بقلم بيار سمعان

اتحفتنا صحيفة «السيدني مورنينغ هيرالد» بتحقيقين حول الموارنة في استراليا.

واستهدف التحقيقان رأس الكنيسة المارونية في استراليا، سيادة المطران انطوان شربل طربيه واحدى المؤسسات التعليمية الناجحة ، اعني مدرسة مار مارون – دالويتشهيل التي يئمها طلاب من مختلف الجنسيات والطوائف، بعد ان تمكنت راهبات العائلة المقدسة من تحويل دير سابق للراهبات الكرمليات، شبه المهجور ، الى صرح تعليمي تربوي.

معدا التحقيقين، كايت ماكليمونت وباتريك بيغلي اظهرا في المقالتين الكثير من الحقد والجهل والتضليل، فجاء ما كتباه ليعكس حالة الاضطراب والضغينة لديهما تجاه الموارنة في استراليا والذي يعود وجودهم الفاعل الى ما قبل عام 1860واتخذهم رئيس الوزراء الاسترالي الاسبق مانزيس قدوة يُحتذى بها، ودعا العائلات الاسترالية للتشبه بهم.. وربما هنا يكمن بيت القصيد، وبداية العقد لدىالكاتبين؟!

< كايت ماكليمونت وعقدة الموارنة

المراسلة كايت ماكليمونت التي بدأت في عام 1980 حياتها كمراسلة مع الـ ABC، تتابع سير عمل المفوضية الملكية للتحقيق في الفساد منذ عشرات السنين، ولقد تسببت لها استنتاجاتها الخاصة الكثير من الملاحقات القانونية، على خلفية تشويه سمعة اشخاص اتهمتهم بالفساد بسبب كتاباتها واستنتاجاتها المتسرعة.

تعرف كايت بدعمها لزواج المثليين، وهذه قضايا وميول شخصية لا علاقة لنا بها.

غير اننا نجد انفسنا معنيين بما نقلته عن الموارنة في استراليا، لأنها حاولة الكتابة عنهم من خلال استهداف سيادة المطران طربيه،  على خلفية ميولها الجنسية والسياسية التي طبعت شخصيتها المهنية وتؤثر على مضمون ما ورد في السيدني مورنينغ هيرالد حول سيادته وحولت نفسها الى رأس حربة لتيار سياسي يسعى الى تغيير وجه استراليا وفرض نظام جديد فيها، يقوم على الالحاد واضعاف الكنيسة الكاثوليكية بنوع خاص، مستفيدة من بعض الممارسات النافرة لدى البعض، لتصب كراهيتها على روح الممانعة لدى المسؤولين فيها. وقد يكون سيادة المطران طربيه رمزاً لهم.

< الموارنة ، الشعب العنيد

من يقرأ بين الأسطر في مقالتي كايت ماكليمونت وباتريك بيغلي يدرك ان الكاتبين يجهلان تاريخ الموارنة في استراليا ولبنان والانتشار.

الموارنة الذين بدأت هجرتهم الى استراليا  منذ ما يزيد على 150 سنة، حملوا معهم مزايا عديدة يصعب اقتلاعها، وهي الإيمان الثابت بالله، الارتباط بالجذور، محبة استراليا والعمل على انمائها وتطويرها وازدهارها. ويشددون على اهمية العائلة والحفاظ على وحدتها واستمراريتها.

لذا نجح الموارنة في استراليا على اكثر من صعيد. والجيل الاول الذي كان يجهل لغة البلاد بذل ما في وسعه لتوفير العلم والتربية والكفاءات العالية للجيل الثاني وتحول ابناء بائعي «الكشة» الى اطباء ومحامين ومدراء ورجال سياسة واعمال، حققوا معاً نجاحات لافتة، وساهموا في تحديث وتطوير المجتمع الاسترالي على اكثر من صعيد.

ربما تشعر اليوم كايت ماكليمونت ان عظمة الموارنة وانجازاتهم غير المحدودة يجعلانها تدرك كم هي محدودة وصغيرة وجاهلة. فحسن التأقلم داخل المجتمع الاسترالي لم يؤدِ الى ذوبانهم وفقدان هويتهم وايمانهم. وهي تدرك مع آخرين ان القوة المالية لديهم مقرونة بالثقافة وشدة الإيمان والتماسك والالتفاف حول كنيستهم توفر لهم القدرة على الاستمرار والتطور، والمقدرة على تدعيم نفوذهم على مختلف المستويات السياسية والدينية والاجتماعية. لذا قررت ماكليمونت استهداف رأس الكنيسة المارونية عملاً بالقول المأثور: «اضرب الراعي فتتبدّد الرعية».

لكن كايت ماكليمونت تجهل مرة اخرى ان المارونية بنيت على الاضطهاد، واستمرت بفعل التضحية، وان الموارنة معتادون على مواجهة التحديات، وتمكنوا من الحفاظ على وجودهم واستمراريتهم رغم كل المؤامرات والتحديات والتهديدات ومشاريع التصفية والتهجير والقتل، ورغم تآمر الدول الكبرى والصغرى، ورغم التقصير احياناً لدى بعض الموارنة المسؤولين. فنحن شعب نلتوي ولا ننكسر، ننحني، لكننا لا نسجد الا الى الله. لأن شعارنا هو الصليب، وحاميتنا هي سيدة لبنان وشفيعنا هو القديس شربل، ورفقا والحرديني واسطفان والدويهي والملايين من آبائنا واجدادنا القديسين الذين زرعوا كل ارض حلوا فيها نفحة من القداسة. فالاضطهاد الذي نتعرض له اليوم لم يمنع القديس شربل ان يصبح قديساً اممياً يجترح العجائب مع كل من يطلبون شفاعته حول العالم ، مهما اختفلت عقائدهم وعرقياتهم. انه، كالموارنة الملح الصالح الذي يملّح الطعام، والخميرة الجيدة التي تخمّر العجين الذي تسعين بخبث مع آخرين على افساده.

< لماذا استهداف المطران طربيه؟

لست في مرمى الدفاع عن سيادة المطران انطوان طربيه فهو قادر على ذلك، واعماله ومواقفه تشهد له بذلك.

لكن لا بد من العودة الى خلفيات الأمور لندرك حقيقة ما يجري في استراليا.

عندما انشئت الابرشية المارونية في سنة 1973 سعى المطران عبده خليفة الى اعادة جمع الموارنة الذين ارغمتهم الحاجة الى ممارسة واجباتهم الدينية في الكنائس الكاثوليكية او غير المارونية.

وعمل جاهداً على استرداد الموارنة واعادتهم الى كنيستهم وتنظيم وجودهم داخل الرعايا.

فالخطوة الاولى كانت الأصعب لاسباب عديدة. لكن التصميم على النجاح، رغم كل الصعوبات الداخلية والخارجية، وقوة الارادة والاتكال على العناية الالهية وعلى كرم الموارنة ساعدت في نشوء الابرشية المارونية التي اصبح لديها الآن عشرات الكنائس والمدارس ودور العجزة والحضانة. وتتميّز الابرشية المارونية اليوم، بقيادة المطران طربيه وتوجيهاته الحكيمة بالمزيد من الانماء والتوسع والحفاظ على الشعائر الدينية، حتى اصبحت الكنيسة المارونية الحجر الأساسي داخل الكنيسة الكاثوليكية الأم في استراليا، بفعل تماسك الموارنة وحفاظهم على ايمانهم وواجباتهم الدينية.

في حين تشهد الكنائس الغربية انخفاضاً في عدد المؤمنين الملتزمين بواجباتهم، تشهد الكنيسة المارونية، مع سائر الكنائس الشرقية اقبالاً والمزيد من الالتزام والحفاظ على الشعائر والطقوس وعلى خميرة الإيمان. لذا اصبح رجال السياسة على مختلف المستويات يتسابقون للمشاركة في مناسباتهم العامة ،الدينية والاجتماعية، نظراً للثقل المعنوي والدعم السياسي لديهم.

هذا الإرث المعنوي والتاريخي والإيماني دفع سيادة المطران طربيه، حفاظاً منه على تعاليم الكنيسة والاعراف الاجتماعية الى ان يقود حملة مناهضة لزواج المثليين، خلال مرحلة ما قبل الاستفتاء البريدي «المثير للجدل». وكان لمواقف طربيه ولرسائله المسجلة الأثر الكبير في نتائج الاستفتاء، خاصة بعد ان تعاون مع زملائه الاساقفة الشرقيين على توحيد المواقف ، واجرى حوارات متكررة مع الأخوة المسلمين الذين يجمعنا واياهم الكثير الكثير من المبادئ والاخلاقيات، انطلاقاً من وحدة العائلة وانتهاءً بوحدة الإيمان بالله.

كما شددت مواقف طربيه من عزيمة الاساقفة الكاثوليك الذين كان معظمهم ينظر الى الاستفتاء العام، على انه مجرد ممارسة ديمقراطية وعلى الشعب ان يختار ما يريد.

واقلقت نتائج الاستفتاء بال انصار الزواج المثلي، وجماعة نشر الإلحاد، والساعين الى ضرب وحدة العائلة وتعديل قانون الزواج، عندما تبين ان معظم المناطق الغربية لسدني صوّتت ضد مشروع زواج المثليين. هذه النتائج اظهرت اهمية ودور الكنيسة المارونية بقيادة طربيه. وطرح في الكواليس وداخل البرلمان اسئلة عديدة حول كيفية التعامل مع سكان هذه المناطق، وجرى مناقشة سلسلة من المخططات لتطويعهم.

من هنا يمكن فهم المقالين اللذين نشرا في السيدني مورنينغ هيرالد على انهما تصويب باتجاه المطران الديناميكي الذي تسانده كنيسة قوية ومتماسكة .

< الإطاحة بمالكولم تيرنبل، طعنة في صدر السياسة الالحادية

لا شك ان كايت ماكليمونت وما ترمز اليه قد اصيبت بصدمة عنيفة عندما تمكن المحافظون في حزب الاحرار من الإطاحة لمالكولم تيرنبل واختيار رئيس وزراء جديد محافظ وملتزم بمسيحيته. وادركت ماكليمونت ومن تمثل ان النخبة الحاكمة الجديدة قد تصبح قادرة على تفتيت ما حققته «المجموعة الخفية» التي تسعى الى دمار العائلة، وهدم الأديان وتعميم الإلحاد وافساد النشءالجديد، خاصة بعد ان دعا رئيس الوزراء سكوت موريسون الى عودة حزب الاحرار الى اصوله المحافظة كما رسمها مانزيس وتعهد بحماية الحريات الدينية دستورياً.

وكان لسيادة المطران طربيه بمؤازرة الاساقفة الشرقيين موقف واضح من مسألة الحريات الدينية، وهي حق من حقوق الانسان ومطلب جوهري للحفاظ على الإيمان في نظام تعددي.

الاسقف الماروني الشاب والمثقف والجريء والمحافظ على اسس الإيمان والمدعوم من طائفة تزداد قوة يوماً بعد يوم، يشكّل خطراً على المخطط الشيطاني المرسوم لاستراليا. لهذا جرى استهدافه في ادعاءات فارغة غير ثبتة او اسيء فهمها..

ان كايت مالكيمونت تجهل دور رجل الدين في المجتمعات الشرقية عامة والمارونية خاصة. فالاسقف هو المسؤول عن رعيته دينياً واخلاقياً واجتماعياً وسياسياً. انه المرجع والأب الروحي والمثال الأعلى، يلتف حوله الموارنة في الشدة ويلبوا نداءّه كلما دعاهم، ليس عيباً ان يجمع اسقف الموارنة الأموال من ابنائه لبناء دور عجزة ومراكز اجتماعية وكنائس جديدة. فالعشار وهب الهيكل بعضاً من ماله، والمرأة الأرملة منحت الفلس الذي تملكه. انها مسألة خيار وقرار شخصي، ولا ناقة لأحد فيه، ولا عيب ان يُقبل انسان مؤمن «الصليب على خاتم الأسقف».

لكن يبدو ان الكاتبين يخشيان عودة التعاون بين السلطتين السياسية والدينية..!! ونحن ندرك اسباب القلق لديهما.

الفرق بيننا وبين كايت ماكليمونت هو ان لدينا عائلات نعود اليها يومياً، بينما هي وامثالها تعاني من العزلة والانقطاع الاجتماعي والانقطاع عن التواصل مع الجذور. نحن لدينا جالية تدعمنا عند الحاجة، اما هي، فلديها مؤسسة اعلامية كلفتها مئات الآلاف من الدولارات، أُرغمت على تسديدها بعد خسارتها في محاكم التشهير. نحن لدينا كنائس نعود اليها لتغذية ايماننا وترسيخه. نكبر معها ونتقوّى بها كما تتنامى هي معنا وبواسطتنا. اننا جسد واحد في المسيح يسوع في كل الظروف والمحن. وهي تعيش ازمة وجودية.

< سدني التي يريدون

في شباط 2015 سئلت كايت دوكKate Doak الناشطة المتحولة جنسياً عن المدينة الاسترالية التي ترغب بالعيش فيها، نظراً لمستوى التسامح والحرية الجنسية والقبول الاجتماعي السائد فيها فردت قائلة:

«مع الأصدقاء الكثر والموجهين، والحلفاء مثل كايت مالكيمونت وكريستين فوستر و… وبوجود استوديو كامل ومليء بالناس من مؤسسات مختلفة مثل فيرفاكس، نيوز كورب والـ ABC والـ SBS، والقناة السابعة.. ومن ضمن مجموعة اوسع، أُعلم ان لدي كل الشبكات التي احتاج اليها في سدني، ليس فقط لكي ازدهر كشخص، ولكن ايضاً لكي احب الحياة بشكل عام.

اما نحن الموارنة، فلدينا الفادي المرتفع على الصليب، ولدينا ام ترعانا، وبضعة الآلاف من القديسين، على رأسهم القديس شربل ، هم قادرون على حمايتنا، ان احسنا الوفاء لإيماننا والتمسّك بعقائدنا وعاداتنا، وان احسن رجال الدين لدينا رعاية القطيع الصغير الذي يرعاه المسيح الذي وعدنا، ان ابواب الجحيم غير قادرة ان تقوى علينا. انها مسألة خيار، لأنه «لا يمكن لأجير ان يكون خادماً لسيدين. لأنه يهمل احدهما لصالح الآخر»…

علينا ان نحوّل مناطق غرب سدني بأسرها الى قوة سياسية تعمل لصالح استعادة فك اسر سدني وتحرير استراليا من التيارات الملحدة التي تدقّ ابوابنا كل يوم.

فالموارنة وسائر الكنائس الشرقية هم ملح الارض في هذه البلاد. وهم الصلة الوحيدة لكنائس العالم مع «الارض المقدسة» ورمزيتها التاريخية.

لا بد انهم سينجحون اذا تمكنوا من تحويل كل ارض يقيمون عليها الى ارض قداسة. هذه هي رسالتهم.. الأمور الاخرى مجرد تفاصيل.