بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات المتحدة المنتصر الاكبر في تلك الحرب، مشوارها للسيطرة على العالم واحكام قبضتها عبركافة الوسائل العسكرية (حلف شمالي الاطلسي)، والإقتصادية (منظمة التجارة العالمية)، والمؤسسات المالية مثل البنك الدوالي، وصندوق النقد الدولي، والدبلوماسية عبر المؤسسات الأممية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن بسبب عضويتها الدائمة الذي يمنحها حق النقض الفيتو والذي استغلته الولايات المتحدة الى أقصى حد.
من أجل هذا الهدف وضعت الولايات المتحدة الخطط الاستراتيجية البعيدة المدى، وكانت تغير التكتيك بما يتناسب المواقف التي تخدم الهدف الأستراتيجي.
بدأت في أوروبا من خلال مشروع مارشال لإعمار ما خلفته الحرب، وكانت أول عملية ربط للقارة العجوز المثقلة الجراح ووضعها تحت الجناح الاميركي، حيث نشطت حركة المصانع الاميركية والتي أعطت الإقتصاد الاميركي قوة دفع كبيرة، ادت الى إزدهار أقتصادي يعتبر ألأهم بعد ألأزمة الأقتصادية العالمية في أواخر عشرينات وأوائل ثلاثينات القرن العشرين.
لم تنتظر الولايات المتحدة وحلفاءها طويلاً وأعلنت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي الشريك في الانتصار على دول المحور وهزيمة النازية، الذي كان يحاول لملمة الجراح التي خلفتها الحرب، ليدخل في سباق تسلح فُرض عليه من ما أصبح يعرف سياسياً بالغرب، فاضطر السوفيات الى تشكيل حلف وارسو في شرق أوروبا لمواجهة حلف الأطلسي.
توسعت المواجهة بين الغرب والشرق، وقد قام الاتحاد السوفياتي بدعم حركات التحرر في أسيا وأفريقيا، من أجل القضاء الى الاستعمار الغربي، وإقامة حكومات وطنية في تلك البلدان، لم تستسغ الولايات المتحدة الدور الذي يلعبه الاتحاد السوفياتي، فبدأت بالتصدي للسوفيات ونشطت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي أي أية) حول العالم لتقود ثورات مضادة وانقلابات عسكرية، كما حصل في إيران ضد حكومة مصدق المنتخبة ديمقراطياً عام 1953 بالتعاون مع المخابرات البريطانية، وقد اعترفت المخابرات الأمريكية بمسؤوليتها عن الانقلاب عام 2013.
وكانت الولايات المتحدة قد دخلت قبل ذلك الحرب الكورية عام 1950، وتلاها تدخل الولايات المتحد في حرب فيتنام التي ورثتها من فرنسا، متحالفة مع كوريا الجنوبية بالاضافة الى أستراليا وتايلندا ونيوزيلندا والفلبين. وكرت سبحة التدخلات الأميركية خصوصاً في ما سمته الولايات المتحدة الاميركية الحديقة الخلفية لها في أميركا الجنوبية، حيث قامت بانقلابات عسكرية في التشيلي عام 1973 ضد سلفادور اليندي، وانقلاب الارجنتين عام 1976 والذي قاده خورخه رافائيل فيديلا ضد رئيسة الجمهورية إيزابيل بيرون، وفي عام 1989 قامت الولايات المتحدة بغزو بنما.
وفي افريقيا احتدم الصراع بين قوى التحرر المدعومة من السوفيات، والقوى الاخرى المدعومة من الولايات المتحدة فكانت حرب انغولا وروديسيا وغيرها من الدول الافريقية.
جاء انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 ليشكل نقطة تحول تاريخية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية، التي تحولت الى القطب الاوحد والاقوى عسكرياً وإقتصادياً ومالياً، فشنت الحرب على يوغسلافيا، وبعد ذلك كانت حرب الخليج الاولى واخراج العراق من الكويت، وفرضت الولايات وحلفائها أجندتها في الحربين وبعدها أعلن جورج بوش الأب ولادة النطام العالمي الجديد. وجاءت أحداث 11/9/2001 والهجمة على نيويورك لتعطي مبررات للولايات المتحدة لغزو كل من افغانستان ومن ثم العراق عام 2003.
بعد غزو العراق كان العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 2006، والذي دعمته الولايات المتحدة عندما أعلنت كونداليزا رايس عن إقامة الشرق الاوسط الجديد حسب التصور الاميركي، والذي فشل بسسب صمود المقاومة في لبنان وافشال المشروع الذي عاد الى الظهور بقوة من خلال ثورات ما عرف بالربيع العربي وفق مبدأ الفوضى الخلاقة الذي تبنته الولايات المتحدة، مستفيدة من فائض القوة حيث زرعت الفوضى والدمار في ليبيا والعراق واليمن وسوريا، الى ان دخلت روسيا وبقوة الى المنطقة بالتحالف مع إيران لدعم نظام الرئيس بشار ألأسد وحالت دون سقوط سوريا بيد تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، المدعوم من حلفاء الولايات المتحدة تركيا، قطر، الامارات العربية المتحدة، والاردن، السعودية وأسرائيل.
ويعدد سمير أمين العوامل التي تلاقت واسست للهجمة الغربية :»طويت هذه الصفحة من التاريخ. علما بأن الانقلاب فى موازين القوى الذى ألغى التعددية السياسية فى النظام العالمى لم يكن ناتج انهيار الاتحاد السوفياتى فحسب، بل أيضاً ناتج التحول فى الصين بعد وفاة «ماو»، وكذلك ناتج فقدان زخم مشروعات التنمية الوطنية الشعبية (او الشعبوية) فى دول عدم الانحياز.
فتلاقت هذه العوامل الثلاثة، وفتحت السبيل لهجوم الكتلة الامبريالية خلف شعار «العولمة» وفرض وصفة الليبرالية الفجة على جميع اطراف المنظومة العالمية. الحوار المتمدن عدد 4796 تاريخ 6/4/ 2015.
جاءت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية عام 2008 و2009 لتشكل ضربة للإقتصاد الاميركي، الذي ترك تداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي، لكن الولايات المتحدة التي انسحبت من العراق في عهد باراك اوباما بسبب الكلفة المادية والبشرية، تعود في عهد دونالد ترامب لتفتح عدة جبهات، وكان اول الغيث انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للتغييرات المناخية، ومن ثم الانسحاب بعض الاتفاقيات التجارية الدولية التي وقعتها إدارة اوباما، ونقل السفارة الاميركية في أسرائيل الى القدس، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ولعبة القطة والفئر مع كوريا الشمالية، واعلان حرب التعريفات الجمركية مع الاوروبيين والصين وكندا والمكسيك، والتي تنذر بحرب أقتصادية بسبب اعتقاد دونالد ترامب ان الولايات المتحدة تتساهل مع باقي الدول على حساب الشعب الاميركي الذي يجب ان تكون له الاولوية رافعاً شعار أميركا أولاً واميركا القوية.
وفي هذا السياق يأتي أيضاً ارتفاع نسبة التوتر في بحر الصين الجنوبي بين الولايات المتحدة وحالفائها، على خلفية الجزر المتنازع عليه في المنطقة، التي تعتبر شريان أساسي لحركة التجارة في جنوب شرق أسيا، والتي تتخذها واشنطن ذريعة للحد من التوسع الصيني واحتواء الصين التي بدأت بلعب دور أكبر من السابق على الساحة الدولية تتناسب مع قوتها الاقتصادية وهو ما تتخوف منه واشنطن .
وعلى الجبهة الداخلية، بدأ ترامب تسييس الظواهر العنصرية من خلال التلاعب بالعقول والتحايل على الحقيقة، ولا يختلف الامر كثيراً في أوروبا، التي بدأت تنتهج سياسية تفوح منها العنصرية ضد اللاجئين والذين تسببت بهجرتهم حروب أوروبا والولايات المتحدة وحلفاءهم الاقليميين على ليبيا وسوريا والعراق واليمن .
لم تقتصر الازمة التي تواجه المنظومة الغربية على الولايات المتحدة الاميركية، بل ضربت الاتحاد الاوروبي، فكانت الازمة المالية اليونانية او أزمة الدين الحكومي اليوناني عام 2010 التي أوصلت البلاد الى عتبة الافلاس، ولم يكن خروج بيريطانيا من الاتحاد الاوربي عام 2016 دليل عافية، وصولاً الى الازمة التي تعيشها إيطاليا اليوم والتي تشكل ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الاوروبي.
بهذا الخصوص يتساءل الخبير في العلاقات الدولية من سنغافورة كيشور ماهباباني في كتابه،
هل خسر الغرب؟ ويعترف ماهباباني بأن الغرب ربح أولاً ولكنه الان يخسرHas the west lost it?
ويدعو الغرب الى التكيف مع الواقع الجديد، خصوصاً ان الاخرين ادركوا أهمية العلوم والتكنولوجيا والعديد من الدول تستفيد من ذلك». ويدعو الكاتب في صحيفة فايننشل ريفيو الاسترالية 1/6/2018 مارتن ولف الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص الى المزيد من التعاون والاقلال من التدخل، لانها لا تستطيع إدارة العالم، ويجب وقف التصرفات المتعجرفة، مضيفاً من الصعب تجاهل النصيحة من صديق يعرف الغرب جيداً.
ويعدد ولف قضايا وتحديات تواجه العالم، كالتغييرات المناخية والحاجة الماسة الى التعاون السلمي في عالم يتغير بسرعة، ويختم متسائلاً هل يمكن ان نرتقي الى مستوى التحدي قائلاً لقد قطعنا شوطاً طويلاً، ويمكننا أن نتقدم اكثر من ذلك، لكن هذا الامر لن يحدث بصورة تلقائية وقد لا يحدث مطلقاً، ويتساءل مجدداً هل يمكن للعالم ان يرتقي الى مستوى التحدي؟ مجيباً بسلبية لا.
وفي كلام مشابه عن الأزمة الغربية يقول سمير أمين : «إذ يجب ان ندرك ان انجازات ديمقراطية فى غياب اصلاح اجتماعى ملازم لها لن تتحقق.
لقد اثبتت التجربة مدى فراغ ممارسة «انتخابات»، فى ظل استمرار تدهور الاحوال الاجتماعية بالنسبة الى الاغلبيات الشعبية.
وينطبق هذا الحكم على الجميع، بما فيهم الشعوب الاوروبية، وذلك بالرغم من رسوخ ممارسة الديموقراطية الانتخابية فى عمق ضمير الجمهور فى الغرب. لكن هاهى الانتخابات فى اوروبا المعاصرة تسير فى سبيل فقدان شرعيتها حيث أنه _ مهما كانت نتائجها _ فان البرلمان المنتخب يجد نفسه مجردا من حرية القرار، المتروك «للسوق» طبقاً لمبدأ الليبرالية المعمول به. وأنا اعتبر ان تاكل مصداقية ومشروعية الانتخابات فى هذا الاطار يمثل بالفعل خطرا على مستقبل الديموقراطية نفسها».
الحوار المتمدن عدد 4796 تاريخ 6/4/ 2015.