ديفيد روبسون صحفي

لا تتحدث السطور المقبلة عن مغنين أو موسيقيين مثل المغني والموسيقي وكاتب الأغنيات الأمريكي، باري وايت، لكنها تتناول ما خَلُصتْ إليه بعض الدراسات، من نتائج كشفت النقاب عن الكيفية التي تتحول بها الأصوات النسائية في بعض دول العالم لتصبح أكثر عمقاً.

إذا استمعت لبرامج إذاعيةٍ تعود لعقديْ الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ستلاحظ بعض الاختلافات المدهشة بين الطريقة التي كان يتحدث بها الناس آنذاك، وتلك التي نعبر بواسطتها عن أنفسنا في الوقت الحاضر.

ويتمثل التغيير الأبرز الذي يمكن للأذن رصده في هذا الشأن؛ في اللهجات التي يتم التحدث بها. فاللغات ليست كياناتٍ جامدةً، وإنما ديناميكية ومُفعمة بالحيوية؛ تتفاعل مع ما حولها وتتطور لتلائم الصيحات التي تسود كل عصرٍ من العصور، وهو ما يسفر عن حدوث تبدلاتٍ وتحولاتٍ في طريقة نطق الألفاظ والحروف.

إذا أخذنا المملكة المتحدة كمثال، سنجد أن ثمة تراجعاً في الوقت الحالي، في عدد من يتحدثون اللغة الإنجليزية باللكنة البريطانية الكلاسيكية، تلك التي تتحدث بها الطبقة العليا في البلاد، والتي يصفها البعض بالإنجليزية الراقية التي تعلمها أصحابها في جنوب إنجلترا.

حتى صوت الملكة إليزابيث الثانية لم تعد تتبدى فيه الحروف المتحركة في اللغة الإنجليزية، بالقدر الكبير نفسه من الصفاء والقوة والوضوح، الذي كان عليه خلال شبابها. ويُعتقد أن ذلك يعكس تغييراً شاملاً ذا طبيعةٍ أكثر عمومية، شهدته التراتبيات الهرمية في المجتمع البريطاني، ما أحدث ضرباً من التلاقح اللغوي بين الطبقات، وصل حتى إلى صاحبة الجلالة.

لكن ما إن تتجاوز مسألة التغير في اللهجات هذه، فستجد نفسك بصدد تحولٍ اجتماعيٍ آخر يعكس نفسه في أصواتنا، ويتمثل في كون النسوة يتحدثن في الوقت الراهن بطبقة صوتٍ أكثر عمقاً من تلك التي استخدمتها أمهاتهن أو جداتهن، وذلك بفعل تبدل وتغير الآليات التي تحكم علاقات القوة والسلطة بين الرجال والنساء.

وقد عكفت الباحثة سيسليا بمبرتون من جامعة «جنوب استراليا» على دراسة أصوات مجموعتين من النسوة الاستراليات تتراوح أعمارهن ما بين 18 و25 عاماً. وفي هذا الإطار، قارن الباحثون بين تسجيلاتٍ أرشيفية أُعْدِتْ في عام 1945 لنسوةٍ عشِن في تلك الفترة، وأخرى أحدث عهداً سُجِلتْ في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

ووجد الفريق البحثي أن ما يُعرف بـ»التردد الأساسي»، هوى بواقع 23 هرتز خلال خمسة عقود، مما متوسطه 229 هرتز إلى 206 هرتز. ويشكل ذلك فارقاً كبيراً، يمكن للأذن تمييزه بوضوح.

وحرص الباحثون على اختيار أفراد العينة بعناية، للتحكم في أي عوامل ديموغرافية محتملة قد تؤثر على نتائج الدراسة. فقد كانت النسوة جميعاً طالباتٍ في الجامعة، ومن غير المدخنات.

كما وضع الفريق البحثي في الاعتبار حقيقة أن بعضاً من أفراد العينة الأحدث عهداً، ممن سُجِلَتْ أصواتهن في تسعينيات القرن العشرين، يتناولن حبوب منع الحمل، وهو ما يمكن أن يكون قد أدى إلى حدوث تغييرات هرمونية، ربما نجم عنها بدورها تغيرٌ وتبدلٌ في طبيعة الحبال الصوتية. لكن استبعاد النسوة اللواتي يستخدمن هذه الحبوب من العينة البحثية، لم يؤثر على النتائج التي أشارت إلى حدوث انخفاضٍ كبيرٍ في مستوى طبقة صوت المبحوثات.

وتكهن الباحثون بأن هذا التحول في مستوى الصوت، يعكس ارتقاء النساء للاضطلاع بأدوار مرموقة بشكلٍ أكبر في المجتمع، ما يحدو بهن إلى تبني طبقة صوتية أعمق، لإبراز سيطرتهن وهيمنتهن في أماكن العمل.

وسبق أن وظّفت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر خبيراً مهنياً متخصصاً في التدريب الصوتي، لمساعدتها على جعل تصريحاتها وخطاباتها ذات طابعٍ آمرٍ على نحوٍ أكبر، وهو ما تضمن خفض حدة صوتها – بشكل متعمد – بقدرٍ هائلٍ يصل إلى 60 هرتز.

ورغم أن غالبيتنا ربما لن يمضوا إلى هذا الحد البعيد في تغيير طبقة الصوت أو مستوى حدته، فإن دراسة أُجريت حديثاً تُظهر أننا نُعَدِّل – تلقائياً – هذه الطبقة أو ذلك المستوى للتعبير عن المكانة الاجتماعية التي نفترض أننا ننتمي إليها.

وفي إحدى التجارب، طلبت الباحثة «جوي تشينغ» من جامعة إيلينوي بمنطقة أربانا – تشامباين في الولايات المتحدة من مجموعاتٍ، يتراوح عدد كلٍ منها مما بين أربعة وسبعة أشخاص، الاضطلاع بعملية اتخاذ قرارٍ غير تقليدية، تتضمن تصنيف المستلزمات التي سيحتاجها أي رائد فضاء للنجاة بنفسه من كارثةٍ تحدث على سطح القمر.

وفي نهاية التجربة، طلبت الباحثة كذلك من كل من أفراد العينة، أن يعبر عن رؤيته (سراً وبشكلٍ شخصيٍ) بشأن ترتيب أعضاء المجموعة التي ينتمي إليها من حيث الأهمية، وأن يحدد مدى الهيمنة والسيطرة التي يحظى بها كلٌ من هؤلاء الأعضاء.

ونظراً لأنها سجلت النقاشات التي دارت بين أعضاء هذه المجموعات خلال اضطلاعهم بالمهمة الأساسية التي أُوكِلتْ إليهم، وجدت الباحثة أن غالبية هؤلاء الأشخاص سارعوا بتغيير طبقة أصواتهم ومستوى حدتها، خلال الدقائق الأولى من النقاش مع الآخرين، وهي تغييرات أنبأت بالتصنيف الذي مُنح لهم لاحقاً بين أفراد مجموعتهم.

فقد أشارت النتائج إلى أن من قاموا بخفض طبقة أصواتهم وحدتها – رجالاً كانوا أم نساءً – صُنِفوا في نهاية المطاف على أنهم ذوو مكانةٍ اجتماعيةٍ أعلى. كما اعْتُبِرَ أنهم أكثر هيمنةً وسيطرةً على مجموعتهم. في المقابل، فإن من رفعوا طبقة أصواتهم، نُظِرَ إليهم على أنهم أكثر انقياداً وإذعاناً، وأقل من حيث المكانة الاجتماعية.

وتقول تشينغ في هذا الصدد: «كان بوسعك – بناءً على (تقييمك) لهذه اللحظات الأولى فحسب – التنبؤ بما حدث للمجموعة، فيما يتعلق بترتيب أهمية أفرادها».

ويُمثل تغيير مستوى الصوت وطبقته – كما تقول تشينغ – أسلوباً شائعاً في الطبيعة، في ضوء أن العديد من الحيوانات المنتمية إلى رتبة الرئيسيات – بدءاً من قردةٍ المكاك الريسوسي وصولاً إلى قردة الشمبانزي؛ أقرب الكائنات الحية لنا من الوجهة الإحيائية – تُخفض طبقات أصواتها خلال الشجار والمشاحنات.

وتقول الباحثة إن هذا السلوك من جانب حيوانٍ ما يشكل إشارةً منه إلى الحيوانات الأخرى، تفيد بأنه «مستعدٌ للقتال وحماية موارده، لتأكيد مكانته».

المفارقة أن المفاهيم نفسها انطبقت بوضوح على بني البشر ممن خفضوا أصواتهم بدورهم. فحسبما تقول تشينغ: «صُنِّفَ هؤلاء من قبل الآخرين، على أنهم ذوو نزعةٍ استبداديةٍ أكبر، وأنهم كذلك أكثر استعداداً لفرض إرادتهم» على من حولهم.

ومضت الباحثة بالقول: «وكدلالة على ذلك، كان هؤلاء الأشخاص قادرين على استقطاب مزيدٍ من التأثير واتخاذ القرارات بالنيابة عن المجموعة» التي ينتمون إليها.

وبكل تأكيد، تتسق الاستخلاصات التي وصلت إليها تشينغ، مع فرضية بمبرتون بأن تحقيق المساواة بشكلٍ أكبر بين الجنسين، يفسر التغير الذي طرأ – خلال عقودٍ طويلة – على أصوات أولئك النسوة الاستراليات اللواتي خضعن للدراسة، وهو نمطٌ يتم تسجيله ورصده حالياً في السويد والولايات المتحدة وكندا.

وهكذا، يبدو أن النسوة تُعدّلنّ أصواتهن – بوعيٍ أو غير وعي – لتتلاءم وتتناسب مع الفرص المتاحة لهن في الوقت الراهن.

ومن المثير للاهتمام كذلك، أن التأثير الذي يلحق بطبقة الصوت بفعل إحساس المرء بأنه يحظى بالهيمنة والسيطرة، يمكن رصده أيضاً وتمييزه، إذا ما قارنت الطبقات الصوتية التي تتحدث بها نسوةٌ من دولٍ مختلفة.

فعلى سبيل المثال، تتحدث النسوة الهولنديات باستمرارٍ بأصواتٍ أعمق من نظيراتهن اليابانيات. ويبدو ذلك مرتبطاً بصورٍ نمطيةٍ سائدة بشأن العلاقة بين الجنسين في ثقافاتٍ مختلفةٍ في العالم. من قبيل تصوير هذه العلاقة على أنها مثلاً تتمحور حول استقلالية المرأة في مقابل ضعفها واعتمادها على الجنس الآخر. (وهو ضربٌ من التفاوت يتمثل كذلك في وجود فجوةٍ أكبر في الأجور بين الرجال والنساء في اليابان).

لكن تشينغ تشير كذلك إلى أن التحولات التي تحدث في الطبقات الصوتية، ربما لا تشكل على الدوام ميزةً بالنسبة للنساء، حتى في دولٍ يشكل فيها التحدث بصوتٍ أعمق في الوقت الراهن، أمراً شائعاً على نحوٍ أكبر.

وتقول الباحثة في هذا الشأن إنه قد يكون هناك تأثيرٌ غير مرغوبٍ فيه أو مخططٍ له، ينجم عن لجوء النسوة للأصوات الأكثر انخفاضاً – ولغير ذلك من السلوكياتٍ ذات السمت الآمر الحازم بوجهٍ عام – حتى وإن كانت تلك الأساليب تمثل بالنسبة للنساء وللرجال كذلك إشارةً على نحوٍ فعال إلى القوة والسلطة اللتين يحظى بهما هؤلاء وتأكيداً لذلك المعنى أيضاً.

ويتمحور هذا التأثير «في تقليص مدى إعجاب الآخرين» بالسيدات اللواتي يستخدمن تلك التكتيكات.

وتشير تشينغ في هذا السياق إلى دراسة تُظهر – على سبيل المثال – أن الصوت الأكثر عمقاً، يُعتبر أقل عذوبةٍ وجاذبيةٍ جنسيةٍ.

ومن هذا المنطلق، يمكن أن يُشكِل ذلك مثالاً آخر على معضلةٍ شعوريةٍ تواجهها النسوة في التواصل مع الآخرين في أماكن العمل، وتتمثل في تلقيهن ردود فعل متضاربةً ومتناقضةً بشأن الأمر نفسه ممن حولهن، أي أن يعتبر الآخرون صفاتٍ تتحلى بها الزميلات سماتٍ سلبيةً، رغم أنهم يغدقون الإشادة والثناء عليها إذا ما كان يتحلى بها الزملاء الرجال.

ولا يتعين عليك هنا سوى تذكر النقاشات التي دارت في وسائل الإعلام حول المرشحة الديمقراطية لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة هيلاري كلينتون، والتي اعتبرتها هذه الوسائل إما «حادة» للغاية أو «غير عاطفية» إلى أقصى درجة.

فبالرغم من أن الحديث بصوتٍ أكثر عمقاً، ربما يمثل إشارةً مسموعةً وذات طابعٍ صوتي، تفيد بإحراز صاحبه – أو صاحبته بالأحرى – لقدرٍ من التقدم، فإن من الواضح أنه لا يزال أمامنا شوطٌ طويلٌ لكي نقطعه، قبل أن نُجْهِزْ تماماً على مظاهر الإجحاف والتحيز والأحكام المسبقة التي قد تحيط بذلك الأمر.