بقلم مارسيل منصور

حيث أني لا أتمكن من المشاركة في خدمة مسيرة الفجرفي الذكرى المئوية للأنزاك يوم 25 نيسان/ابريل 2015 ، رأيت أن أعيش تجربة فنية وروحية خاصة في الليلة ذاتها ، شعرت عندها وكأن روح شهداء الحرب تحلق مثل الغيوم وظلال الجنود وحمائم السلام ، من وسط ثقوب الحروق البالية للخوذة الحربية التي احتفظت بها .

وبدون مقدمات وجدت نفسي مشدودة نحو تلك الخوذة العتيقة للجندي الراحل آفيرسون وقد أصبح عمرها الآن مائة عام ، وإذا تساءلت لماذا يا ترى؟ فأنا لست أدري بالضبط !… وربما كان ذلك لكوني فلسطينة المولد ، وكيف لا ؟ وأنا المهاجرة التي عاشت طفولتها وشبابها ونضجها وحصيلة عمرها وهي تعاصر آثار الحروب وتلاحق أخبار الوطن المسلوب . فقد عاصرت فعلياً اثنين من الحروب في طفولتي وشبابي ، ومازلت أذكر مناظر من وقائع جنود ودبابات وهزيع صوت قنابل تدوي في ذهني ولن تغيب عن مخيلتي … تركت غزة مسقط رأسي إلى مصر بغرض العلم ، وزرت استراليا في عام 1977 ثم هاجرت إليها في عام 1978، فأصبحت بمثابة الموطن الثاني لي ولأسرتي ، إلى أن شاءت الأقدار وعشت ومازلت أعيش في منطقة أهالي المحاربين القدامى في سيدني ، كما وعملت لمدة اثنتي عشرعاماً كموظفة إدارية في مستشفى كونكورد المتخصصة في علاج أهل المحاربين القدامى ، حيث اكتسبت معرفة ودراية بهؤلاءعن كثب . كما وأذكر واحداً منهم كان زميلي في العمل يدعى BillThorne)) ، وكان يحدثني دائماً عن قصص الحرب العالمية التي اشترك فيها ، وسألني يوماً لأرسم صورة ابنه ففعلت ، وعندما تقاعد عن العمل ، طلب المدير مني أن ألقي كلمة وداع بمناسبة تقاعده … فألقيتها بك فخر واعتزاز . أما جيراني في المنطقة فقد كان معظمهم من أرامل شهداء الحرب يتصفن بدماثة الأخلاق وجمالها .

من تلك المواقف وغيرها ، كنت دائما ً قريبة من قصص هؤلاء الذين خدموا في الحرب ، وما زلت حتى الآن أشعر دوماً بقرب المسافة بين الجروح والأوطان والبشر . وأتساءل دائماً في نفسي متى يتوقف نزيف الحرب ويبدأ ميلاد المحبة والسلام من جديد ؟ ودائماً يراودني الأمل ربما بعد حين… ربما اليوم !… ربما غداً! … ربما يوماً ستسعى الأمم !… فيما يتعلق بمسألة تحول الآلام المشتركة إلى أداة للصداقة والإخاء ، عساه يصيرقواد العالم مستعدين للتعاون في إنهاء الحروب وتحويل هذا القرن إلى قرن محبة وسلام .

كان جميع هؤلاء المحاربين القدامى من مشاركي حرب غاليبولي . وكما يعرف البعض ، أن معركة غاليبولي قد بدأت في فبراير/شباط 1915 عند محاولة أسطول بريطاني فرنسي السيطرة على مضيق الدردنيل بهدف غزو اسطنبول عاصمة تركيا أي الدولة العثمانية المتحالفة مع ألمانيا ومن ثم الدخول إلى الجزء الشمالي الشرقي . وبعد صد هجومهم في مارس/اذار، نفذ الحلفاء الهبوط في 25 نيسان/ابريل في غاليبولي . لكن بعد حرب خنادق دامية استغرقت تسعة اشهر وأسفرت عن مقتل وإصابة ألآلاف ، فكانت معركة حقيقية طاحنة تستحق أن يسجلها التاريخ .

ولأنه في هذا العام 2015 هي الذكرى المئوية لمعركة غاليبولي الضارية ، فإني أتذكر جميع الأستراليين الذين خدموا في الجيش وتوفوا في تلك الحرب ، وعلى وجه الخصوص الراحل الجندي آيفرسون الذي وجدت خوذته بين الأنقاض في الفناء الخلفي للمنزل . هذه الخوذة هي من قبل مائة عام ، أي منذ معركة غاليبولي في الحرب العالمية الأولى.

واليوم أود أن أذكر تكريم جميع هؤلاء قدامى المحاربين في الحرب العالمية الأولى ، وخاصة أسماء الذين التقيت بهم خلال اثنتي عشر عاما أثناء عملي في المستشفى . لقد التقيت بعائلة المحارب آيفرسون مرة واحدة فقط في حياتي أثناء رؤيتي لمنزلهم الذي كان معروضاً للبيع . ومع ذلك كنت متابعة تطورالحالة الصحية للسيد آيفرسون لإعطاء أخباره لأهل الجيران من أهل المحاربين القدامى الذين اعتادوا السؤال والاطمئنان عنه. وكما هو مقدر ومع مرورالزمن ، فإن كل هؤلاء الجيران قد وافتهم المنية . فأصبحت المنطقة اليوم مأهولة بسكان الأجيال الشابة … ولكن الذكريات لا تزال تسكن قلبي وتغمر كياني ، لأن أرواح الشهداء الخالدة لا تزال تعيش في العالم الأبدي .

ولذا فإن وجود هذه الخوذة في حوزتي قد أوحى إليّ باستخدامها في الفن الضوئي وشاش غزة من أجل ذكرى صاحبها بشكل خاص وجميع الجنود الذين حاربوا وسقطوا في المعركة الدموية بوجه عام . هذه الخوذة التي يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الأولى قد أصبحت في مخيلتي وكأنها رمز لروح أنزاك ، حيث تعبرعن نفوس كل هؤلاء الجنود الشهداء كدعوة للسلام وتضميد الجراح ،  وأسأل الله هنا أن يتغمد أرواحهم بواسع رحمته.
وفي هذه المناسبة ، فأنا أتذكر أيضأ جميع الجنود الذين يشاركون حاليا في الحروب حول العالم ، وبالذات البلاد الشرق أوسطية مثل العراق وسورية وغيرها ، بما فيهم الفلسطينيين المجندين دائماً من أجل الدفاع عن أوطانهم … وآمل كذلك إنهاء الحروب وأن يسود السلام في العالم . وأود أيضا أن أشيد بجميع الاستراليين الذين يحافظون على احترام الهوية الوطنية الاسترالية ، لأني في الأصل مهاجرة فلسطينية ، ولي الفخر بأن أصبحت مواطنة استرالية بمحض اختياري . كما وأني أحب استراليا وأشعر بالامتنان لهذا البلد العظيم العلماني الديموقراطي الذي احتض التعددية الثقافية والعدالة الاجتماعية ، ونصلي للرب خالقنا من أجل حمايته دائما وأبداً .

مارسيل منصور- سيدني- استراليا April 2015 25