بقلم هاني الترك OAM

عام 1949 وصل المهاجر المجري جولتان طوري إلى استراليا وعمل في المصانع .. وذات يوم وبعد عامين بينما كان يعمل في المصنع وقعت له حادثة أفقدته نظره.. كان عمره آنذاك 21 عاما .. ورغم عماه تعلم وأصبح أخصائيا نفسيا .. وفي كتاب صدر له يحمل عنوان Out of Darkness يسرد فيه ذكرياته بعد إصابته بالعمي.. ويقول انه تغلب على فقدان بصره ببصيرته.. فقد استخدم حواسه بطريقة أوسع.. ونما ذكاؤه وأصبح يتمتع بشعور آخر تعويضاً عن فقدانه بصره.. أخذ يتبحر في ذاته محاولا حلّ لغز العقل البشري.. وتحول عجزه البصري إلى قدرات فائقة وموهبة فذة .. ولكن بالطبع لا يعرف أحد من البشر أو العلماء كيفية عمل العقل البشري.. فهو لغز مغلق على الإنسان.
وفي الواقع هناك عباقرة في التاريخ كانوا مكفوفين .. فمنذ فجر التاريخ في القرن التاسع قبل الميلاد كتب الشاعر اليوناني العظيم هوميروس ملحمتي الإلياذة Illiad والأوديسا Odyssey وكان أعمى.
وكذلك فإن الروائي الأيرلندي جيمس جويس الذي عاش بين الأعوام 1882 و 1941 وكتب ملحمة كصدى وتقليد لملحمة الأوديسا كان مكفوفاً.. وقال سقراط قديما : مَن الذي يعرف نفسه أكثر من الإنسان الكفيف.
ويذكر الكتاب المقدس في العهد القديم أن دليلة الفلسطينية حينما قصّت شعر شمشون الجبار وفقد قوته فقع عينيه في مدينة غزة.. وقبره موجود في غزة ورأيته بنفسي ولا زلت أتصوره كأنه ماثلا أمامي الآن.
وفكرة البطل الأعمى في التاريخ التي أحلت بصيرته محل بصره أول ما تطرق إليها المؤلف الإغريقي سوفوكليس Sophocles في ترجيديا أوديب Oedipus .. وقرأت المسرحية منذ مدة طويلة وملخصها .. أن العرّافة أخبرت الملك في بعض المدن الإغريقية في ذلك الزمان أن ابنه سيقتله ويتزوج امه الملكة .. فارتعب الملك وقرر أن يرمي وليده بعيدا عنه.. والكلمة Oedipus تعني باليونانية تضخم القدمين.. فعثر أحد المارة على الرضيع وحمله إلي مدينة أخرى في اليونان فقررت الملكة أن تنشئه وتعتني به.
وبالفعل كبر أوديب وكان الاعتقاد لديه أن الملكة هي أمه الحقيقية وأن الملك هو أبوه .. فتنبأت له عرافة بأنه سيقتل أباه الملك ويتزوج أمه الملكة.. أصيب أوديب بالرعب فقرر مغادرة المملكة وذهب إلى ممكلة أخرى.. وفي الطريق اشتبك مع قائد الجيش فقتله وتبين فيما بعد أنه أبوه ولم يكن يعرفه .. كانت المملكة في ذلك الوقت في أزمة لوجود الفينيكس Sphinks وهو كائن خرافي في الميثولوجيا «الأساطير» الإغريقية له جسم أسد وأجنحة ورأس امرأة وصدرها.. كان الفينكس يطرح لغزاً لحله والذي يقوم بحل اللغز يعين ملكاً.. وبالفعل حلّ أوديب اللغز وأصبح ملكاً على مملكة أبيه الحقيقية.. وتزوج أمه الملكة ولم يكن يعرف أنها أمه الحقيقية.. أنجب منها أربعة أولاد.. ولكن العرافة كشفت له السر.
هنا ارتعشت أوصال أوديب وفقأ عينيه بيديه وهجر المملكة وانعزل عن الناس.. أما أمه فقتلت نفسها .. وعاش أوديب متنقلاً بين المدن شريداً وحكيما في ذات الوقت.. فقد حلت بصيرته محل بصره وشاخ وأصبح يسير في الشوارع على عصا كفيفا بعيدا عن العالم.. وسأله شخص وهو يسير في الشارع طريداً: هل يستطيع رجل أعمى أن يعطي نصيحة؟ .. فقال له أوديب: بالرغم من أنني أعمى إلا أنه يوجد رؤية وحكمة لكل كلمة أقولها.. فإن المكفوفين يحسون ويفكرون بطريقة إعجازية تفوق على الإنسان العادي.