بقلم هاني الترك OAM

ينشرح قلبي عندما اذهب الى المكتبات العامة وارى مدير المكتبة يسرد قصصاً للبراعم الصغيرة من كتب الاطفال. ولكن اشعر بالحزن حينما لا اجد اطفالاً من الجالية العربية.. ويرجعني هذا المنظر الى طفولتي .. حينما وقعت النكبة عام 1948 ونزحنا من يافا الى غزة وكانت معنا امرأة ارملة فلسطينية صديقة   للعائلة عاشت معنا في ذات المنزل في غزة اسمها ام سعدو.. اثرت عليَّ جداً اذ كانت كل ليلة تقص لي مع ابناء عمي الاطفال قصة من التراث الشعبي العربي مثل الف ليلة وليلة.. كنا نرهف السمع اليها وتشد انتباهنا في شوق جارف الى متابعة قصصها بكل شغف. من هنا تولعت منها بالمعرفة.. وعرفت قوة سرد القصص في الطفولة وتأثيرها في زرع حب المعرفة.. وخير مثال على قوة السرد  هي قصة الفدية لأعظم روائي استرالي معاصر اللبناني الاصل ديفيد معلوف تحمل اسم «الفدية» Ransom التي يعود إلهام معلوف في تأليفها حينما كان طالباً في مدرسة برزبن الابتدائية وكانت تمطر بغزارة ولم يتمكن طلبة الصف من لعب الرياضة.. فقرأت المدّرسة إلما كرين قصة «حصار طروادة» حيث خطف الشاعر الاغريقي في ملحمته الألياذة شعور معلوف ومن ثم ربط احداثها بالحرب العالمية الثانية حيث كانت برزبن مملوءة بالجنود الاميركيين.. وتحكي الرواية قصة رجل من القرن الحادي والعشرين   من اليونانيين القدامى.. ويخلط معلوف احداث قصة قديمة مع احداث معاصرة مع انه اي المؤلف معلوف يدرك تماماً الاختلاف الثقافي بين اليونان القديمة والرومان القدامى والحياة المعاصرة.

ولكن كانت المفاجأة بعد نشر الرواية اذ تبين ان المدرسة إلما كريم التي ألهمت معلوف لا تزال على قيد الحياة وتبلغ 93 عاماً من العمر.. واطلقت رواية معلوف الجديدة.. وقالت انها لا تتذكر سجله الدراسي ولكن تتذكره كطالب مهذب كان يجلس دائماً في وسط الصف.. وقالت ان قراءة مقتطفات من الاحداث في ملحمة الالياذة تلهب عقول الاطفال يحبون الاستماع الى مثل تلك القصص.

وقال معلوف انه عندما بدأت المدرّسة كرين قراءة القصة استرسل فوراً بخياله متصوراً وقائع الاحداث وكأنها تدور في ملعب المدرسة.. وقد لمست احداث القصة عقله لأنها كانت تدور حول الحروب..  تعبر عن قلقه وخوفه من الحروب كطفل بريء.. وفي ذات الوقت حينما يقرأ شخص احداث قصة بطولة ومؤثرة بصوت عالٍ على شخص آخر فهي تؤثر عليه وخصوصاً اذا كان طفلاً صغيراً اذ تلعب الاحداث المثيرة بخياله.. ويعطي معلوف تأثره بقصة حصان طروادة حين كان طفلاً كدليل على الرأي المستنير بأهمية تعليم الاطفال القصص الكلاسيكية القديمة ودمجها بالأدب المعاصر.

والمدرّسة كرين مولودة في كوينزلاند وتلقت تدريبها على التدريس في كوينزلاند.. وكانت تدرّس تلاميذ المدارس الابتدائية.. وهي تعتقد ان التعليم في المدارس الابتدائية هو التدريس لتشكيل شخصيات الاطفال في المستقبل.. ولكن التدريس في المدارس الثانوية هو تدريس المواضيع التعليمية.. واضافت ان ملحمة الألياذة لا تموت وقد احضرها ديفيد معلوف ثانية الى مسرح الحياة للجيل الجديد في روايته «فدية».

وخصصت صحيفة «الاستراليان» افتتاحيتها لقصة معلوف ومدرّسته كرين التي الهمته تحت عنوان «قوة سرد القصص في فوائد التعليم الفعّال الذي يبقى طيلة الحياة». وقالت ان رواية معلوف «فدية» تستمد إلهامها من ملحمة هوميروس الالياذة وهي اثبات كبير ودليل عميق على قوة التعليم الجيد.. فقد تخيّل معلوف احداث القصة في ملعب المدرسة اثناء سرد المدرّسة كرين احداث القصة للتلاميذ الصغار.. فقد بدأ في الصف تأثر معلوف بالملحمة التي يبلغ عمرها 2700 عام وهو التي يعتبرها معلوف كتاباً عظيماً في الثقافة الغربية.. وعمر المدرّسة كرين الآن 93 عاماً وتشعر بالسرور بأنها قرأت احداثاً من قصة معلوف.

وتقول الافتتاحية ان الالياذة لن تموت ابداً .. ويستحق تلاميذ المدارس اليوم الاطلاع على الطبائع الباقية في الثقافة الغربية المعاصرة من تراث الانسانية.. مثل الموسيقى والفنون والأداب الكلاسيكية.. فإن قراءة مقطوعة صغيرة من حصان طروادة قد ألهبت مخيلة معلوف وتلهب التلاميذ طيلة حياتهم.. وافضل المدرسين هم الذين يلهمون والتلاميذ في حياتهم باستعمال الصفوف المدرسية بفتح ابواب ثقافية مثيرة للتلاميذ في المستقبل.. والدليل على ذلك تأثر ديفيد معلوف من سرد القصص في الصف.. وطبعاً مما يسهم في ذلك هو وجود شخص موهوب مثل ديفيد معلوف في الصفوف الابتدائية.