بقلم / بيار سمعام

قد يكون هذا الواقع مؤشراً لدرجة الوعي السياسي السائد في المجتمع اللبناني، وقد يكون دليلاً آخر على حشرية اللبناني وإدعائه معرفة كل الأمور.
الواقع ان تسيس المجتمع اللبناني له أسباب أخرى. فاللبنانيون بمختلف مكوناتهم الإجتماعية والدينية، لم ينعموا بمرحلة إستقرار على مدى القرون الماضية ليتجهوا نحو العمل والإنماء وتطوير علاقات الثقة فيما بينهم. لقد عاشوا حالة دائمة من القلق حيال «الغريب» والجار والقريب الذي قد يهدد وجودهم ومصالحهم او يقلق حياتهم بأعمال عدائية ، لا لأمر هام وجوهري، بل بسبب الإختلاف في الدين أو المذهب، او نتيجة للفروقات الإجتماعية او المناطقية. فإنتقال السلطة من فريق الى آخر لم يتم عبر التاريخ دون تبعات وذيول مأسوية أحياناً.
وغالباً ما يلجأ اللبنانيون الى رسم صور مسبقة عن «الآخر»، قد لا تكون صحيحة، بل هي مبنية على مشاعر وإختبارات سابقة، كانت مريرة او مجحفة او غير عادلة او ديمقراطية او موضوعية…
فالإنتماء السياسي في لبنان ، غالباً ما يفرض مواقف وردود فعل معلبة ومقننة مسبقاً من قبل المجتمع. فالإسم والمذهب ومكان الولادة والمنطقة التي تعيش فيها تحدد تلقائياً من انت وماذا يجب ان تكون ميولك السياسية ورؤيتك الوطنية. فلا قدرة لك للخروج عن الأنماط والأدوار المرسومة لك لئلا تعرض نفسك للنبذ والإستقصاء والوصف بأسوأ العبارات، وخسارة فرص العمل والترقي الإجتماعي.
وفيما يعرف ان السياسة هي علم إدارة شؤون العباد والبلاد، فإنها في لبنان، مع غياب المسائلة والمحاسبة وإرتباط الدين بالسياسة والكيان، أصبحت وسيلة تسلط ووصاية وإثراء سريع وتحسين وضع إجتماعي، في حال سمح لك كمواطن ان تتخطى حدود العائلية والإقطاعية والزعامات التقليدية التي تسن عادة القوانين لحماية مصالحها وإستمراريتها في الدرجة الاولى، بإسم الطوائف والمناطق والأقليات الدينية… لذا يرتبط اسم رجال السياسة بالطوائف التي يمثلونها. والمساس بهم هو تعدٍ على من يمثلون.
ولكي يضمن اي مواطن وجوده المادي، عليه ان يلتزم ويتكيف مع، ويدعم الزعامات التي تمثله. لأن المحاصصة أصبحت تتخطى الكفاءة وتكتفي بتوزيع المغانم مع الطبقة الحاكمة ومع من يمثلون.
ولعبت التأثيرات الخارجية ولا تزال دورها في مجرى الأوضاع السياسة الداخلية، وغالباً ما كانت تملي التوصيات والتوجيهات على السياسيين الذين إقتصرت مهامهم على البراعة في الكذب وفلسفة وتبرير مواقفهم، بسبب ضغوطات الخارج التي تتعارض معها المصالح الوطنية، فطرحوا شعارات كبيرة يتسترون وراءها لتضليل الرأي العام. يتمحور معظم شعاراتهم حول الكيان اللبناني المتعدد والضعيف، وضرورة الحفاظ على التوازنات والمصالح المشتركة ، والتلائم مع المحيط المجاور…
وفي غياب الرؤية الوطنية الموحدة حول القضايا القومية والشؤون المصيرية التي يمكن من خلالها بناء وطن، ترتفع حدة العصبيات الطائفية والمذهبية، فترسخ هذه مرة أخرى، مشاعر القلق وعدم الإستقرار والتوتر الإجتماعي، حتى وان حاول اللبنانيون الظهور بمظهر الاعتدال والتقدم وقبول الرأي الآخر..
البلديات والمخترة.
نجح الحكم في لبنان في تدعيم اللامركزية الإدارية ونقل بعض الصلاحيات الى البلديات. وهذا تدبير صائب وهام ومفيد في مجتمع يعاني من غياب الدولة والمحاصصة ويعي أهمية العمل الديمقراطي ويدرك بقناعة لا لبس فيها ان دور البلديات هو اساسي في إعمار وتحسين وتنظيم الأوضاع المدنية، من خلال تطوير البنى التحتية، وهي اولوية ضرورية للإنتعاش والإزدهار والإستقرار وتوطيد العلاقات الاجتماعية بين الناس، وتوفير الخدمات الحيوية اليومية لهم في ظل نظام يتلهى فيه الحكام في النزاعات وتوزيع المغانم.
لكن للأسف الشديد ان المجتمع اللبناني الذي لم تمنحه الأزمات والحروب فرصة الإستقرار، جاءت البلديات وما يرافقها من إنتخابات وإنفاق الأموال لتأزم أحياناً العلاقات بين الناس والعائلات. واعتبر البعض ان تسلم زمام الأمور في بلديات بلداتهم يمنحهم فرصاً للترقي الاجتماعي والحصول على صفة رسمية ومعبراً طالما حلموا بالحصول عليه لتحسين مراكزهم الاجتماعية. كما نظر البعض ان التحكم بالمال العام هو فرصة ذهبية للتسلط والإثراء، وهذا مسلك ساد في البلاد وبين الطبقة السياسية منذ ما قبل “الهيمنة السورية”.
ولم تتمكن الحكومات المتعاقبة من نقل العمل في القطاع العام الى الحرفية والمسائلة والمحسوبية. لذا فجرت احياناً الانتخابات البلدية في بعض البلدات خلافات قديمة تقوم على العصبية العائلية والمشاحنات الشخصية، وتحولت العددية مقياساً للقوى السياسية، عوض ان تكون الكفاءة والتجرد والعمل من اجل الخير العام هي المقياس الاول للحكم على اي مسؤول في القطاع العام.
بلدية عيمار تزور استراليا.
عيمار، البلدة الشمالية الجميلة، هي احدى البلدات التي عانت من الخلافات بسبب الانقسامات الداخلية فيها والنزاع على البلدية، وهي خلافات لا يجدر التوقف عندها. لكن في لبنان، لم نعتد ان يقوم الخاسر بتهنئة الفائز في الانتخابات، وعرض خبراته وكفاءاته لمؤاذرة المجلس الجديد، وهذا ما اعتدنا على مشاهدته في الأجواء الديمقراطية.
للأسف لا يزال الفرد لدينا يؤثر على مواقف العائلة الكبرى واللفيف والانصار. فان حرد غضب هؤلاء، وان خسر في الانتخابات فخسارته إهانة للعائلة والتوابع. وما زال البعض يتصرفون حسب منطق القبائل وليس بمبدأ المواطنة الصالحة والعمل المسؤول والناجح.
فبلدتي، بكل حساسيتها الصغيرة وخلافاتها الضيقة تمثل الى حد بعيد حال الوطن بأثره، حيث الوطنية تقاس بالمنافع والنفوذ والتسلط…
في مطلع هذا العام حضر الى سيدني وفد من بلدية عيمار لهدفين اساسيين : شكر الجالية العيمارية في استراليا التي لم تتردد في دعم مشاريع البلدة وسكانها في الوطن الام، ولشرح برنامج عمل البلدية من مشاريع تحققت واخرى يجري العمل لإنجازها.
من إلتقوا اعضاء البلدية الستة الذين جاءوا الى سيدني أثنوا على اعمالهم ونواياهم ورؤيتهم لمستقبل عيمار، ودعوتهم لتوحيد الصفوف، لان ابناء البلدة هم في آخر المطاف عائلة واحدة بفعل التزاوج والقرابة والمصالح المشتركة، وتاريخ البلدة ووقوفهم جنباً الى جنب في كل الظروف والمحن.
للأسف لم يتجاوز البعض خسارة موقع في البلدية فآثروا الانعزال وقطعوا معظم علاقاتهم مع ابناء البلدة، وكأن خسارة هذا الموقع هو نهاية وجودهم التاريخي والاجتماعي وتهديداً مباشراً لمصالحهم. وهذا سلوك لم نألفه عبر التاريخ مهما تأزمت الأمور.
لذا أوجه نداءً لجميع العقلاء ان يعملوا على إعادة توحيد القلوب، وشبك الأيادي، من اجل مصلحة عيمار وابنائها في الوطن والانتشار، دون ان نتناسى كل الايجابيات التي طبعت ابناءها في أحلك الظروف.
شرشف الخوري حنا سمعان.
الشاعر والأديب يونس الابن الذي ربطته علاقات الاحترام والصداقة والمحبة بعائلة الخوري حنا سمعان، اعتاد ان يمضي عدة اسابيع خلال فصل الصيف، في ضيافة هذا الكاهن الجليل الذي فتح ذراعيه وداره للجميع دون شرط او قيد وإستضاف الكل دون تمييز او مفاضلة، وخدم طوال 75 سنة عدة رعايا في المنطقة آخذاً قول الرب شعاراً له: «مجاناً أخذتم فمجاناً أعطوا».
كان يونس الابن يشترط الاقامة في خيمة تبنى له على سطح منزل الخوري حنا ويعتقد ان يونس الابن كتب معظم مؤلفاته ومسرحية (مسبحة ستي) التي عرضت في مهرجانات إهدن في تلك الخيمة. يروي يونس الابن انه على اثر اندلاع ثورة 1958 برزت في المنطقة ظاهرة “الفرارية”، وهم أناس ارتكبوا جرائم وفضلوا الفرار من وجه العدالة او تحاشي مواجهة “الخصم” لئلا تقع جرائم ثأرية جديدة.
ويذكر يونس الابن انه في احدى الليالي حضر الى منزل الخوري حنا احد “الفرارية” من بلدة مجاورة وطلب ان يبيت في منزل الخوري على ان يتابع مشواره في اليوم التالي. فقامت الخورية وابناؤها بغسل رجلي الضيف وتقديم الطعام له مع كأس عرق صغير قبل ان يلجأ الى النوم في فرشة خصصت له.
وبعد ساعات حضر فراري آخر ينتمي الى فريق الخصم ولعائلة معادية اراد ايضاً ان يبيت ليلته في بيت الخوري حنا.
لم يرتبك الخوري حنا او يتضايق من الضيف الجديد بل جرى اطعامه والترحيب به. وقام الخوري حنا بنصب شرشف بين الفرشتين. وهكذا أمضى الخصمان ليلتهما في ضيافة الخوري حنا لا يفصل بينهما سوى شرشف متراخِِ. فما قسمته السياسة في لبنان جمعه (شرشف الخوري حنا).
كم نحتاج اليوم الى مثل هذا الشرشف لجمع ابناء بلدتي مجدداً. شرشف المحبة والاحترام، وتجاوز الخلافات الضيقة.
فهل من يتبرع للقيام ببسط مثل هذا الشرشف بين ابناء بلدتي لتعود المحبة وتغمر قلوب الجميع؟؟