بقلم / بيار سمعان

يروي اللبنانيون الذين هاجروا الى استراليا منذ مطلع الستينات انهم كانوا يبدلون وظائفهم اكثر من ثلاث مرات خلال اليوم الواحد, اذا لم ترق لهم وظيفتهم او لم تعجبهم اجواء وظروف العمل.
وغالباً ما كان المهاجرون الجدد يبدأون العمل بعد يوم واحد من وصولهم الى استراليا، ان ارادوا. وكان يُسمح لهم باكتساب مهارات محددة خلال العمل تؤهلهم القيام بوظيفتهم، كما يُشجع هؤلاء على دراسة اللغة الانكليزية لكي يتمكنوا من التواصل مع الآخرين والترقي في عملهم. وتمكن البعض من الوصول في وظائفهم الى مواقع ادارية رفيعة المستوى، رغم ثقافتهم ومهاراتهم المحدودة.

< استراليا بلد صناعي:

منذ الحرب العالمية الثانية حتى مطلع الثمانينات كانت استراليا تعتبر بلداً صناعياً متطوراً لعبت المصانع المتنوعة دوراً بارزاً في تفعيل الحركة الاقتصادية وتوفير فرص عمل لليد العاملة الوافدة من مختلف اصقاع العالم.
مصانع الحديد الصلب والحديد المصنع الذي يستخدم في البناء او في صناعات اخرى، مصانع السيارات على انواعها والبرادات والمعدات العسكرية والآليات المنزلية، بالإضافة الى الصناعة الزراعية المرتبطة باللحوم والالبان والمواد الغذائية وغيرها من الصناعات المتنوعة التي رفعت من القدرة الانتاجية والدخلين القومي والفردي. فبلغت استراليا حالة من الاكتفاء الذاتي، اذ كانت تنتج كل ما يحتاج اليه السوق المحلية وبأسعار مقبولة للغاية. واصبحت تعرف ببلد الفرص.
فماذا جرى حتى تحولت استراليا تدريجياً الى بلد دون صناعات. بلد يحتاج الى استيراد معظم المواد الاولية والكمالية؟؟

< اتفاقية ليما

في شهر آذار 1975 دعت الأمم المتحدة الى عقد اجتماع في ليما، عاصمة البيرو يهدف الى مناقشة مسألة اعادة توزيع الثروات ومنح جميع الدول «حصة عادلة» من الانتاج العالمي.
ووقعت استراليا على «اعلان ليما» كما وقعت على العديد من الاتفاقيات العامة التجارية والتعريفات الجمركية. وقام وزير الخارجية الاسترالية آنذاك دون ويليسي بالتوقيع على هذه الاتفاقية بدعم من الاحزاب الكبرى بالاجماع. واوصت الاتفاقية ان تقوم الدول الصناعية بنقل صناعاتها ومؤسساتها الكبرى الى دول العالم الثالث بحجة توزيع الثروات بشكل عادل ومساعدة الدول الفقيرة على النهوض من الركود الاقتصادي لديها.
كما دعت الاتفاقية الى اعادة بناء المصانع في دول العالم الثالث والاستفادة من اليد العاملة الرخيصة لزيادة الانتاجة لديها بأقل كلفة ممكنة، وتوفير المساعدات والبرامج التكنولوجية لضمان ملاءمة نقل هذه المؤسسات الانتاجية مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي لدى البلدان النامية. ووضع المؤتمر توصيات للبلدان المصدرة للمصانع والبلدان المستقبلة لها وفرت شروطاً مشجعة لاصحاب المصانع والرأسماليين وتسهيلات للاستثمار الملائم وبشروط مغرية.
وفي حين تفرض الحكومات الاسترالية شروطاً قاسية على المصانع من ضرائب مرتفعة وضمانات عمالية وصحية وتعويضات مرضية ونهاية خدمة. وتتدخل المؤسسات الحكومية والنقابات العمالية في ظروف العمل بشكل تعجيزي، قدمت الدول النامية المضيفة عروضاً مغرية مثل عدم فرض اية ضرائب خلال السنوات الخمس الاولى، وعدم التدخل في ظروف العمل او تحديد المعاشات، وهي غالباً ما تكون متدنية بالمقارنة مع مستوى الدخل الفردي في البلاد.
فسياسة التضييق على المستوى الاسترالي واجهها عروض مشجعة للرأسماليين، وهم جزء اساسي من هذا البرنامج وسياسة «العدل الاقتصادي».
واللافت ان حكومة فرايزر استلمت ودعمت ما بدأته حكومة ويتلام. وهكذا كرت السبحة حتى يومنا هذا.
لكن الثابت ان موافقة استراليا على اتفاقية ليما كان لها نتائج كارثية على الصناعة في استراليا. وحين استفاد الرأسماليون والدول الفقيرة من نقل المصانع ومن كلفة الانتاج والحفاظ على اسعار السلع في الاسواق العالمية، سمح للمصانع بتحقيق ارباح اضافية والتخلص من دفع الضرائب وتوفير التأمين الصحي لآلاف العمال… لكن خريطة الانتاج الصناعي في العالم شهدت تحولات دراماتيكية تحت اشراف وتمويل الأمم المتحدة والبنك الدولي.
واوصت الاتفاقية ان يجري نقل ما يوازي 25 الى 35 بالمئة من القدرات الصناعية الى دول العالم الثالث بحلول سنة 2000.
فالإنماء الصناعي في الدول الفقيرة بحجة خلق حالة من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي رافقه نمو ملحوظ في الثروات التي يجنيها ارباب الشركات والمستثمرون في المصانع الكبرى نتيجة لخفض كافة الانتاج.
وسعت اتفاقية ليما الى اقامة نظام اقتصادي عالمي جديد يحدد بطريقة او اخرى نوع الانتاج والشراكة بين الدول . كما طالبت ان تتوازى قيمة الصادرات مع قيمة المواد المستوردة بين الدول.

< انعكاسات اتفاقية ليما

استراليا، البلد الصناعي الذي يمتلك الكثير من المصادر الاولية من معادن وفحم حجري ويورانيوم وذهب وغاز بالاضافة الى اراضٍ زراعية شاسعة ومواشٍخسرت خلال ثلاث عقود ما يزيد على 30 بالمئة من مصانعها بعد ان انتقلت الى تايلندا واندونيسيا وماليزيا وفيتنام والصين وغيرها.
واللافت ان حكومات ويتلم، فرايزر، هوك، كيتنغ، هيوسن، هاور، بيزلي وبدعم من حزب الاحرار والعمال والحزب الديمقراطي والحزب الوطني والخضر، لم تُقدم على استشارة المواطنين او اطلاعهم على تفاصيل سياستهم الاقتصادية بشأن نقل المصانع الاسترالية الى الخارج.
وكما طرحت سياسة «التعددية الثقافية» كمنهج عام للحكومات الاسترلية، وجدت هذه الحكومات شعارات مماثلة وتسميات مختلفة للتستر خلفها حول القرار المبطن لقتل الصناعة في استراليا، فاطلقت تسميات مختلفة على هذه السياسة، مثل «الحوار بين الشمال والجنوب» و«الأممية الاقتصادية» و«التكامل بين الدول وصندوق النقد الدولي، و«النظام العالمي الجديد».
بالواقع كل هذه الشعارات ما هي الا جزء من الآجندا الخفية التي تهدف الى ضرب استقلال استراليا واجبارنا على ان نصبح امة تابعة وملحقة في اطار الحكومة العالمية الاولى برعاية الأمم المتحدة.
وتستخدم المعاهدات المستوحاة من توصيات الأمم المتحدة لتنفيذ عمليات تؤثر بشكل مباشر على قدرة الشعب الاسترالي على التصنيع والعمل والانتاج داخل بلده. ومع ذلك فان الحكومات الاسترالية وقعت على هذه الاتفاقيات والمعاهدات دون مشورة الشعب او استطلاع آرائه بها، علماً ان المسؤولين السياسيين يدركون الانعكاسات الخطيرة لهذه الاتفاقيات على حياة المواطنين وعلى مستوى الدخل القومي. لذا جرى التعتيم على هذه المعاهدات وتمريرها بصمت تداركاً لأية معارضة، فالمعاهدات التي وقعت عليها الحكومات الاسترالية لم يوافق عليها اي من الاستراليين بالتصويت او الاستفتاء والتعبير عن كيفية ادارة الشؤون الوطنية في استراليا. لذا جاءت نتائج العولمة لصالح دول الجوار على حساب المصلحة الاسترالية.

< انتاج السيارات يغادر استراليا نهائياً

خلال السنوات العشر الماضية اقفلت مصانع السيارات مؤسساتها الضخمة في استراليا. وبالنسبة لشركة تويوتا التي اتخذت استراليا مركزها الاول لتصنيع السيارات خارج اليابان، كانت الشركة الاخيرة بعد هولدن وفورد التي قامت باقفال مصانعها في مناطق ألتونا وبرودميدوز وجيلونغ في اواخر سنة 2016.
تاويوتا التي بدأت انتاج السيارات في استراليا منذ 1925 تمكنت من تصنيع ما يزيد على 6 ملايين سيارة. اما شركة جنرال موتورز فانطلقت في سنة 1936 بتجميع السيارات المستوردة قطعها من بريطانيا والولايات المتحدة في بورت ملبورن، ثم تحولت خلال الحرب العالمية الثانية الى تصنيع سيارات العسكرية للقوات الاسترالية ولقوات الحلفاء في المنطقة ومحركات الطائرات وآليات لنقل الاسلحة.
اما هولدن فبدأت جمع السيارات في سنة 1948 وانتجت حتى اقفالها 7 ملايين سيارة وعمل في قطاع تصنيع السيارات ما يزيد على 50 الف عامل ومهني واداري، بالاضافة الى المؤسسات التابعة التي ارتبط وجودها بعملية تصنيع السيارات وتوزيعها وتصديرها الى الخارج.
وبينما يتقاضى العامل في تايلندا دولارين في الساعة، بلغ متوسط اجور عمال مصانع السيارات في استراليا 69 الف دولار سنوياً. اضف الى ذلك شروط العمل القاسية وكلفة الاستثمار في هذا القطاع والضرائب المباشرة الى جانب الضرائب على الارباح. وقد ساهمت عملية فتح الحدود لاستيراد السيارات الى خلق مزاحمات حادة لم تتمكن من جرائها الشركات المحلية من مزاحمة السيارات المنتجة في الخارج بكلفة اقل. واستخدم هذا الواقع حجة لنقل المصانع الى الخارج.
في سنة 2005 دخلت السوق المحلية حوالي مليوني سيارة جرى استيرادها من تايوان وكوريا الجنوبية واليابان، ولم تصدر استراليا الى تايوان سوى مئة سيارة لا غير.
ظروف الانتاج الغالية كانت مبرراً لرحيل مصانع السيارات بعد ان نقلت صناعات عديدة اخرى.
وقد يكون هذا الواقع وما نتج عنه من انعكاسات سلبية والركود في الاقتصاد الاسترالي هو ما دفع رئيس الوزراء الاسبق بول كيتنغ الى اطلاق توصيف «جمهورية الموز» على استراليا التي بدأت تعاني من ازمات اقتصادية وازمات البطالة المرتفعة والغلاء المعيشي.

< تيرنبل «وجمهورية الموز»

بعد ان نجح مالكولم تيرنبل بتمرير قانون زواج المثليين بواسطة استفتاء بريدي أثيرت حوله الشبهات، يطرح رئيس الوزراء اجراء استفتاء بريدي آخر حول «استقلال استراليا» وتحويلها الى جمهورية، يأمل ان يكون اول رئيس للجمهورية فيها.
لكن اذا اعدنا قراءة الاوضاع العامة في البلاد نجد ان استراليا تعاني اليوم من ديون حكومية عامة تبلغ قيمتها 551،75 مليار دولار. وهي ديون رافقت عهود كثيرة وتراكمت بفعل سوء ادارة الاقتصاد العالم المتأثر بفقدان الكثير من مقومات القطاع الصناعي في استراليا نتيجة لرحيله الى دول العالم الثالث المجاورة.
كما تعاني استراليا من الانقسام السياسي الفاضح بين الاحزاب والتشكيك بهوية البرلمانيين الفيدراليين بسبب ثنائية الجنسية لدى العديد منهم. وتعصف بالاحزاب الكبرى الشكوك بسبب تلقي التبرعات السياسية من دول خارجية، وفي طليعتها الصين الشيوعية.
وتواجه استراليا ايضاً الانقسامات الاجتماعية بسبب تشريع زواج المثليين والتناقض حول كيفية ادارة شؤون البلاد في عالم يعاني من ازمات خطيرة مثل الارهاب واللجوء وازمة كوريا الشمالية والنزاع مع الصين واضطراب الاوضاع في الشرق الاوسط والاختلاف حول كيفية التعامل مع ظاهرة اللاجئين والانقسام حول الاسلام والتخوّف ان تؤدي التعددية الثقافية الى قيام تجمعات اثنية ترفض الاندماج داخل المجتمع وتفضل الانعزال في غيتوهات شبه مستقلة.
هذه بعض الأمور التي تقلق بال المجتمع الاسترالي وتهدد الاستقرار فيه… وضمن هذه الاجواء، يسعى تيرنبل الىتحويل استراليا الى جمهورية، اخشى ان تكون «جمهورية الموز» كما وصفها كيتنغ.
فمن هي القوى التي ستدير سياسة استراليا بعد انفصالها عن المملكة المتحدة؟
وهل المطلوب فك الارتباط مع العائلة المالكة لأن الحكومة العالمية اصبحت على الابواب؟
وكما انتجت الأمم المتحدة «اعلان ليما» في سنة 1975، ربما نشهد خلال السنوات المقبلة ولادة حكومة عالمية تدير شؤون العالم بأكمله؟
فالاحزاب والحكومات الاسترالية التي يشتبه بانتماءات وميول ومصداقية اعضائها وتعمل وفق برنامج «صنع في الخارج» مع قبعة استرالية، تقود الآن البلاد نحو المجهول. وقد يعقد تيرنبل معاهدات جديدة كمعاهدة «ليما» تلغي بالكامل شعار «استراليا، بلد الفرص والتناغم والسلام»…!؟