بقلم بيار سمعان
بعد الانتهاء من عملية الاقتراع سأل مراسل القناة التاسع احدى المواطنات الاميركيات في نيويورك عن تعليقها على هذه الانتخابات، فأجابت بعفوية وصراحة: «لقد ادليت بصوتي لأحد المرشحين وانا آسفة لذلك». وتساءلت لماذا لم يجر اختيار غيرهما (اي كلينتون وترامب)؟ ان عدد السكان في الولايات المتحدة يزيد على 300 مليون نسمة. فلماذا فرض علينا ان نختار بين السيء والأسوأ؟.
لا شك ان وصول دونالد ترامب الى البيت الابيض بأكثرية 57 بالمئة قد اثار ردود فعل عديدة في الداخل الاميركي وعلى الساحة الدولية. فلماذا جرى وصول ترامب في هذه المرحلة بالذات الى رئاسة البلد الذي يقود العالم؟
< ترامب الرئيس النقيض لـ اوباما.
يناقض دونالد ترامب الرئيس المنتهية ولايته باراك اوباما في امور عديدة على المستوى الشخصي والسياسي العام.
فترامب ينتمي الى عائلة عريقة ومعروفة للغاية بعكس باراك اوباما الذي عملت الاجهزة المخابراتية طوال السنوات الاولى من عهده على تثبيت هويته واصوله ومعتقداته وانتماءاته العرقية والدينية.
وفيما جرى تصوير اوباما انه الرئيس «الأسود» الاول ويمثل القسم المحروم والمضطهد من الشعب الاميركي، يرمز ترامب علىعكسه الى الانسان الاميركي الابيض والمثالي، صاحب الجذور العميقة في التكوين التاريخي للولايات المتحدة. فترامب بعكس اوباما، لم يظهر فجأة على الساحة السياسية رغم اولوياته الاقتصادية التجارية. فقد طرح اسمه منذ مطلع عمره كرئيس للولايات المتحدة «بالقدرة»، اي ان الاجهزة كانت تعد لهذا الدور الذي سيقوم به اليوم وطول 6 سنوات اذا كتبت له الحياة…!!
ويختلف ترامب عن اوباما في امور عديدة اخرى». سعى اوباما طوال حكمه الى تنفيذ ما رسم له. فدعم مع دول اخرى عمليات التضييق على روسيا ومحاولة عزلها وفرض قيود اقتصادية عليها، فيما يدعو ترامب الى تحسين وتوطيد هذه العلاقات مع ثاني اهم الدول. وترامب لا يكن اية عداوة لأي بلد وبالامكان التعاون مع الجميع من اجل خير ومصلحة الجميع.
كما عمل اوباما، خاصة خلال السنوات الماضية على تسليح الدول العربية، وفي طليعتها المملكة العربية السعودية، بحجة مواجهة ايران والمد الشيعي في المنطقة، وانشأت اجهزة المخابرات الاميركية تنظيم «داعش» وسلحته بحجة دعم اخصام الرئيس السوري بشار الأسد.
ويدرك ترامب جيداً ان تنظيم «داعش» ينفذ خطة اسياده من اميركيين واسرائيليين وسمح له اجراء تعديلات جغرافية وديمغرافية في العراق وسوريا وتسبّب بموجة من اللجوء والنزوح ستكون سبباً لويلات ومشاكل مستقبلية في الدول التي يستقر فيها اللاجئون.
ويفهم من تصريحات ترامب انه غير مقتنع بهذا النوع من السياسة التخريبية القائمة على العنف وسفك دماء الابرياء، وهو يرفض مبدأ التطرف والاصولية التي تغذيها المخابرات بطرق مباشرة او غير مباشرة. ولا يستبعد ان يجري مفاوضات مع بوتين للقضاء عليها بشكل نهائي، بعكس ما يجري اليوم من مساعي الحلفاء لاستيعاب دولة الاسلام وتحديد مسارها وتمددها الجغرافي ورسم معالمها المستقبلية.
ويختلف ترامب عن اوباما في امور داخلية عديدة، فهو مع سياسة الحياة ويعارض الاجهاض، ومع العائلة وضد المثليين، ومع الحفاظ على المبادئ والتقاليد المسيحية ويعارض تهشيم دورها واهميتها في المجتمع.
ويعترض ترامب على النظام الصحي الذي حاول اوباما فرضه على الاميركيين والزامهم بقبول «زرع المايكروشيب» شرطاً لحصولهم على الرعاية الصحية.غير ان ترامب يرى انه من حق كل مواطن الحصول على هذه الرعاية دون قيد او شرط.
فكيف يمكن فهم اسرار الفوز الكاسح الذي حققه دونالد ترامب رغم محاربة الاعلام الاميركي له؟
< سر فوز ترامب؟
يتساءل الناس حول سر فوز ترامب في الانتخابات الاميركية، رغم ان استطلاعات الرأي كانت تنبئ بفوز خصمه هيلاري كلينتون.
غير ان ترامب فاجأ، لا بل صدم العديد من السياسيين والمنظمات ووسائل الاعلام والقادة العالميين. وهذه بعض الاسباب التي ساعدت في فوزه الكاسح.
< القومية في مواجهة العولمة.
طرح دونالد ترامب نفسه وآراءه للشعب الاميركي كمرشح وطني بنى طروحاته ومواقفه على اولوية المصالح القومية للشعب الاميركي.
ورغم كل استطلاعات الرأي والتحديات وآراء الخبراء السياسيين، تمكن ترامب من استمالة وتأييد الناخبين. رغم ان البعض قارنوا خطابه بالفاشية اذ بدا لهم متطرفاً. ولا يستوعب البعض ان تكون قومياً في زمن العولمة، خاصة بالنسبة لبلد مثل الولايات المتحدة التي لا تضع حداً لسياستها الخارجية وتتصرف ادارتها على ان العالم هو قرية صغيرة يجب التحكم به.
غير ان المتعمق في آراء ترامب يجد انه قومياً وليس فاشياً، رغم ان القومية تبدو احياناً اقرب الى الفاشية الانعزالية.
وادار ترامب حملته الانتخابية تحت شعار كبير: «لنجعل اميركا دولة عظمى مجدداً». ورغم كل الانتقادات لهذا الشعار، يبدو انه وجد استحساناً لدى عامة الاميركيين، واعطى مفاعيل لصالح ترامب في مواجهة العولمة.
فالعولمة هي في آخر المطاف فلسفة اقتصادية لا تقف الحواجز والحدود عائقاً في وجه حركة الرأسمال الحر حول العالم.
هيلاري كلينتون تريد فتح الحدود والمشاركة الفعلية للولايات المتحدة في تحديد سياسة العالم وارسال القوات الاميركية الى الخارج لحماية المصالح الاميركية.
من هنا احس الاميركيون بخطورة طروحات كلينتون، خاصة عندما هددت بشن حرب ضد روسيا. ادرك الاميركيون عندئذ ان انعاش القومية هو افضل بكثير من تبني سياسة العولمة، خاصة بعد التحذيرات التي اطلقها الزعيم الروسي فلاديمير بوتين حول خطورة وصول كلينتون الى البيت الابيض وامكانية اندلاع حرب عالمية ودعا الشعب الاميركي الى حسن اختيار رئيسه محذراً القادة الاوروبيين من مغبة التبعية للولايات المتحدة والانزلاق الى سياستها الخارجية الخطرة.
الى جانب هذه المخاطر، ادرك الشعب الاميركي ان العولمة هي مضرة لأميركا بعد ان انتقلت آلاف المصانع الى الخارج بحثاً عن يد عاملة رخيصة وشروط عمل متراخية. خسر الاميركيون العديد من فرص العمل، كما جرى نقل الاموال الطائلة الى الخارج للتهرّب من دفع الضرائب ، خاصة اموال الـ 7 بالمئة من الاميركيين وهم يمتلكون 70 بالمئة من الدخل الوطني العام ومن السيولة المالية. وهذا ما جعل الطبقة الوسط والدنيا تتحمل اعباء الضرائب ومواجهة العمال الاميركيون وحدهم للضغوطات العملية الناتجة عن مضاربات الخارج والمزاحمة في الاسواق المحلية والعالمية.
لذا وجدت الولايات المتحدة نفسها غارقة في النزاعات والتحديات السياسية دون ان يهاجمها احد او يستفزها.
لقد تعب معظم الاميركيين من هذه الفلسفة التي تتبناها هيلاري كلينتون. ويبدو ان اغلبية مؤيدي ترامب صوتوا له بسبب الاحباط في سياسة اوباما والتي ارادت كلينتون الاستمرار في تطبيقها.
واستفاد العالم من تراجع النفوذ الاميركي فيما جلس اوباما متفرجاً مع وزيرة خارجيته السابقة كلينتون.
< ترامب في مواجهة كلينتون
بالنسبة لمعظم الناخبين، تمثل هيلاري كلينتون استمرارية عهد ارتكب الكثير من الاخطاء في سياسته الداخلية والخارجية على حد السواء. ولم تتمكن من طرح برنامج يعدل المواقف المسبقة لدى الاميركيين.
فاصبحت كلينتون مصدر قلق وازعاج للشعب الاميركي.
وطرحت كلينتون نفسها وكأنها المنقذ لعهد شاركت في صناعته، فبدت متجبرة، متعالية ومليئة بالتناقضات. كان ظهورها في المهرجانات مبرمجاً للغاية، وجرى دراسة خطواتها، ملبسها ، كلامها، مظهرها الخارجي وكل تحركاتها.. وكل ما هو مبرمج هو اصطناعي. على العكس بدا ترامب عفوياً، طبيعياً صريحاً في آرائه وشخصانياً للغاية. طرح سياسته العامة وافكاره الخاصة مباشرة على الناس، وهم قادرون على استنباط ما هو مصطنع وما هو عفوي وصريح.
لقد تمكن ترامب من مخاطبة الناس مباشرة ونقل مشاعرهم وتخوفاتهم وكأنه واحد منهم. تحدث في السياسة والدين والاخلاق وطرح آراءه حولها وهي آراء عامة المواطنين. اصغوا اليه وشعروا انه واحداً منهم، يتحدث لغتهم ويتحسس قلقهم ويدغدغ مشاعرهم القومية مباشرة.
لهذا اخطأت مؤسسات استطلاع الرأي لأنهم لم يدركوا التحولات العميقة التي انطلقت مع مهرجانات ترامب.
لقد انتصر ترامب لأنه كان قادراً على فهم حقيقة ما يجري في شوارع اميركا وقدم نفسه للشعب الاميركي وكأنه واحداً منهم، فيما سعت كلينتون الى اقناع الاميركيين بسياسة عانوا منها طوال عهدين.
لقد فاز ترامب لأنه يمثل المواطن الاميركي المثالي والشعبي والمتمايز رغم قربه من الشعب.
البعض قد لا يحبونه، وبدا ذلك منذ ساعة اعلان فوزه، اذ نزل الآلاف الى الشوارع للتظاهر ضده. آخرون قد لا تعجبهم شخصيته الانفعالية والمتسرعة. ترامب لم يتخرج من السلك السياسي بل هو دخيل عليه، لكن من الآن وصاعداً على جميع المؤسسات والدول والقادة ان يعتادوا على هذا الرئيس الجديد الداخل الى البيت الابيض حاملاً معه منحاً جديداً في رؤية الاحداث وفهمها والتعامل معها.
فهل ينتصر ترامب ويحكم بأمان ام ان المؤسسات والسياسات القائمة والتي تدير بالخفاء اللعبة السياسية هي قادرة على استيعابه وترويضه او، في أسوأ الحالات: التخلص منه؟؟
ربما المطلوب الآن اعادة انعاش الروح القومية والمشاعر الدينية في مواجهة ظاهرة التطرف الاسلامي المتمثل بـ «داعش» واحلام السيطرة على الغرب.