بقلم بيار سمعان

منذ سنتين، وعندما بدأ البحث الجدي في كيفية استخراج الغاز من المياه الاقليمية، ابديت رأيي في قضية دخول لبنان في قطاع انتاج النفط..

يرى كثيرون ان استخراج الغاز من البحر الابيض المتوسط سيبدل الواقع الاقتصادي  وينقل البلاد من القطاع السياحي الخدماتي والاعتماد على الزراعة ليصبح لبنان  من الدول المنتجة لأفضل انواع الغاز، حسب رأي الخبراء.

تساءلت منذ سنتين : هل سيكون انتاج الغاز نعمة ام نقمة على لبنان؟ وعوضاً ان يأتي بالخير والبحوحة، هل سيجلب الغاز الويلات على الوطن الصغير…؟!

لا أظن ان كثراً أدركوا انذاك حجم المخاطر التي حذرت،  من حدوثها حسب رأي المتواضع، لأسباب جوهرية عدة اهمها التالية:

> اطماع اسرائيل التوسعية:

لا ينكر احد ان لاسرائيل مطامع تاريخية في المنطقة. وتعتمد بذلك على نصوص توراتية ان الله وعد ابراهيم ان يهبه الارض التي تطأها قدماه. فهو جاء من «اور» من بلاد ما بين النهرين وعبر في معظم الدول العربية. ثم اتجه الى مصر واستقر في فلسطين. فاسرائيل الكبرى حسب اعتقادهم ستمتد من النيل الى الفرات، والصهيونية العالمية ملتزمة بهذه الخطة.

قد يعتقد البعض ان هذا ضرب من الخيال. لكن لنتذكر ان فروقات شاسعة بين الذهنية العربية، الشرق اوسطية والمخططات الصهيونية. وفي حين يتفاعل العرب مع احداث اليوم، يخطط الصهاينة لمئات السنين مسبقاً ويعملون على تحقيق اهدافهم جيلاً بعد جيل.

الاحتلال ليس بالضرورة الاستيلاء على الارض، لكن بالامكان فرض حكام يعملون لصالح الدولة الاسرائيلية. كما بامكان الصهاينة، عبر التحكّم بخيرات الشرق الاوسط وافتعال الحروب والخلافات، انهاك هذه الشعوب وارغامها على القبول بالأمر الواقع.

نتساءل على سبيل المثال: اين كانت القضية الفلسطينية منذ عشرات السنين واين اصبحت اليوم؟ وكيف كانت مواقف الشعوب والقادة العرب منها وكيف تحولت الآن؟  وردد فعل العرب على اعلان القدس عاصمة لاسرائيل هو افضل دليل على التبدّل في موافقهم.

كما اتساءل كيف ستكون بعد عشر او عشرين سنة من اليوم، اذ لا يبدو اننا متجهون نحو الحل السلمي وايجاد حلول جذرية لهذه المشكلة،  وهي واحدة من المشاكل التي يواجهها العرب بمواقف متناقضة ومتضاربة في الرؤية والتوجهات والممارسات والقرارات السياسية.

ولنتذكر ان جميع الدول المجاورة لاسرائيل هي مضطربة وتعاني من الحروب والثورات وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وان موجة الهجرة واللجوء تتعاظم يوماً بعد يوم.

< الشعب المختار:

لا يزال معظم الاسرائيليين، داخل اسرائيل وخارجها، يؤمنون انهم «شعب مختار» من العناية الالهية، وان مقولة «خير امة اخرجت الى العالم» هي مستوحاة من عقيدتهم وتراثهم الايماني. والأصل بنظرهم هو افضل من الفرع واصدق منه. باعتقادهم. فوحدة «الكتاب» و«الارض» والعهد الإلهي وصفاء «العرق» (؟) يجعل منهم امة مميزة، رغم تشكيك غيرهم بصحة هذه الادعاءات. لذا يعمل ابناء هذا الشعب اينما اقاموا او عملوا على تحقيق «الوعود» ولبناء دولة اسرائيل الكبرى التي ستصبح قادرة مستقبلاً على التحكّم بسياسة العالم، وفرض حكومة عالمية واحدة، وديناً واحداً واقتصاداً واحداً يتحكمون من خلاله على خيرات العالم. فتتحول سائر الشعوب الى مجرد أجراء لديهم، حسب الايمان التلمودي.

< اسرائيل لا تعترف بمياه اقليمية.

وبناءً على خلفية ما ذكرت، لا تعترف اسرائيل بوجود اية تحديدات داخل المياه الاقليمية. وهي لم توافق على الترسيمات التي وضعتها الأمم المتحدة، ولا تعترف بقراراتها او تلتزم بها، الا في حال كانت تتلاءم مع مصالحها.

فلا تعترف اسرائيل بحقوق لبنان، ومصر وسوريا وفي الثروات داخل المياه الاقليمية الخاصة بها، وهي تطمع، على المدى البعيد، بالاستيلاء على آبار الغاز الموجودة في هذه المياه، وصولاً الى المياه الاقليمية السورية شمالاً والمصرية جنوباً.

وكانت تأمل اسرائيل ان يجرى الاطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الاسد، لكن دخول روسيا على خط النزاع بدّل جميع المخططات والمشاريع الاستنزافية، دون ان يضع حداً لها. فبعد الحديث عن قرب اعادة اعمار سوريا، وقعت مجددا البلاد في موجة جديدة من الصراعات مع توحيد المجموعات المتطرفة ودعمها بالمال والسلاح، ودخول القوات التركية الى الداخل السوري، بحجة منع قيام دولة كردية، تهدّد وحدة الاراضي التركية.

< اسرائيل السبّاقة في انتاج وتسويق الغاز.

منذ اربع سنوات بدأت اسرائيل تستثمر حقل «تامار» الذي يبعد 35 كلم من الحدود الجنوبية البحرية للبنان. ووقعت مجموعات شركات عقداً بقيمة 20 مليار دولار لتصديره الى مصر طوال 15 عاماً كما وقعت اتفاقاً آخر بقيمة 10 مليار دولار لتصدير الغاز الى الاردن من حقل لينياثان. وتسعى الى استخراج الغاز من حقلي كاريش وتانين. وكاريش لا يبعد سوى 4 كلم عن الحدود اللبنانية وقد يكون واحداً مع البلوك 9» حسب التخطيطات اللبنانية.

وكانت اسرائيل قد اجرت تفاهماً مع قبرص واليونان والحكومة الايطالية لمدّ انابيب الغاز عبر البحر وصولاً الى اوروبا.

اما لبنان، فلا يزال في تأخر مزمن ولم يصل الى مرحلة تلزيم عقود التنقيب. ولا يعرف بعد ما هو الموعد الدقيق للبدء بعمليات الحفر.

ويعتقد خبراء ومحللون في شؤون النفط والغاز ان اي طرف لن يتمكن من الاستثمار في المنطقة المتنازع عليها حدودياً بين لبنان واسرائيل قبل التوصل الى حل هذه الخلافات. فهل سيفاوض لبنان اسرائيل مباشرة ام بواسطة اطراف وسيطة كما حدث مع وزير خارجية اميركا – تيليرسون؟ المقاطعة مع اسرآئيل لا تزال قائمة كما هو معروف، فهل سيتمكن لبنان من تجاوز ما اصبح عرفاً؟ وبدل التفاوض، واتخذ الخلاف حول «البلوك التاسع» طابع التحدي. فاعلن لبنان انه لن يتنازل عن حقوقه في المياه الاقليمية، فيما هدد «حزب الله» بحماية المنصات اللبنانية وضرب الاسرائيلية في حال تعرضت المصالح اللبنانية للخطر، الخوف ان تؤدي الاجواء المتوترة الى ابعاد الشركات الدولية عن التنقيب في المناطق المتنازع عليها. وتدخل زيارة وزير الخارجية الاميركي الى لبنان كمحاولة لطرح حلول للخلاف القائم بين البلدين حول البلوك 9، حفاظاً على المصالح الاسرائيلية، دون اثارة الجانب اللبناني.

ويعتقد ان اسرائيل التي بدأت استخراج الغاز في اربعة مواقع ليس من مصلحتها الدخول في نزاع مسلح مع لبنان الذي لا يملك شيئاً في البحر سوى خرائط ترسيم وعقوداً لا تزال حتى اليوم حبراً على ورق.

< تأخر لبنان في انتاج الغاز

الصحيح هو ان تأخر لبنان في البدء بعملية التنقيب والانتاج، يعني اولاً فقدان جاذبية هذا القطاع الى الشركات المستثمرة، كما يعني ايضاً فقدان القدرة على اكتشاف مكامن النفط والغاز المشتركة، وبالتالي خسارة القدرة على تلافي المخاطر المحيطة بأنشطة دول الجوار في هذا القطاع. فاحتمال التهويل بتوجيه ضربات جوية لمنصات التنقيب سوف تبعد المستثمرين وتعيق عملية استخراج الغاز اللبناني.

واسرائيل التي بدأت تضخ الغاز في اكثر من اتجاه سوف تستفيد من هذا التأخير لتحكم قبضتها على الانتاج النفطي. وتثبت وجودها في السوق العالمية. وتكون بذلك قد حققت فوزاً مباشراً على لبنان ودول الجوار، وعلى الدول المنتجة للغاز بشكل عام.

< الغاز الصخري

مع تقدّم التقنيات بدأت اكثر من دولة استخراج الغاز «الصخري». وهذا سيجعل اميركا بلداً مصدراً للغاز خلال فترة وجيزة. كما علت اصوات في المانيا وفرنسا لاستخدام هذه التقنيات لاستخراج الغاز الصخري في هذه الدول. وهذا سيقلّل ، في حال نجاحه ، من اعتماد اوروبا على الغاز المستورد، وبالتالي الغاز اللبناني.

وبعد الاتفاقية التي ابرمتها اسرائيل مع قبرص واليونان لمدّ انبوب بحري يصل الى اوروبا، يبقى السؤال الجوهري: كيف واين سيسوق لبنان انتاجه من الغاز، في حال بدأ استخراجه في المياه الاقليمية؟

حتى هذه الساعة، لا يزال لبنان خارج المعادلة. فالنزاع اللبناني السوري (حزب الله / الاسد) مع تركيا سيجعل تمرير انابيب الغاز عبر تركيا الى اوروبا، من الامور الصعبة، خصوصاً ان لبنان يعاني من انقسامات داخلية سياسية وخلافات على توزيع مردود الغاز اللبناني. وقد نصل الى نهاية حزينة مفادها ان جيلنا الحالي لن يكون على قيد الحياة عند استخراج النفط والغاز والاستفادة منهما، فيما انجزت اسرائيل استخراجه من عدد من الآباز  وبدأت تسويقه عالمياً، في غضون 5 سنوات.

< اين ستذهب اموال النفط؟

من الواضح ان جميع القوى السياسية مجمعة حول ضرورة استخراج هذه الثروة الطبيعية الوطنية الا ان التحدي الكبير يكمن في كيفية استغلال لبنان لهذه الثروة وفي كيفية الاستفادة الوطنية من عائداتها.

فلبنان المرهق بالديون (80 مليار دولار) والغارق في الفساد والهدر وسوء الادارة في معظم القطاعات والمبني على المحاصصة بين الطوائف التي تختصرها زعامات، يعيش تحديات كبيرة ومصيرية متى بدأ فعلاً استخراج النفط والغاز الطبيعي، هذا في حال تمكن لبنان من ايجاد اسواق تشترى انتاجه من الغاز.

فاستخراج الثروة النفطية سيشكل تحولاً في طبيعة لبنان وهو البلد الذي يشكل فيه قطاع الخدماتي ركيزة اساسية في ظل اهمال القطاعات الانتاجية الاخرى، خاصة الصناعية.

فعلى المسؤولين الأخذ بعين الاعتبار كل التحديات والمعوقات الخارجية والداخلية على حد السواء. فاستخراج النفط، يجب ان يرافقه وضع حدّ للهدر والفساد والمحسوبية، كما يجب التوصل الى تفاهم مباشر او غير مباشر مع اسرائيل حول مناطق النزاع، ومحاولة اعادة كسب ثقة العالم اننا بلد تسوده الشفافية الادارية وعدم الهدر والاستغلال لاموال خزينة الدولة، لأن في ذلك مؤشرات سلبية على صورة البلد بأكمله ودافعاً سلبياً لعدم الاستثمار فيه او التعاون التجاري معه، خصوصاً ان المزاحم الرئيسي هو بلد مجاور له نفوذ قوي على الساحة الدولية ورؤية مستقبلية يعمل على تحقيقها بشتى الوسائل وعلى مختلف المستويات مهما كان الثمن.

فهل الدولة قادرة على مواجهة هذه التحديات واعتماد الشفافية ليس في قطاع النفط وحده، بل على كل المستويات؟ لحسن الحظ ان لبنان لا يزال يتمتع بحرية الرأي والاعلام وبشريحة واسعة من المثقفين من ذوي الكفاءات اللازمة لوضع سياسة الانتاج النفطي على مسارها الصحيح والوقوف في وجه مَن يحاولون التلاعب بمقدرات وآمال اللبنانيين.

وقد يكون سلاح حزب الله المدعوم ايرانياً وسورياً وروسياً عنصراً هاماً لردع اسرائيل من القيام بأية مغامرات عسكرية والحؤول دون استخراج خيرات لبنان النفطية..؟!

ان قدرة لبنان  على الاستفادة من خيراته النفطية يعني برأيي بداية هزيمة اسرائيل الكبرى.