بقلم بيار سمعان

بعد «وثيقة الوفاق الوطني» الصادرة عن اتفاقية الطائف. اعتبر بعض الموارنة ان رئاسة الجمهورية فقدت العديد من الصلاحيات، وتحول رئيس الجمهورية الى رئيس تشريفات وكاتب عدل. بينما اكتسب رئيس الوزراء (السني) المزيد من الصلاحيات  واحكم رئيس مجلس النواب (الشيعي) سيطرته على البرلمان.

قد تكون هذه المآخذ لديها بعض الصحة. لكن ما يتمناه المواطنون هو ان تعمل الدولة كماكينة متكاملة ويستتب الامن والازدهار في البلاد. لأن الممارسات الميدانية تختلف جذرياً عن النصوص القانونية في بلد معقد للغاية، مثل لبنان،لا يزال يبحث عن صيغة متكاملة تحفظ حقوق جميع المواطنين وتعاملهم بالمساواة، ولا يحتكر فيها رجال السياسة الاستئثار بتمثيل الطوائف والمذاهب  واستغلال مراكزهم على حساب مصلحة الشعب. فتلغى المقولات الدارجة : «اذا كان البيك بخير، فنحن بخير، والوطن بخير…»

وانا لست هنا لادافع عن صلاحيات رئاسة الجمهورية، بل لأتساءل مع العديد من اللبنانيين: هل يعيش الوطن فعلاً حسب الأصول الديمقراطية، ام ان عملية تأليف الحكومات في لبنان هي مغالطة كبيرة تتعارض مع الممارسات والمفاهيم الديمقراطية، وتضرب بالتالي الصلاحيات الممنوحة لرئيس الوزراء المكلف لاختيار اعضاء حكومته؟؟

< تأليف الحكومات في لبنان

يحق لرئيس الجمهورية اللبنانية، عملاً باتفاقية الطائف، ان يعين رئيس الوزراء الذي يختاره ويطلب اليه تأليف الحكومة.

فالقرار الأخير هو لرئيس الجمهورية في اختيار من يؤلف حكومته دون سواه. من هنا يمكن اعتبار ان «الاستشارات النيابية» هي مجرد عمل فولكلوري، ومناسبة لاطلالة اعلامية للنواب ولزيارة «قصر بعبدا» واطلاق البيانات وطرح التصورات والمزايدات والشروط كما يراها كل فريق… هذه الاستشارات اصبحت تقليداً في مجتمع تتحكّم فيه الاعراف والتقاليد على كل مفارق الحياة اليومية، رغم ان هذا التقليد لا يقدم او يؤخر في عملية تأليف الحكومة.

فرئيس الجمهورية قادر على اختيار من يشاء، حسب رؤيته السياسة، ولا يصعب عليه، ان اراد الالتزام بمبدأ التمثيل الشعبي، ان يعرف من هي الشخصية السنية الأكثر تمثيلاً للقاعدة الشعبية او القادرة على التعاون معه من اجل الخير العام.

لذا يمكن اعتبار الاستشارات انها مجرد مضيعة للوقت. ولا تفيد بأي مقدار في عملية تأليف الحكومة. وهي من صلاحيات رئيس الوزراء المكلف الذي يفترض به اختيار الطاقم الوزاري القادر على تنفيذ البرنامج الوزاري والانسجام معه خلال الصلاحيات التنفيذية للحكم.

< صلاحيات رئاسة الوزراء «المقيدة»

من الناحية الديمقراطية المبدئية، انه من حق وصلاحيات رئيس الوزراء ان يختار اعضاء حكومته، بغض النظر عن الاعتبارات والاحجام والكتل والاحزاب والطوائف. كما يحق له اختيار اعضاء حكومته من خارج البرلمان، على ان يضع الشخص المناسب في المكان الملائم. وهذا ما يعرف بحكومة «التكنوقراط» . وعلى البرلمان ان يسائل ويحاسب هذه الحكومة ويراقب عملها بتجرد وموضوعية وشفافية…

لكن الواقع يفرض للأسف الشديد معايير اخرى تتناقض مع المبادئ والقوانين. ومبدأ المحاصصة يحدد مسار الدولة.

فبعد الاستشارات النيابية التي يقوم بها رئيس البلاد، تنطلق استشارات اخرى يجريها رئيس الوزراء «الموكل» لمعرفة اقتراحات وشروط الكتل والاحزاب. وغالباً ما تدوم هذه الاستشارات الاولية بضعة ايام، يقوم على اثرها الرئيس الموكل بالتشاور مع المكونات السياسية والتحاور مع رئاسة الجمهورية ومع رئيس مجلس النواب وسائر الاحزاب والكتل السياسية.

ويرى البعض ان هذه الممارسات هي تعبير مثالي لاحترام المكونات الاجتماعية في البلاد. وقد يكون هذا صحيحاً اذا ما منحت الكلمة الاخيرة لرئيس الوزراء الموكل ليقول كلمة الفصل في تأليف الحكومة.

< مصالح الكتل اهم من الوطن

الواقع الديمغرافي ووجود تكتلات سياسية متناحرة لا يعقد فقط مهمة تأليف الحكومة، بل يضرب في الصميم الروح الديمقراطية والصلاحيات الممنوحة لرئيس الوزراء. وتتحوّل المهام لديه، بعد ان يتحول كل زعيم الى رئيس كتلة ام ممثل لها، انطلاقاً من رئيس الجمهورية الذي يطالب بحصته كأي فريق آخر فاعل على الساحة اللبنانية، وصولاً الى اصغر كتلة او مذهب بهدف الحصول على دور لها في الحكومة.

نظراً لهذا الواقع، تصبح عملية تأليف الحكومة هي مجرد محاولة لتوزيع المغانم والحصص بين الطوائف والاحزاب والكتل وغالباً ما تغيب المصلحة الوطنية العليا في «عجقة» النزاع على المكاسب.

< الخلاف على المغانم

ما نشهده اليوم من عراقيل يواجهها الرئيس سعد الحريري لتأليف حكومة العهد الثانية يمكن فهمه انه نزاع على السلطة والمغانم والحصص. فالحديث عن الحقائب السيادية والخدماتية هو تعبير آخر  «مجمّل» لوضع اليد على القرار والاستفادة من الخيرات. وقد كشفت المعلومات الاخيرة حجم الاموال العامة التي نهبت طوال السنوات العشر الماضية. وكلما افتقر الشعب زادت ثروات الطبقة الحاكمة، وكلما ارتفعت الديون العامة، يفهم ان حجم السرقات قد ارتفع.

ورغم ظهور بوادر يقظة لدى الناخبين في لبنان، لا يزال التزلم والولاء والانتساب الحزبي  والمذهبي يحدّد نتائج الانتخابات. فالشعب ينسى بسهولة عندما يلعب السياسيون على الوتر الطائفي ونبش قبور الماضي.

ومهما كانت صلاحيات الرؤساء الثلاثة فإنهم مقيدون داخلياً بالواقع الاجتماعي الطائفي ومكبلون خارجياً بالالتزامات والتفاهمات الجانبية التي يعقدونها لحماية مراكزهم ومصالحم.

وفي اجواء التناقضات يبقى الوطن والشعب هما الخاسر الأكبر.

< الحكومة والاستحقاقات الكبرى

في ظل النزاعات الداخلية على السلطة والمغانم. يجب الا يتجاهل الحكم في لبنان الاستحقاقات والمخاطر الكبرى التي يواجهها الوطن، وهي التالية:

– الوضع السائد في سوريا واحتمالات اعادة ترسيم المنطقة بأسرها. وهذا يتطلب دون شك المزيد من اللحمة الداخلية والتغاضي عن المصالح الأنانية من قبل كل الاطراف.

– «صفقة القرن» التي يبدو انها اصبحت على نار حامية. وتقضي بنقل فلسطينيي غزة الى سيناء، بعد ان وافقت مصر على منحهم ارض بديلة برعاية سعودية – اماراتية ورضى اردني قسري خوفاً علىالنظام ومستقبل العرش، وعجز بارز من قبل القيادة الفلسطينية وتهميش عباس مقابل تعاون دحلان.

وفي حال تمت هذه الصفقة، تتحول القضية الفلسطينية الى ضرب من الماضي، وتنتهي مقولة حق العودة. ويرغم لبنان على التعامل مع ما يزيد على 500 الف فلسطيني من منطلقات جديدة. وبالامس عرض كوشنير ، صهر الرئيس الاميركي ترامب على الدولة اللبنانية بواسطة العاهل الاردني استعداد بلاده دفع مئة مليار دولار مقابل منح الفلسطينيين الجنسية اللبنانية.

< اللاجئون السوريون

لم يعد خافياً ان النظام في سوريا لا يرغب بعودة اللاجئين السوريين لاسباب طائفية مذهبية بحتة. كما اعرب المجتمع الدولي، خاصة الاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة انهما  يفضلان  اقامة اللاجئين السوريين داخل البلدان التي لجأوا اليها (لبنان، الاردن وتركيا). فاوروبا لم تعد ترحب باللاجئين العرب والافارقة وتفضل معالجة مصيرهم على حساب دول اخرى، مقابل مساعدات مالية واغراءات اقتصادية. اما الأمم المتحدة فهي ترعى بشكل غير مباشر عملية اعادة ترسيم منطقة الشرق الاوسط على اسس جديدة.

الرئيس الاميركي ترامب ملتزم بمصالح اسرائيل وحماية وجودها. فهي تخطط وهو ينفذ دون تردد.

وحيال هذا الواقع يعاني لبنان من خطر الانهيار اقتصادياً. ويخشى ان يعمد الحكم معالجة الازمة الاقتصادية مقابل توطين اللاجئين السوريين.

فالاصوات التي ترتفع حول ارغامهم على العودة الى سوريا هي مجرد محاولات لرفع سقف المفاوضات والحصول على المزيد من المساعدات المالية.

فتأليف حكومة الرئيس الحريري والخلاف على المغانم يشكل تهديداً مباشراً على مستقبل الوطن وخسارة استقلاليته وضرب تركيبته الاجتماعية، والتأسيس بالتالي الى موجة جديدة من الاضطرابات التي لا يعرف نتائجها وآثارها على الوطن المستضعف.

فهل يمتلك لبنان تصوراً ما لمواجهة تداعيات شطب القضية الفلسطينية واجماعاً وطنياً على معالجة الوجود السوري على ارضه، وكيفية مواجهة الازمة الاقتصادية دون بيع الوطن.  ويجب ألا نتناسى الخلاف مع اسرائيل حول حق استخراج الغاز الطبيعي من مياهه الاقليمية؟

حيال هذه القضايا الشائكة، لا بد ان يلجأ اللبنانيون الى تذليل كل العقد لتأليف حكومة وحدة، بغض النظر عن الحسابات الضيقة ومساعي السرقة المبرمجة والتخطيط للرئاسة الاولى وخوض معركتها اليوم لقطف ثمارها بعد سنوات. فلبنان هو اهم واكبر من السياسيين فيه وهو ليس ملكاً لهم وليس معروضاً للبيع.

انه ارض وقف يجب الحفاظ عليه برموش العيون.