بقلم بيار سمعان

pierre@eltelegraph.com

تتعدّد الانظمة السياسية حول العالم، غير ان اغلبية الدول تعتمد بطرق مختلفة النظام السياسي الديمقراطي كما عبر عنه خطيب الثورة الفرنسية «ميرابو» بقوله: «ان الرأى العام هو سيد المشرعين والقوة المتمسكة التي لا يقاربها في السلطة اي مستبد آخر».

فالرأي العام يعني اتجاه اغلبية آراء المواطنين الى موقف معين إزاء احدى القضايا او المسائل التي تهم المجتمع.

فهل فعلاً تتحكّم الاغلبية المطلقة في فرض القرارات وتحديد نوع النظام واقرار القوانين الملائمة لمصلحة البلدان والخير العام؟

وماذا لو وضع الناس امام خيارات محدودة وفرض عليهم الاختيار بين ما هو سيء وما هو اسوأ؟ او اعتماد تفضيل اقل الشرين سوءاً؟ او انتخاب شخص لا يعكس تطلعات وآمال وحاجات المواطنين؟ فهل تبقى آنذاك الممارسات ضمن اللعبة الديمقراطية ام ان ارادة اخرى قادرة هي من تتحكّم بالقرارات وتفرض على الناس اختيار أشخاص لا يؤيدون ضمناً ان يكونوا ممثلين للارادة الشعبية؟ ألا تحدث هذه الممارسات باستمرار في معظم الدول، عندما تتعاون القوى الخفية مع وسائل الاعلام واصحاب النفوذ السياسي لفرض اقلية حاكمة تعكس ارادة النخبة وليس ارادة الشعب. فتتعارض من جراء ذلك الممارسات الديمقراطية مع جوهر النظام والارادة الشعبية!!

< الحالة الاسترالية

لا يشكّك احد بديمقراطية النظام في استراليا وبقوانين المساءلة والمحاسبة. لكن لا يمكننا من ناحية اخرى ان نتناسى ان استراليا لا تزال تحت  وصاية العائلة المالكة في المملكة المتحدة. كما يصعب علينا ان نتجاهل ان استراليا مرتبطة مع دول اخرى، وفي طليعتها الولايات المتحدة، بمعاهدات واتفاقات دفاع مشترك كما هي مرتبطة تاريخياً وثقافياً ببريطانيا خاصة واوروبا بشكل عام، وهي ايضاً ملتزمة بقرارات الأمم المتحدة والاتفاقيات والتوصيات الصادرة عنها.

واستراليا، البلد التعددي، يتأثر ويتفاعل مع محيطه الجغرافي والبلدان المجاورة له، خاصة، مع الدول المتنامية ديموغرافياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وفي طليعتها الصين والهند واليابان واندونيسيا، وغيرها.

هذه الدول، الى جانب الاتفاقيات التي ذكرت تؤثر الى درجة كبيرة بكيفية تطبيق النظام الديمقراطي الى حد بعيد.

كما ان الموقع الجغرافي يؤثر ايضاً في الممارسات السياسية والقرارات التي تتخذها الحكومات للتعامل مع الظروف والتبدلات المرحلية. لذا تفرض المعاهدات والموقع الجغرافي مواقف سياسية، كان آخرها اقرار قوانين لحظر التدخل الخارجي ومواجهة التمدّد الصيني في المنطقة.

< حكم الأقلية في استراليا

رغم ان الاحزاب الكبرى (عمال وإئتلاف) هي من تحكّم البلاد نتيجة لممارسة حق الاقتراع من قبل  المواطنين. لكن تطرح اسئلة كثيرة حول اختيار المرشحين عن كل مقعد ودائرة انتخابية.  فهناك امثلة عديدة حول تدخل قيادة الاحزاب لفرض «مرشح ما» يتعارض مع خيارات القاعدة الشعبية. هذا النوع من الممارسات يعطل العمل الديمقراطي باسم مصلحة الحزب احياناً او تجاوباً مع ضغوطات محلية او خارجية.

الامر الآخر، وهو ما تعيشه استراليا اليوم، من جراء تعادل القوى داخل البرلمان، بين الحكومة والإئتلاف. الأمر الذي منح القلة الضئيلة من البرلمانيين المستقلين القدرة على التحكم بقرارات الحكومة وفرض شروطا ًعليها قد تعكس رغبة ومصالح الناس، او تتعارض معها.

من هنا يمكن القول ان الأقلية اليوم تتحكم بمصير الأكثرية، بغض النظر عن ايجابيات او مساوئ السلطة المحصورة بيد حوالي عشرة اشخاص في مجلسي النواب والشيوخ.

< اقلية من المثليين يعدلون قانون العائلة

يدعي مكتب الاحصاء ان حوالي 33،700 شخصاً يعيشون مع شريك مثلي، حسب احصاءات عام 2016. كما تبين ان 97،4 من الرجال يقيمون علاقات جنسية مع نساء. وحدّد 1،6 بالمئة انهم مثليون و0،9 ٪ انهم يميلون الى الجنسين في آن واحد. اي ان حوالي 2،5 بالمئة يعتبرون مثليون في علاقاتهم الجنسية.

لكن على الرغم من هذه النسبة الضئيلة داخل المجتمع الاسترالي، تمكّن هؤلاء من تعديل قوانين الزواج بعد ان ايد مطالبهم حزبا العمال والخضر وبعض المثليين في صفوف الإئتلاف. ولعبت وسائل الاعلام في استراليا دوراً بارزاً في طرح قضيتهم على انها مطلب انساني. وان حرمانهم الحقوق المدنية يتعارض مع حقوق الانسان.

وجاد الاستفتاء البريدي «المشبوه والمشكوك بمصداقيته»  ليمنحهم التأييد الشعبي.

الخطورة في هذه النتائج لا تكمن في منح هذه الأقلية حرية الحياة مع شريك يختارونه.، بل في النتائج القانونية المترتبة على قانون الزواج ومفهوم العائلة وبرامج التعليم والحريات الدينية. فدخلت العائلة التقليدية في حال الاستنفار والدفاع عن حقوق الاهل والاطفال، خاصة بعد ان طرحت افكار تتعلق بحزف الجنس عن الهوية ومنح الاطفال حرية اختيار الجنس الذي يرغبون به وإلغاء كلمة اب وام… وطرحت برامج تثقيفية بديلة تلغي كل الفروقات الجنسية، وتعيد بناء شخصية جديدة لدى اطفال استراليا، لا تلغي فقط الفروقات الجنسية بين الذكور والأناث، بل تفتح آفاقاً جديدة للتمتع بالحياة الجنسية، كل على هواه وحسب ميوله ورغبته. وهذا يعني بطريقة غير مباشرة ان مفاهيم الخير والشر، المقبول والمرفوض اخلاقياً، هي تحد من قدرة الاهالي على ابداء الرأي بما يرغبون ان يلقن اطفالهم من اخلاقيات تتعارض مع الطبيعة ومع قناعاتهم الشخصية وثقافتهم الايمانية.

وتشريع زواج المثليين قد يتسبّب بحظر الحريات العامة والدينية، باسم حماية الأقليات وعدم التمييز ضدها.

فارضاءً لميول الأقلية يجري ضرب المجتمع من الداخل من خلال تفتيت العائلة وحظر الحريات الدينية وتعديل الاعراف الاجتماعية.

وهكذا يتبين، مرة اخرى، ان الأقلية هي التي تحكم وتقرّر وتفرض شروطها، رغماً عن ارادة ورغبة الأغلبية.

< الخطر المستقبلي الذي ستواجهه استراليا.

ان ما جرى مع المجتمع المثلي يشكل بحد ذاته ظاهرة خطيرة على وحدة المجتمع في استراليا، اذ اصبح لدى كل الأقليات اليوم مثالاً يحتذى به.

فاصبح على سبيل المثال بمقدور السكان الاصليين، ان رغبوا بذلك، الحق بالمطالبة بالاستقلال عن استراليا وانشاء ولاية خاصة بهم.

كما اصبح لكل مجموعة اثنية العذر ان تطالب بحقوق اضافية لحماية مصالحها كمجموعة سكانية متمايزة.

واصبح بالإمكان المطالبة بتعدّد الزوجات او الأزواج، وبخفض سن الرشد لدى الاطفال والسماح لهم بالانخراط في ممارسات جنسية مع راشدين دون اية ملاحقة قانونية.

ولا شيء يمنع ان يطالب محبو الجنس مع الاطفال بحقوقهم، اسوة بالمثليين، بحجة انهم ولدوا مع هذه الميول، وهي غير مكتسبة.

وبدأت ترتفع اصوات بعض المسلمين تطالب بتطبيق الشريعة الاسلامية، كون النظام الديمقراطي في استراليا يتعارض مع العقيدة الاسلامية المحافظة ويحرم المسلمين من العديد من حقوقهم وحرية ممارسة الشعائر الدينية.

فهل يكون منح الأقلية المثلية حقوقاً غير مشروعة، بداية لتفتيت المجتمع الاسترالي، وتتحوّل التعددية الثقافية الى حالة من النزاعات الحضارية داخل المجتمع الواحد؟؟

< دول الشرق الاوسط تحكمها اقليات

منذ معاهدة سايكس – بيكو حتى ايامنا هذه، عملت بريطانيا وفرنسا ولاحقاً الولايات المتحدة على تقاسم منطقة الشرق الاوسط واعادت تقسيمها الى دويلات جديدة. واوجدت فيها انظمة هي بعيدة كل البعد عن الانظمة الديمقراطية.

ففي العراق تناوبت الأقلية السنية (18 ٪ من السكان) على الحكم، تارة بحجة ارتباط الحاكم بالخلافة وطوراً باسم حزب البعث.

في سوريا التي شهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية المتتالية، تمكنت الاقلية العلوية من السيطرة على السلطة  في البلاد في ظل نظام الحكم الواحد. (حزب البعث العربي السوري).

وفي دول الخليج سيطرت عائلات على النظام، تارة كمملكة وطوراً كإمارات محمية من القوى العظمى.

لبنان وحده، امتلك نظاماً يعتبر الأقرب الى الديمقراطية، غير ان الواقع التعددي الطائفي والتنوّع المذهبي انتج طبقة حاكمة تعاونت فيما بينها على تقاسم السلطة.

فاختصرت الزعامات السياسية من تمثلهم من طوائف ومذاهب، ودخلت البلاد خاصة بعد اتفاقية الطائف في نظام متعدد الرؤوس، مما ساهم في اضعاف قيام الدولة القادرة.

وتمكن حزب الله ذات القاعدة الشعبية الشيعية والتمويل والتسليح الايراني من احتكار كلمة الفصل الأخيرة في الأمور الكبرى.

فقانون المحاصصة، ووجود السلاح داخل الدول ادى الى فشل الحكم في استعادة القرارات المصيرية، فدخلت البلاد في مرحلة من التعطيل وسيادة الفساد والاهمال. اضف الى ذلك ان انسحاب الجيش السوري بعد مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري لم يلغ النفوذ السوري في لبنان، بعد ان تمكّن هذا النظام من زرع زعامات جديدة لا تمتلك البعد السياسي التاريخي، بل تمكنت من الوصول الى السلطة، مستفيدة من ولائها للنظام السابق الذي حكم لبنان طوال 30 عاماً.

ويمكن وصف النظام اللبناني على انه حكم الأقليات الطائفية في صيغة فريدة، نادراً ما تأخذ بعين الاعتبار المصلحة الوطنية وتوفير المناخ السياسي – الاجتماعي الضامن لأمن وسلامة وازدهار المواطنين.

اما مصر، فتتميّز، رغم النزاعات بين اهل السنة تيارات تفضل الحداثة واخرى تسعى الى فرض الشريعة الاسلامية.

لكن النظام بشكل عام هو مجحف بحق المصريين المسيحيين الذين غالباً ما ينظر اليهم كأهل ذمة وليس كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. هنا تلغي الأكثرية حقوق الأقلية.

للأسف، يمكن توصيف معظم البلدان الشرق اوسطية انها بعيدة عن الديمقراطية وحقوق الانسان، خاصة خلال السنوات العشر الاخيرة، وظهور موجات التطرّف الديني، وجماعات الجهاد من اجل الخلافة.

< من المستفيد؟

ان كانت الرأسمالية العالمية والدول العظمى هي المستفيدة من فرض الزعامات الموالية لها والملتزمة ببرامجها، فإن اسرائيل هي المستفيد الوحيد من حالة الفوضى والتخلّف و النزاعات العربية – العربية او الاسلامية الاسلامية.

من هنا يمكن فهم وجود اقليات تحكم الأكثرية على انه الوسيلة الأفضل لإبقاء هذه الانظمة تحت الوصاية الخارجية من جهة، وفي حالة الخوف على مصالحها ووجودها وسلطتها من جهة اخرى.

فلمن ستكون الغلبة؟ ام اننا نتجه نحو خلق المزيد من الكيانات المتنافرة والمتناحرة، لكي  تبقى اسرائيل القوة الوحيد القادرة على فرض شروطها وسياستها على دول الجوار التي انهكتها النزاعات والحروب؟؟

فمتى حكمت الأقلية يجري اضطهاد الأغلبية. والعالم يسير في هذا الاتجاه.