بقلم بيار سمعان

عندما هندس رئيس الوزراء مالكولم تيرنبل انقلابه على طوني آبوت في سنة 2015، كان العذر الأساسي الذي تقدم به ان آبوت فشل في 30 استطلاعاً للرأي من رفع شعبية الإئتلاف. وادعى تيرنبل ان بقاء آبوت في الحكم سوف يؤدي الى خسارة الإئتلاف في انتخابات 2016.
فهل اصبحت قيادة تيرنبل على المحك وهل اصبحت ايامه معدودة في الحكم بعد ان فشل في 30 استطلاعاً لرأي الناخبين؟
قبل الاجابة على هذه التساؤلات لا بد من استعراض اهم ماانجزته حكومة آبوت خلال اقل من سنتين ومقارنة هذه الانجازات مع ما حققه مالكولم تيرنبل.

< انجازات حكومة آبوت
استلم آبوت الحكم في ظل اجواء اقتصادية رديئة وازمة ضخمة من جراء تدفق امواج طالبي اللجوء غير الشرعيين الذين حاولوا دخول البلاد بواسطة القوارب.
كما كانت البلاد تعيش حالة من القلق الأمني نتيجة لتصاعد اعمال الارهاب وتهديد داعش بالثأر من بلاد «الكفّار» ومن ضمنها استراليا.
وقبل وصول آبوت الى رئاسة الحكومة، شهد حزب العمال الحاكم حالة من فقدان التوجهات السياسية وسيطرت النزاعات الداخلية على الحزب، مما افقد استراليا قرارها الحازم في جميع الأمور المذكورة اعلاه.
لذا عانت الميزانية العامة من الفائض في الانفاق وسجلت تراجعاً سلبياً. ودخل المياه الاقليمية ما يزيد على 50 الف طالب لجوء غير شرعي، وبدأت ظاهرة «المقاتلين الاجانب» وسفر شباب استراليين الى الشرق الاوسط للقتال في صفوف المجموعات الاصولية المتطرفة.

< آبوت والقرارات الحازمة
لم يتردد آبوت منذ الساعات الاولى لتسلمه الحكم من اتخاذ قرارات حازمة بشأن تدفق قوارب طالبي اللجوء. فأنشأ فرقة حماية الحدود واصدرت حكومته مواقف صريحة تمنع دخول اي لاجئ الاراضي الاسترالية بصفة غير شرعية. ووجه آبوت رساذل صارمة الى الحكم في اندونيسيا تنبه ان استراليا ستعيد القوارب من حيث اتت. كما اتخذت الحكومة قراراً ملزماً ان اي طالب لجوء غير شرعي لن تطأ قدماه الاراضي الاسترالية. ويشمل هذا القرار كل من وصلوا الى جزر مانوس وكريسماس آيلاند وناورو وبابوا غينيا الجديدة وغيرها.
بالطبع اثار الاعلام اليساري والمنظمات التي تدعي حماية اللاجئين موجة من الانتقادات لحكومة آبوت بحجة فقدان استراليا، على عهده، مشاعر التعاطف الانساني والرأفة بالمجموعات المغلوب على امرها. وتبين لاحقاً ان عدداً كبيراً من الواصلين بواسطة القوارب لا تنطبق عليهم مواصفات الأمم المتحدة للجوء.
ومن الامور الايجابية التي حققها آبوت هو التوقيع على معاهدات التبادل التجاري الحر بين استراليا وكوريا الجنوبية واليابان والصين والهند واندونيسيا. وامل آبوت من جراء هذه المبادرات تحسين الاقتصاد ورفع الدخل القومي العام في محاولة لاعادة الميزانية الى الفائض. كما قررت حكومة آبوت اعتماد سياسة خفض الانفاق في محاولة منها لعدم رفع الضرائب على المواطنين.

< تيرنبل يريد رئاسة الوزراء
كرر آبوت مراراً ان تيرنبل دخل السياسة بهدف واحد، هو الوصول الى رئاسة الحكومة. انتقل من حزب العمال والتحق بحزب الاحرار بعد ان رأى فرصة سانحة له لتحقيق احلامه الكبرى.
واستفاد من موقعه كوزير للاعلام والاتصالات ليوثق علاقته بشبكة الـ ABC التي يهيمن على ادارتها الفكر اليساري الملحد والذي يرى في ابوت زعيماً كاثوليكياً تقليدياً ومحافظاً.
وعملاً بمبدأ «حكيلي تا حكلك» بدأ تيرنبل يُسرب اسرار الحكومة للـ ABC مقابل مساعدته للاطاحة بـ آبوت.
وكان موضوع تشريع زواج المثليين الذي تصدى له آبوت من منطلق ديني واخلاقي ووطني، من القضايا الهامة التي عملت وسائل الاعلام على تأليب الرأي العام ضده بعد ان الزم الحكومة بضرورة اجراء استفتاء عام خلال الانتخابات لاستنباط آراء المواطنين حول هذا الموضوع الحساس والبالغ الأهمية.

< تيرنبل ينقلب على آبوت
ورغم ان آبوت تمكّن خلال مدة قصيرة من معالجة قضايا شديدة الخطورة، وبالرغم من انه تمكّن من اعادة رسم الهوية الاسترالية ووضع اقتصاد البلاد على السكة الصحيحة وفتح فرصاً عديدة لتصدير الانتاج الاولي من زراعة ومعادن ولحوم ومواد غذائية الى اسواق البلدان المجاورة التي تعاني من كثالة سكانية، ورغم انه فتح المجال امام تدفق الطلبة الاجانب للدراسة في استراليا، كما اصبحت استراليا محجة اولى للسواح من البلدان الآسيوية، لم ير كثيرون التوجهات الكبرى لرئيس الوزراء السابق طوني آبوت.
فهو، الى جانب ما ذكر، ألغ الضريبة على الكربون، لأنها ضريبة وهمية، ورفض ان تدفع استراليا مستحقات مالية لمعاهدة باريس للمناخ، وهي ايضاً ضريبة دولية تذهب للمتمولين العالميين لاجراء المزيد من الاختبارات للتحكم بالطقس. وهذا ما احتذى به الرئيس الأميركي ترامب لاحقاً.
غير انه جرى تصوير هذه القرارات على انه خروج على الارادة الدولية واعتماد نظرة مختلفة ورجعية للأمور.

< تيرنبل المنتصر الفاشل
عندما خرج مالكولم تيرنبل منتصراً بعد التسلّل الذي حققه عام 2015 ووصوله الى قيادة الإئتلاف اعلن في خطاب النصر الذي حققه ان حكومته تمثل في النهاية قيماً ليبرالية حقيقية. واكد في كلمته ان حكومته ستكون حكومة احرار تلتزم كلياً بالحرية: الحرية الفردية وحرية السوق. وانها ستركز خلال السنوات القادمة على الاستفادة من التنافسية في الاسواق العالمية.
غير ان تيرنبل الذي وضع كل «بيضات استراليا» في سلة الولايات المتحدة، دفعت استراليا بسببه ثمناً باهظاً بعد انسحاب ترامب من معاهدة التبادل التجاري الحر لدول الباسيفيك، و اتخاذه موقفاً معادياً للصين وهي المستورد الاول للمنتوجات الاسترالية، ضارباً عرض الحائط اتفاقية التبادل التجاري الحر معها، ولم يتمكن تيرنبل وحكومته ان يقول «لا» للقوى الخارجية، خوفاً على موقعه القيادي الذي اقتنصه خلسة من طوني آبوت، ولم يحصل عليه نتيجة للإنتخاب الشعبي. اثبتت انتخابات 2016 انه وحكومته عاجزان عن اقرار اية قوانين بدون دعم الاحزاب الصغرى والمستقلين داخل البرلمان ومجلس الشيوخ.
ورغم الوعود التي اطلقها تيرنبل حول دعم المبادرات الفردية في سوق تتميّز بالحرية، لم يتردد تيرنبل منفرض ضرائب جديدة على الافراد والشركات، وهي الآن بين اعلى معدلات الضرائب في العالم. واصبحت الحياة في المدن الاسترالية من الأغلى في العالم. ويدفع متوسطو الدخل الفردي ما يقارب 18 الف دولار كضريبة سنوية مباشرة، يضاف اليها الضريبة على السلع والخدمات وضرائب اخرى غير مباشرة.
ورغم ادعاء رئيس الوزراء ان بعض الضرائب هي مرحلية. لكن يبدو انها اصبحت ضرائب ثابتة. ثم جاءت الضريبة على المصارف التي ستضيف حتماً زيادة الفوائد على القروض وفرض رسوم اضافية على المستهلكين. لأن من يتحكم بالمال يتحكم ايضاً بالقرار السياسي والحركة الاقتصادية في البلاد. هذه الضريبة على المصارف لن تؤثر على ارباحها لأنها ستفضي دون شك الى رفع قيمة الرسوم والفوائد على المستهلكين مثل اية ضرائب اخرى.

< زيادة الانفاق
الضرائب ليست هي الأمور الوحيدة التي بلغت مستويات عالية. فالانفاق الحكومي بلغ الآن ما يزيد على 26 بالمئة من الدخل القومي، وهو يفوق الايرادات بنسبة 5،4 (حسب احصاءات 2016). ومن المتوقع ان يتابع ارتفاعه خلال السنوات القادمة.

< الديون العامة
الدين القومي بلغ ايضاً حدوده القصوى. اذ يسدّد دافعو الضرائب مليار دولار شهرياً لفوائد على الديون العامة. وتصل ديون الحكومة الفيدرالية وحدها الى 65 الف دولار لكل اسرة استرالية. ويبدو ان الحكومة لا تبالي كثيراً لمعالجة هذه الديون.ويعتقد خبراء اقتصاديون ان مسار الانفاق لدى الحكومة سوف يتطلب منها مضاعفة الضرائب على الطبقة المتوسطة بحلول عام 2050، اذ تبلغ الديون المتوجبة على كل اسرة، ما يزيد على 130 الف دولار سنوياً.
تيرنبل الذي لا يبالي بتردي الاوضاع الاقتصادية ويضع الملامة على مجلس الشيوخ الذي يعيق عمل الحكومة، هو من جهة لا يخشى على مصير رأسماله المستثمر في بورصة نيويورك وشركات دولية، ولا يدفع بالتالي اية ضرائب. ومن ناحية اخرى تفضح سياسته فشل حكومته في معالجة الدين العام والوضع الاقتصادي في البلاد.
على عكس جون هاورد وبيتر كوستيلو اللذين واجها مجلس شيوخ متقلب ومناوئ لكنهما تمكنا بحنكتهما من فرض تخفيضات كثيرة في الانفاق الحكومي، وحقق الاثنان اكثر بكثير مما يحلم به تيرنبل. وتمكّن الاثنان من نقل الميزانية من عجز بلغ آنذاك حوالي 500 مليار دولار ليعيدا تسليم الحكومة العمالية ميزانية مع فائض يزيد على 110 مليار دولار. فقدرة هاورد وكوستيلو تظهر مدى عجز تيرنبل على ادارة اقتصاد وسياسة البلاد.
تيرنبل لم يأت بأي جديد منذ تسلّم الحكم في عام 2015. بل على العكس، فهو لم يعالج ازمة الكهرباء، وابطل استخدام الفحم الحجري، وهو ثروة وطنية لاستراليا، من اجل انتاج الطاقة الكهربائية الرخيصة، وفي حين تقوم 200 محطة في الصين بانتاج الطاقة الكهربائية بواسطة الفحم الحجري (الاسترالي) وتبني اليابان 6 محطات جديدة، يريد تيرنبل اقفال المحطات القائمة بحجة خفض التلوّث مع العلم ان استراليا تنتج 0،4 بالمئة من نسبة التلوّث في العالم، وهذا يعود لاسباب عديدة لا علاقة لها بانتاج الطاقة وحدها، مع العلم ان تيرنبل قبل بتوصيات معاهدة باريس المناخ وسدّد الرسوم الاسترالية، للحفاظ على مركزه.
وعملاً بتوصيات مؤتمر باريس والاتفاقية التي توصلت اليها الدول الاعضاء (ترامب انسحب منها) لم تلتزم العديد من الدول الأكثر انتاجاً للانبعاثات الحرارية باعتماد اية تدابير لخفضها. ولم تتعهد على سبيل المثال كل من الهند والصين وايران والمملكة العربية السعودية واندونيسيا بخفض التلوّث لديها. وفي حين تعمل هذه الدول الى تحسين صناعاتها وتطوير محطات انتاج الطاقة. يبدو ان تيرنبل لا يبالي بالاقتصاد الاسترالي وتراجعه في السوق العالمية كما انه لا يبالي بارتفاع سعر الكهرباء وزيادة الاعباء على المواطنين.

< الخوف على الحريات الديمقراطية
ولا يتوقف الأمر على الضرائب والدين العام والانفاق واسعار الكهرباء والطاقة. فعلى الرغم من ادعاءات تيرنبل ان حزب الاحرار، كما وصفه تيرنبل، يؤمن بهذه الحريات الاساسية للديمقراطية البرلمانية، وحرية الفكر والعبادة ، وحرية التعبير وتأسيس الجمعيات، اظهر تيرنبل عدم التزامه بمبادئ الحزب الديمقراطية، خاصة بعد نجاحه في تشريع زواج المثليين، دون توفير الضمانات لحرية الاديان ولسائر الحريات الفردية.
كل ما يقلق تيرنبل الآن هو ارضاء المستقلين والاحزاب الصغرى لتمرير بعض القوانين، بعد ان الغى الفروقات العقائدية بين حزب الاحرار والاحزاب الاخرى. فتحوّل حزب الاحرار المحافظ الى حزب قريب من العمال، بينما اضمحلت الفروقات بين العمال وحزب الخضر. على الصعيد الداخلي رفع تيرنبل عدد الوزراء داخل حكومته ليكسب تأييد اكبر عدد ممكن ويمنع الانقلاب عليه بعد فشله في 30 استطلاعاً للرأي.
كما عمل من جهة اخرى على اقصاء المعارضين المحافظين واسناد حقائب خارجية لخصومه مثل جو هوكي، ولمن يشكلون خطراً على بقائه في موقع القيادة، كما حصل مع جورج براندس الذي جرى تعيينه مفوضاً سامياً لاستراليا في المملكة المتحدة.
لقد باءت كل جهود مالكولم تيرنبل بالفشل بعد ان خسر ثقة الناخبين، رغم ادعاء محطة سكاي نيوز منذ يومين انه اجرت استطلاعاً لرأي المواطنين ووجدت ان 60 بالمئة يؤيدون بقاء تيرنبل في قيادة الإئتلاف. مرة اخرى يحاول تيرنبل الكذب بالارقام، كما فعل في الاستفتاء على زواج المثليين.
القرار اليوم هو بيد نواب حزب الاحرار. فهل يعاقب تيرنبل ويرحل لأنه كان خطأ تاريخياً في السياسة الاسترالية. ليس المطلوب عودة طوني آبوت، بل رحيل مالكولم تيرنبل.
تيرنبل لم يخن فقط طوني آبوت، بل هو يخون يومياً الشعب الاسترالي.
ومَن يفشل في 30 استطلاعاً للرأي عليه ان يجمع حقيبته ويرحل.