سليمان بختي

«قصتي مع مي» هي قصة الرائد النهضوي والأديب المهجري أمين الريحاني (1876 – 1940) والرائدة الأديبة القديرة مي زيادة (1885 – 1941). ظهرت وقائع هذه القصة الواقعية الاستثنائية وتفاصيلها في كتاب صدر بهذا العنوان في العام 1980 عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، في 94 صفحة، أي بعد نحو 40 سنة من وفاة الريحاني، الذي كان كتب الموقف وسجّله وأعلى قيمة الحق والحقيقة وانتقد نفسه وطلب من مي زيادة الاستغفار معترفاً.

ينفرد الكتاب في نوعه باعتباره وثيقة تاريخية واجتماعية وإبداعية وانسانية وحضارية. وثيقة الزمن الصعب والألم والموقف. فمي زيادة، التي كان يتحلق حولها وفي صالونها الأدبي في القاهرة كبار الأدباء والمفكرين أمثال عباس محمود العقاد ولطفي السيد ومصطفى لطفي المنفلوطي وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي وابرهيم المازني وغيرهم، عرفت في أيامها الاخيرة ظروفاً صحية واجتماعية صعبة؛ عرفت الجانب المظلم من الحياة، فاقتادها أهلها في لبنان الى مستشقى الامراض العقلية. جرحتها الأيام وتطاولت عليها الأقلام لتروي الفضيحة وتبالغ في رسم التفاصيل، واحياناً في اختلاقها. حتى الريحاني نفسه أسقط يده وتخلى عن مي، لكنه في بداية كتابه يعترف بالذنب: «عليّ ان أعترف بذنبي». ويعزو السبب في تقصيره بواجب الزمالة والحب والصداقة على ما يقول، إلى انه صدّق الشائعات وآثر الانكفاء. لكن شعوره بالذنب تجاه قصة مي، بل قضية مي، دفعه الى تأنيب الضمير والألم.

أسمعه يبوح بأدب الاعتراف الانساني: «أقف في بعض الاحايين مفكراً في تقاعدي عن الواجب المألوف فيزعجني الفكر ويؤلمني». لكن، كيف يتطور الموقف لدى الريحاني في قلبه وفكره وحتى في لاوعيه؟: «نهضت من سريري وأسم مي يتردد في قلبي وذكريات مي تتزاحم في ذهني». هذا الاحساس بالذنب دفعه الى الموقف وخصوصاً الوعي بقيمة مي زيادة وانتاجها الأدبي: «شخصية مي وعبقريتها وأدبها تملأ نفسي». سكنه هذا الشعور بالذنب فكيف يبدده؟

عائداً من الولايات المتحدة، ذهب مباشرة ليسأل عنها وعرف انها في مستشفى نقولا ربيز في شارع كليمنصو ببيروت فحسم امره على عيادتها. زارها في أواخر كانون الاول 1937 لكنها رفضت لقاءه. عرف ردّ الفعل منها مباشرة.

ما كانت مي تتصور ان الاستاذ «كما كانت تناديه»، أمين الريحاني يتخلى عنها. فوصف تلك اللحظة القاسية: «عندما رأتني مي، سارعت الى تغطية زندها. ثم رفعت الغطاء الى ما فوق عنقها، وأشاحت بوجهها عني». لم يستسلم الريحاني لردّ الفعل، وإن تفهمه. بعد نصف ساعة من المحاولات لم ير فيها غير «سكوت هائل تتخلله نظرات حدة قاسية حزينة». أضاف: «خرجت من الغرفة قائلاً لا أرضى بهذا السكوت، سأعود».

عرفت مي معنى الكآبة وعمقها وكتبت في كتابها «ابتسامات ودموع» تصفها: «الكآبة ختامة شعور الانسان إزاء الجمال والقباحة والخير والشر والعدل والظلم والكره والحب والفوز الخذلان. أهي ناتجة من شعور المرء بضعفه حيال قوة العالم وبعجزه عن تحويل الاشياء عن مجراها». عرفت ان الصديق هو الموقف، وشهدت تخلي الجميع عنها، وكيف لم يرحمها أحد او يساعدها في الخروج من مستشفى الامراض العقلية. على رغم ذلك، لم يفقد الريحاني الأمل، فعاود الزيارة بعد 3 أيام مدفوعاً بأمل أن تكسر مي الصمت وتمدّ بساط العتب. بالفعل كسرت مي جدار الصمت بينها وبين الأمين، وقالت له: «انه كان هناك عندما جيء بها من مصر، وكان هناك عندما نقلوها الى العصفورية، وكان هناك أثناء وجودها في هذه الجحيم». وأضافت على طريقتها: «آه يا أستاذ. كم مرة فكرت فيك وأنا ناقمة خانقة. أيصدّق الاستاذ الريحاني ما يصدّقه الناس ولم يجئ بنفسه ليرى تعذيبي. وهذا سبب نقمتي عليك». وكيف احتملت كل ذلك؟ سألها: «وآه يا بيروت؟ كيف احتملت ان أجتاز شوارعك في ذلك الموكب المشين الأليم؟ كيف احتملت مي الدموع التي سكبتها في تلك السيارة وأنا بين ذلك الطبيب وتلك الممرضة أشعر بوحدة رهيبة في الدنيا وأرى القدر المروّع المعدّ لي دون ان أدري لماذا؟ ويجزع أمين الريحاني لمَ أنت هنا؟ لمَ لا تنهضين فترتدين ثيابك وتخرجين من المستشفى؟ قالت: «الى أين أذهب بلا مال لديّ؟ وكيف أخرج من المستشفى والحجْر عليّ؟ أنا مقيدة يا أستاذ. قيّدوني. حجزوا مالي. نهبوا بيتي. ورشحوا أنفسهم ليرثوني». وقع ذلك في قلبه موقع الندى اذ يحيي النبات او ينعش الوردة، وموقع السيف اذ يقطع كل ماثل الى غير حقيقته.

ذهب الى القنصل المصري، باعتبار مي مصرية الجنسية وعاد الى المستشفى ثانية ليبشرها بقرب الإفراج. ولكن دون ذلك اهوال بسبب موقف قريبها السيد يوسف زياده وتدخله معارضاً ومعرقلاً ادارياً وقانونياً لمصلحته الخاصة. لم يفت كل ذلك عضده وهو الثائر الجريء المصلح، ولبث يحاول ويسعى ويذلل ويدبج الرسائل حتى تاريخ 22 كانون الثاني 1938 وكان قرار المدّعي العام اللبناني السماح بخروجها من مستشفى ربيز الى مستشفى الجامعة الاميركية، ومنه الى بيتها الخاص بعد تقرير لجنة الاطباء المنشور في الصحف يوم 10 آذار 1938. نذكر انه في 22 آذار من السنة عينها ألقت مي زيادة في الجامعة الاميركية في بيروت محاضرتها الشهيرة «رسالة الأديب»، وصفقت لها بيروت وقوفاً وإعجاباً وتقديراً.

خرجت مي زيادة الى بيتها وفضائها الدافئ الحميم وزارها في بيتها في شارع السادات في رأس بيروت، فؤاد سليمان وعبدالله قبرصي بتكليف من زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده، وقد حملا اليها الزهور، فبادرتهما، كما أخبرني بذلك عبدالله قبرصي (رحمه الله) عندما فتحت الباب بعبارة: «أهلاً وسهلاً بأزهار الأدب».

والحال ان مي زيادة بعد رحلة العذاب في بلادها، وبعد العلاقات الوثيقة التي نسجتها مع أدباء عصرها، ومنهم علاقتها مع جبران ورسائلهما المشتركة الرائعة (علاقة دامت لأكثر من عقدين)، لم يكن أحد، والحق يقال، مثل أمين الريحاني بصدقه وصراحته ونبله وتقديم المعذرة لها، وكتابة ذلك للأيام وللأجيال وللتاريخ.

كتابة راقية ونادرة في أدب البوح والسيرة وحقيقة العلاقات بين الأدباء في ذلك الزمن. ما يبرر صدق الريحاني انه لم يكتب ذلك ليضيف الى رصيده الأدبي او بهدف الشهرة، وقد طبقت شهرته الآفاق مشرقها ومغربها، ولا ليضيف الى سجله بطولات، هو الذي لم يكن يهاب سلطات الانتداب (قبض عليه وكان مصيره النفي) ولا سلطة رجال الدين الذين انزلوا به الحرم. كتب الريحاني قصته مع مي ليحسم مسألة عالقة في ضميره. وقد جمع فيها ما استطاع من معلومات وتفاصيل وخطابات ورسائل وتقارير طبية، وكأنه ملف او مرجع موثّق للفترة الاخيرة من حياة مي في المستشفى او حتى ما تبقى لها من حياة.

كان أمين الريحاني أيقونة الصداقة الحقيقية والضوء النحيل الذي صار يقوى وينمو ويشتد على نسغ الحقيقة. بشجاعة كتب، وبجرأة وقف وحمل الصخرة عن الجميع حتى لا تضيق الارض، ومن أجل أن تبقى خيوط الصداقة متينة وخالدة في سجل الادب وتاريخه.

«قصتي مع مي» كتاب يتجلى خارج كل تقليد او إطار او تاريخ. كتاب هو شريط وثائقي حي يعكس سبل التلاقي بين أمين ومي حول الكلمة والانسان ولبنان والثقافة العربية. لعله ايضا نص يمكن مسرحته برؤيا اخراجية جديدة للسنوات الاخيرة من حياة أمين ومي. هذا الكتاب تاريخه فيه، وفي ما يحمل من قيم ونبل واخلاق وعشق يذوّب في الالم جرح الوجود النازف، وفي رفع الظلم عن الآخر، وهي قضية كل انسان حر، وفي الصداقة الحقة التي هي أكبر من الحياة، وفي الحرية التي هي صنو كل إبداع انساني أصيل.