كنت حينما أصل الى مكتبي في الصباح يأتيني موظف استرالي من القسم المجاور يسألني الاطلاع على صحيفة سيدني مورنينغ هيرالد التي احضرها معي كل يوم.. وهذا الموظف لا يقرأ سوى قسم الوفيات.. سألته يوماً لماذا هذا الاهتمام الزائد بقراءة الوفيات فقال: ان قريبه المريض في المستشفى المصاب بمرض خطير ينتظر موته بين لحظة واخرى ولكن يبدو ان روحه طويلة فقد عاش اكثر مما توقعه الاطباء.
اندهشت سائلاً اصدقائي الاستراليين في المكتبة لماذا لا يذهب هذا الشخص الى قريبه في المستشفى ليسأل عنه ويودعه بدلاً من ان ينتظر قراءة خبر وفاته في الصحيفة حتى يحضر جنازته.. لم يشاركني اصدقائي في العمل هذه الدهشة.. قلت لهم: الى هذه الدرجة وصلت برودة الاعصاب وجفاف العاطفة بل وانعدام الانسانية بين الاقارب والاصدقاء.. لماذا لا يذهب صديقنا هذا ويزور قريبه في المستشفى .. فكان ردهم انه لا داعي لذلك ويكفي معرفة الخبر في الصحيفة.
بعد مرور ما يقارب الشهرين على قدومه لي صباحاً توقف صديقنا فجأة عن القدوم الى مكتبي لاستعارة الصحيفة فعرفت ان قريبه قد مات.. وحينما قابلته اردت ان استوثق من معرفتي فقال: نعم وحرقت جثته لهذا لم اعد أتي لقراءة الخبر.. فقد قرأته في الصحيفة اثناء غيابك عن العمل.
اردت ان اعرف المزيد عن طبيعة هذا الزميل فقلت له: هل كان الراحل مؤمناً؟ قال نعم. قلت له: وهل أنت مؤمن؟ فأجاب : لست ادري.
هنا عرفت ان مصيبة بعض الاستراليين هي العواطف المثلجة البعيدة عن الإيمان.. فالإيمان اعظم موهبة يمكن ان يعطيها الله لإنسان.. بل ويمكن القول انه من الأفضل ان يكون الإنسان مريضاً ومؤمناً على ان يكون معافى غير مؤمن.