياناتهم وطوائفهم في وئام وسلام على مدى قرون. ان هذه الزيارة تدعم الصورة الحقيقية للمنطقة وان ملايين البشر يؤمنون بالتعايش وينبذون العنف والتطرّف، وينفتحون على العالم ويسيرون في مسار الحضارة الانسانية.
وامتدح الشيخ محمد بن زايد قداسة البابا وفضيلة الإمام، شيخ الأزهر، احمد الطيب، الذي زار الفاتيكان اكثر من مرة وساهم في نجاح هذه الزيارة، وكان حاضراً في استقبال البابا فرنسيس ووقع معه وثيقة المؤتمر العالمي للأخوة الانسانية.
وكان قداسة البابا قد اعلن انه في توجهه الى الامارات العربية المتحدة، يذهب كأخ كي «نكتب معاً صفحة حوار ونسير معاً على دروب السلام».
وبالتزامن مع هذه الزيارة نظم «مجلس حكماء المسلمين» بمشاركة قيادات دينية وشخصيات فكرية واعلامية من مختلف دول العالم، بهدف تفعيل الحوار حول التعايش، ومواجهة الدعوات الهادفة الى «صراع الحضارات والاديان».

< رسالة لبنان
اما رسالة لبنان، البلد المثالي للتعايش رغم كل المطبات والذي وصفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني القدسك «انه اكثر من بلد. انه رسالة» الى البشرية.
هذه الرسالة عبر عنها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي شارك في استقبال البابا فرنسي وفي اعمال المؤتمر اذ قال: يجب رفع الصوت عالياً ضد الذين يستغلون الدين من اجل نشر الارهاب واشعال الحروب، مشيراً الى ان مؤتمر الأخوة الانسانية في ابو ظبي يبعث برسالة «تهز ضمائر المسؤولين عن الحروب».
وتابع الراعي قائلاً: جاء هذا المؤتمر في زمن حروب وكره وبغض وسياسات دولية لا تفكر إلا بالحروب، وان النداءات التي سمعناها وسنسمعها ستهز ضمائر المسؤولين عن الحروب ومن يستخدمون المنظمات الارهابية، وانه لا ينبغي لأحد ان يولد الحروب .
ودعا الراعي ان يعلو الصوت في الأسرة الدولية ضد المسؤولين في العالم والذين يستغلون المال والسلاح للحروب، لمراجعة سياساتهم.
واعتبر الراعي ان رمزية حضور قداسة البابا فرنسيس باسم المسيحيين ككل وشيخ الأزهر باسم المسلمين ككل، في الإمارات العربية المتحدة ، هو اكبر علامة ونداء صريح الى العالم والى ضمائر الشعوب بأسرها، انه «كفى حروب، وكفى نزاعات… فلنعش بسلام. ولن نعيش بسلام الا عندما نشعر بالأخوة، لأن الاديان تجمع ولا تفرق، اما السياسات التي تستعمل الأديان، هي التي تشوه الدين وتفقده قيمته..» فلا يوجد اي دين في العالم الا ويعلم الأخوة والتلاقي والحب..»

< زيارة السلام:
المطران بول هيندر النائب الرسولي لجنوب شبه الجزيرة العربية شدّد على اهمية هذه الزيارة والمبادرات التي تقوم بها دولة الامارات في تعزيز الحوار بين الاديان ومحاربة التشدد والارهاب. واكد ان البابا فرنسيس لطالما كان حاملاً للسلام. فتواضعه وانفتاحه يجعل من السهل عبور الحدود ومقابلة اشخاص من مختلف الديانات. ففي عام 2017، شارك في مؤتمر ديني في القاهرة ليشجع على الحوار بين الاديان وارسال رسائل قوية لتحقيق السلام والتأكيد الحازم على رفض العنف. واستشهد بقول للبابا فرنسيس ورد فيه: «دعونا نقول مرة اخرى لا لكل شكل من اشكال العنف والانتقام والكراهية التي تتم باسم الدين وباسم الله.
وامتدح المطران هيندر حكومة دولة الامارات التي تبذل قصارى جهدها للحد من اي عنف ومن جرائم الكراهية في البلاد، وذلك من خلال قوانينها وتشريعاتها، مما سيشجع ايضاً دولاً اخرى في المنطقة على ان تحذو حذوها.
ولفت الى اهمية «عام التسامح» الذي اطلقته دولة الامارات، ووصفها بالمبادرة الجديرة بالثناء، وهي صدى للتعايش السلمي بين العديد من الديانات والثقافات والجنسيات التي تعيش في الامارات، مضيفاً: اصبحنا نعيش الآن في قرية عالمية، حيث قبول الآخرين هو امر بالغ الأهمية للتعايش السلمي.
< المسيحيون في شبه الجزيرة العربية
يذكر مؤرخون عرب امثال الطبري والمقريزي وابن خلدون والمسعودي ان عدداً من تلاميذ المسيح هم من بشروا في اصقاع الجزيرة العربية. وانتشرت المسيحية العربية بعد تنصر قبائل كبيرة كلياً او جزئياً امثال قبائل تغلب وطيء وكلب وقضاعة وتنوح بالاضافة الى المناذرة الذين اسسوا المملكة العربية جنوب العراق والغساسنة، وهم مؤسسوا المملكة العربية في الاردن وجنوب سوريا والحوران، وقبائل اخرى.
عقب ظهور الاسلام في القرن السابع ، تعاون اغلب المسيحيون المشرقيون من عرب وسواهم مع الفاتحين الجدد، وتمازجوا مع ثقافتهم، فضلاً عن اعتناق قسم من هذا النسيج للدين الجديد. ويقول بعض المؤرخين ان القرآن الكريم كتب اولاً بالسريانية وهي اللغة الشائعة آنذاك.

وحافظ المسلمون على اغلب الكنائس والأديرة سالمة وسمحوا للمسيحيين حرية ممارسة شعائرهم الدينية، لا سيما ايام الدولة الأموية والعصر العباسي الاول، لكن خلال العصر العباسي الثاني وابان خلافة المتوكل على الله، تعرض المسيحيون الى الاضطهاد وسوء المعاملة، مما ادى الى اختفاء المسيحية بين القبائل العربية من جهة، وهجرة سكان المدن نحو الجبال والأماكن العصية.
وتكرّر الاضطهاد مع المماليك والعثمانيين، وصولاً الى الاخوان المسلمين والتنظيمات الارهابية الاصولية التي ظهرت مؤخراً.
ونشطت هجرة المسيحيين المشرقيين منذ القرن الثامن والتاسع عشر وتسارعت في اواخر القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين، انطلاقاً من الحرب اللبنانية وغزو العراق وصولاً الى المناخ المضطرب في مصر حتى الحرب السورية وظهور منظمة داعش.
وانتشر مسيحيو الشرق من استراليا الى اوروبا وكندا والاميركيتين الشمالية والجنوبية. الهجرة عن الوطن الأم دفعتهم الى انشاء الابرشيات والرعايا وبناء الكنائس والمؤسسات الدينية، اينما استقروا في العالم. وهذا ساعدهم للاحتفاظ على هويتهم الاصلية، ليكوّنوا ظاهرة ايمانية متماسكة في مجتمع غربي بدأ يفقد ارتباطه بالكنيسة والثقافة الايمانية المبنية على العقائد الدينية.
< مسيحيون في الإمارات
يعيش في دولة الامارات مقيمون من نحو 200 جنسية، بينهم مسيحيون يتمتعون كغيرهم بالحياة الكريمة والاحترام والمساواة، وهي قيم رسختها الدولة التي اصبحت مثالاً رائداً في التسامح والتعددية الثقافية.
ويعود وجود المسيحية في الامارات الى قرون خلت، اذ اظهرت الاكتشافات الأثرية عام 1992 وجود دير مسيحي بني في القرن السابع الميلادي في جزيرة صبر بني ياس المأهولة منذ آلاف السنين.
وبنيت حديثاً اول كنيسة في امارة ابو ظبي عام 1965 على قطعة ارض تبرعت بها الامارة وحملت اسم القديس يوسف وهي تابعة للكنيسة الكاثوليكية.
اما اول قداس احتفل به في الامارة، جرى تنظيمه في قصر الحصن عام 1958 في امارة دبي المجاورة حيث بنيت اول كنيسة تحمل اسم «القديسة مريم» عام 1967،
وقبل الخمسينات كان الكهنة يحتفلون بالذبيحة الإلهية والصلوات داخل منازل المسيحيين. وتوالى افتتاح الكنائس والمدارس المسيحية مع قيام دولة الامارات العربية عام 1971، وقدوم المزيد من المسيحيين للعمل والاقامة على ارضها،
وتحتضن الامارات اليوم كنائس في مختلف ارجائها ولشتى الطوائف المسيحية، مثل الكاثوليك والروم الارثوذكس والاقباط والارمن والسريان والانجيليين والانغليكان. ويوجد اليوم 45 كنيسة على ارض دولة الامارات العربية المتحدة.

< عام التسامح في الامارات
الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان اعلن الاسبوع الماضي ان عام 2019 سيكون «عاماً للتسامح» في البلد، وان ذلك يرسخ دولة الامارات عاصمة عالمية للتسامح، على امل ان يصبح هذا العام واقعاً مستداما، من خلال مجموعة من التشريعات السياسية الهادفة الى تعميق قيم التسامح والحوار، وقبول الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة، خصوصاً لدى الأجيال الجديدة.
واعلن الرئيس الاماراتي ان «عام التسامح» يعكس النهج الذي تبنته دولة الامارات منذ تأسيسها في ان تكون جسر تواصل وتلاقٍ بين الشعوب والثقافات، على امل خلق بيئة منفتحة وقائمة على الاحترام ونبذ التطرّف وقبول الآخر.
وسيشهد «عام التسامح» التركيز على خمسة محاور رئيسية، اولها تعميق قيم التسامح، والانفتاح على الثقافات والشعوب في المجتمع، وثانيها ترسيخ مكانة دولة الامارات عاصمة عالمية للتسامح من خلال مجموعة من المشاريع والمبادرات الكبرى والمساهمات والدراسات الاجتماعية والمتخصصة في هذا المجال. اما ثالث محور ، فيتمثل في التسامح الثقافي من خلال مجموعة من المبادرات المجتمعية والثقافية. ورابع محور، يتضمن طرح تشريعات وسياسات تهدف الى تقنين قيم التسامح الثقافي والديني والاجتماعي. وخامساً تعزيز الخطاب التسامي وتقبل الآخر «المختلف» من خلال مبادرات اعلامية هادفة.

< اهمية الزيارة
غالباً ما تتخذ رحلات بابوات الفاتيكان ابعاداً اخرى الى جانب البعد الديني، فهي ليست معزولة عن المشهد السياسي العام القائم في البلد المضيف او في العالم المجاور او البعيد.
من هذا تتخذ زيارة البابا فرنسيس الى دولة الامارات العربية، بمناسبة اعلان «عام التسامح» وانعقاد «المؤتمر العالمي للأخوة» بدعوة من الحكماء المسلمين وحضور البابا فرنسيس وإمام الأزهر والبطريرك الماروني الذي كان زار السعودية في تشرين الثاني 2017، والعديد من رجال الدين والباحثين والاعلاميين من اكثر من بلد.
كما تأتي هذه الزيارة الى منطقة الخليج العربي، بعد ان شهد الشرق الاوسط سنوات دامية جرى خلالها اضطهاد الأقليات ودفع الآلاف من المواطنين الى الرحيل او الهجرة او اللجوء الى بلد آمن خارج المنطقة. ومع تنظيم داعش والمنظمات الاصولية بدأت امكانية العيش في سلام شبه مستحيلة، وفقد الملايين الأمل بالعيش آمنين في بلادهم وقراهم. ورغم الدعوات والضغوطات التي مورست على الفاتيكان لقبول ترحيل مسيحيي الشرق الاوسط، تمسك الكرسي الرسولي بأهمية بقاء المسيحيين في اراضيهم واوطانهم وحفاظهم على ايمانهم رغم كل المخاطر.
ولا شك يعي الفاتيكان خطورة التيارات السياسية الداعية الى خلق مناخات عامة سياسية وعسكرية تدفع نحو نزاع الحضارات، يستحيل في حال اندلاعها العيش بين الناس والتمسك بمبدأ التعددية الثقافية والاثنية والدينية.
لذا تأتي زيارة قداسة البابا لتعيد بصيص الأمل الى قلوب الملايين من مختلف الديانات والمشارب، ولتجسد روح التسامح والتعايش والانفتاح، وهي احدى الركائز الاساسية التي تقوم عليها دولة الامارات العربية، والتي تسعى الى ترسيخها في دول الجوار الذي يعاني من الحروب والكراهية ورفض الآخر المختلف.
ويعرف عن البابا فرنسيس انه يدعم افكاره واقواله وتوجيهاته بالافعال . وكان قد دعا في الارجنتين عام 2012 جميع قادة الديانات السماوية (المسيحية واليهودية والاسلام) للصلاة معاً من اجل السلام، ومن اجل انهاء الصراع الدائر في الشرق الاوسط، منذ عقود.
وبعد انتخابه لشغل كرسي البابوية، دعا البابا فرنسيس لمزيد من الحوار بين الاديان وبناءالجسور ولدعم اواصر الصداقة بين الجميع، مشدداً على ضرورة التواصل حتى مع الملحدين وغير المؤمنين، كي لا تغلب الاختلافات التي تفرق بين البشر.
ولم تقتصر دعوة البابا للحوار مع المسلمين فحسب، بل امتدت الى سائر الطوائف المسيحية، وهذا ما نتج عنه، اثناء زيارته الى القاهرة عام 2017، اجتماعاً هاماً مع البابا تواضروس الثاني، بابا الكنيسة القبطية، والبابا تيودور الثاني، بطريرك الكنيسة الارثوذكسية في الاسكندرية وافريقيا.
واشتهر البابا فرنسيس بدعوته الملحة لمكافحة الفقر والقضاء على عدم المساواة، وهي امور تشترك بها معظم دول الشرق الاوسط، في غياب انظمة غير ديمقراطية وفي شيوع الأمية، وهي نتاج الفقر بالدرجة الاولى وغياب الديمقراطية العادلة بالدرجة الثانية. لذا اسس البابا فرنسيس منذ عام 2017 اليوم العالمي للفقراء، بالاضافة الى دعمه الجهود الراقية للحفاظ على البيئة، وحث اساقفة وكهنة الكنيسة ليعيشوا روح الفقر والتقشّف كما عاشها المسيح.

فهل ستدعم زيارة البابا فرنسي المرحلة الهامة التي انطلقت من دولة الامارات لكي يتحول الشرق الاوسط الى وطن يسوده الحوار والعدالة والعيش المشترك وقبول الآخر، على قاعدة ان الكرة الارضية اصبحت «ضيعة كونية» صغيرة وانه يتوجب على الناس العيش بسلام نابع من التعاليم السماوية التي توحي بالمحبة، محبة الناس لبعضهم البعض، لأنها اساسية لمحبة المؤمنين بالله، وهو لا يحتاج الى احد لكي يدافع عنه، لأن في هذا المفهوم انتقاص لألوهيته.
شكراً لدولة الامارات العربية على امل ان تتوحد رمال الصحراء العربية لتكوِّن جسداً متفاعلاً بالإيمان والتسامح وقبول الآخرين.. وعن اقتناع، كفعل ايمان جديد يردده جميع العرب، ويؤكدون انتصار التسامح والرحمة والمواطنة «العالمية».
فلا مجال للانحياز في معركة الانتصار للقيم الانسانية، بعد ان ضجّ العالم بالظلم وافتقاد القيم، والتطرّف والقتل والاغتصاب والاجحاف بحقوق الناس وحقهم بالعيش الآمن والدائم..
pierre@eltelegraph.com