بقلم  /  هاني الترك  O A M

يعود الفضل لكابتن جايمس كوك منذ حوالي 248 عاماً لاكتشافه استراليا ويشارك في لقب اب استراليا.. ويعود الفضل لكابتن آرثر فيليب قائد الاسطول الاول الذي استوطن استراليا كمنفى للمساجين منذ 230 عاماً.. ويشارك في لقب اب استراليا.. ولكن ليس كل من كوك او فيليب له الدور في تخطيط ووضع اساس ومجرى المجتمع الاسترالي اذ يعود الفضل الرائد الى الحاكم الخامس للمستوطنة الذي حكم بين الاعوام 1810 الى 1821 اسمه لاكلان ماكواري..فهو الاب الحقيقي لاستراليا.
في جوهر الرجل ماكواري لم يعتقد استناداً الى الادلة امامه ان المجرمين تحت رعايته لا يستحقون الاحترام مثل المستوطنين او الجنود او ملاك الاراضي الاثرياء او حتى رجال الدين.
لم يكن يهدف ماكواري الى هبوط الطبقات الاجتماعية الى مستوى الاجرام.. ولكن الى رفع المجرمين الى مستوى الاحرار.. هذا ما عمل من اجله بعد قضائهم مدة العقوبة.. ومن هنا انبثق التقليد الاسترالي Fair go اي الإنصاف.
ادت معتقدات وتطبيقات ماكواري نحو السجناء الى ارسال المفوض جون توماس من لندن للتحقيق مع ادارة ماكواري استنادا الى اخفاقه في احقاق الهدف الصحي بشحن وعقاب وسجن المجرمين في استراليا.. ولكن ماكواري مضى قدماً في معاملته العادلة نحو المساجين.
في عهد ماكواري أسس اول مصرف في استراليا وتيمماً بإسمه أطلق على اهم مصرف استرالي عالمي هو بنك ماكواري الذي تبلغ أرصدته 450 مليار دولار.. صدر في عهده اول عملة استرالية وشُحن 40 الف دولار نقداً من اسبانيا للتعامل بها في استراليا.
كان ماكواري يشجع التجارة الحرة مثل إعطاء التاجر توماس اونيل قطعة ارض واسعة في موسمان وقال له: «دعني اراك كيف ستصبح ثرياً».. لم يكن ماكواري عدواً للثروة لكن عطوفاً على مقدرة الرجال والنساء للحصول عليها.. في الوقت الذي كانت فيه توجد الهوة الواسعة بين الطبقة البائسة المعدومة والطبقة الثرية في بريطانيا والعالم.
أصبح ماكواري صديق المجرمين السابقين الذين أمضوا مدة العقوبة وهم الطبقة المُحررة.. فكان يفرج عن 150 سجيناً كل عام.. وحوَّل السجناء الى برنامج هجرة العمال المهرة.. فعندما يخدم المجرم مدة العقوبة يعرض عليه الاختيار إما العودة لبريطانيا او البقاء في المستعمرة ومنحه قطعة ارض مساحتها 19 هكتاراً اذا كان اعزباً وقطع اخرى اذا كان متزوجاً لزوجته واولاده.. ويقدم له قروضاً على شكل ادوات وبضائع من مخازن الحكومة لبدء عمله.. واذا لم ينجح المحصول يقدم له المساعدة الاجتماعية.
كان ماكواري يعتقد انه يجب بناء استراليا من السجناء المُحررين للعمل سوياً مع الطبقة الاخرى من المستوطنين بل وترقيتهم الى مناصب القضاء وغيرها من الوظائف اذ كان يعلم ان بعضهم كان اكثر تأهلاً لمنصب قاض او حتى رجل دين.
تعهد ماكواري في خطاب توليه الحكم عام 1810 بحماية الشخص الامين المنتج سواء اكان مستوطناً حراً ام سجيناً يخدم عقوبته واسس بذلك الاستقامة الديمقراطية على التكامل مع الاقتصاد الواسع والمجتمع.
فقد دعا السجناء السابقين الى مقر الحكومة وكان يجالسهم.. انساناً عطوفاً في الزمن الذي كانت فيه الانسانية مرادفة للتطرف حتى انه اتهم بتفضيله للمجرمين السابقين.. مع انه كان يفرض القانون والنظام والعقاب.
وجه ماكواري موارد الحكومة في تعمير وتحسين المستوطنة.. أسس المدارس سواء للمستوطنين او للابوريجينيين من اجل تعليم جيل المستقبل.. فقد وجه ثُمن ريع حكومته للتعليم في الوقت الذي كانت فيه حكومة بريطانيا لم تنفق أي سنت على التعليم العام.. حيث كانت تعتقد حكومة بريطانيا والكنيسة انه اكثر اماناً سواء للحكومة والديانة الإبقاء على الطبقة الكادحة غارقين في الجهل من اجل السيطرة عليهم.. فكانت سياسة ماكواري مضادة للمعتقدات في بريطانيا والولايات المتحدة في ذلك الزمن.
كانت سياسته غير عنصرية نحو الابوريجينيين من خلال التفاهم معهم فكان بعضهم يُمنح الاراضي.. مثل منح زعيم قبيلة بانجاري الابوريجيني ارضاً كبيرة ومن مخازن الحكومة الخنازير والبط وشبكات صيد السمك وغيرها من الادوات حتى يصبحوا مثل المستوطنين الاحرار اي اتبع سياسة الهضم والذوبان.
كان ماكواري يفضل الاقامة في منطقة باراماتا اذ اسس فيها مقر الحكومة الثاني.. واسس كذلك مدرسة لتعليم الاطفال الابوريجينيين الذين كانوا ينتزعون من احضان عائلاتهم للدراسة.. وسميت تلك السياسة فيما بعد بالجيل المسروق.
في إحدى حوادث المجابهة بين الابوريجينيين والمستوطنين والتي قتل فيها الابوريجينيون 9 مستوطنين أصدر ماكواري تعليماته بإلقاء القبض على الابوريجينيين وسجنهم.. وكانت سياسته عدم التعرض او إلحاق الاذي بكل النساء والاطفال مؤكداً انها ليست اجراءات عسكرية او عنصرية او حتى قبلية او انتقام.. ولكن هدفها العقوبة وامر بإطلاق النار عليهم اذا حاولوا الهرب او المقاومة.
ادخل ماكواري بمهارته وأمانته وعمله الشاق كل الاصلاحات والتقدم للمستوطنة.. فقد وصل في عهده عدد كبير من السجناء والمستوطنين.. انتجت كميات كبيرة من الاطعمة .. وتم بناء الطرق والمباني العامة والجسور والمستشفيات والكنائس.. وعمرت المناطق بين هوكسبري ومنطقة بلو ماونتنز.
وفي فترة حكمه إزدهرت الثقافة والفنون والآداب وتصميم المباني والشوارع والميادين حتى اصبح عهده يسمى بالعهد الذهبي.
عندما جاء صاحب نظرية التطور تشارلز داروين الى المستوطنة بعد 15 عاماً من رحيل ماكواري كتب: «ان مكان العقوبة للاشخاص عديمي الجدوى مثل السجناء كان واقعاً في النصف الكرة الجنوبي.. اما تحويلهم الى مواطنين نشطاء وامناء في بلد جديد هو استراليا اصبح مركزاً كبيراً للحضارة.. حتى نجحت هذه السياسة بدرجة لا يعادلها اي نجاح في التاريخ.. انها الثورة الاسترالية».
وهكذا وضع الحاكم ماكواري اسس بناء استراليا والتخطيط للمجتمع الاسترالي الحديث فهو الاب الحقيقي لاستراليا.