خاص بجريدة التلغراف
وديع شامخ – رئيس تحرير مجلة «النجوم»

من جنوب القلب، من مدينة تنام على الماء لتصحو على  خضرة الروح، من نهر الهدّام الذي  يتفرع من الجهة اليمنى لدجلة شمال العمارة، وبه سُميت قريته التابعة لقضاء الميمونة- محافظة ميسان، جاء الخزعليّ  الفتى  إلى بغداد  دارساً الهندسة الكهربائية  عام1972 في الجامعة التكنولوجية، بعد أن أكمل تحصيله الدراسي في مدرسة طي الريفية في الهدام، والمتوسطة والإعدادية في العمارة.
لم يكن في حقيبة ريسان  الريفي القادم إلى العاصمة بغداد في أوج مجدها، سوى قميص ودشداشة، والكثير من القلق.
كان الفتى مشبّعاً بأحلام المدن اليوتوبية، تلك التي  ورثها من وجوده في الحاضنة الشعرية أولاً، بوصفه عضواً في جمعية الشعراء الشعبيين في ميسان، ومثلها في عضوية اتحاد طلبة العراق، وهو التمثيل المهني للحزب الشيوعي العراقي آنذاك.
لقد دخل ريسان بغداد، ليس كما يدخلها ريفي نافر من المدينة، أو مبهور بها إلى حد الذوبان، دخلها الفتى الخزعلي بحلم شيوعي وجمالي وعلمي معاً.
……………..
جاء إلى بغداد طالباً في الجامعة التكنلوجية متخصصاً في قسم الكهرباء وكان يشارك في النشاطات الشعرية والأماسي والحفلات الثقافية، ليتخرج منها مهندساً، ويبدأ مسيرته العملية في الشركة العامة للأسمدة الجنوبية في البصرة، ثم إلى أسمدة بيجي وفي سنة 1992 تم طرده مع مجموعة مهندسين من بيجي إثر انتفاضة الشعب العراقي في آذار عام 1991،  وبعدها عاد للعمل  في ديوان الوزارة/هيئة مشاريع الأسمدة، ثم تَدَرَّجَ في العمل المهني كمدير تخطيط، ومدير صيانة  وأخيراً مدير جودة ،وبعد2003 تم انتخابه من قبل المنتسبين مديراً عاماً حتى عام 2015  ليتقاعد ويتقرغ للكتابة الشعرية والأدبية.
……………………
في أواسط  تسعينينات القرن المنصرم  التقيته، وأنا المهاجر من عروس الجنوب، بصرة الروح.
لم نكن غرباء أبداً، أعطيته كراسي الشعري الأول ـ سائراً بتمائمي  صوب العرش-،  وهو أهداني قراءة عميقة نبيلة بعنوان، «النور في قصيدة الظل»، وقد نشرها في جريدة «العرب اللندنية « الذائعة الصيت آنذاك.
وهكذا بدأنا بعلاقة روحية، عمدناها بالأسرار في زمن شحيح، ريسان  زاجل حب، ورسول جمال، لا يكف عن  النزيف أبداً. وبعدها أصدرت كتاب دفتر الماء عام 2000، وكان ريسان أول من تصدى لتجربتي في مقال مهم  نشره في  الصحف العراقية.
…………………..
عندما استوطنت بغداد لي وطناً، صار لي  أخاً وصديقاً ونديماً، وقارئاً منتجاً لم أزل أتذكر حرارة اللقاء به، وهو يتنفس سيجارة الأسبين الباردة والبيرة الملوكية. لقد كانت حدائق اتحاد الأدباء صيفاً وقاعته وخيمته شتاءً تشهد أجمل وأسخن الحوارات على مائدتنا، ريسان وأنا مع جمع طيب من خيرة المبدعين العراقيين، الذين نذروا أنفسهم للحق والجمال والحرية، وكان ريسان شاعراً مبدعاً يجيد كتابة  اللونين الشعبي والفصيح، وباحثاً عميق الرؤية، إذ بلغت مؤلفاته نحو  20 كتاباً في الشعر الفصيح والشعبي والدراسات المختلفة في حقول الأدب، غير كتاباته المهمة في جريدة طريق الشعب وبقية الصحف العراقية، ومازال يعطي بسخاء.
……………….
ولم يكن حظ ريسان أقل من غيره من  الشرفاء العراقيين من شرر وشرور كير السلطان السابق، فقد ذاق مرارة السجن ، إذ يتذكر  ريسان تلك الليلة التي قادته إلى غياهب السجون البعثية، يومها كان ماسكاً جريدة ? طريق الشعب –  وهي الجريدة الرسمية  للحزب الشيوعي العراقي، وهو يتهجم على السلطة، فصار أسير سجون ومعتقلات الأمن والاستخبارات العسكرية وسجن رقم واحد، وانتهى به المطاف سجينا لمدة ثلاث سنوات من قبل محكمة الثورة حيث أودع سجن أبي غريب، أشهر السجون العراقية وأكبرها.
……………………
كان ريسان  الصديق الوحيد الذي يسمي مغادرتي المفاجأة إلى عمان « بالسر» عندما أعلنت للأصدقاء رغبتي في  السفر إلى عمان لزيارة أختي وأسرتها هناك، وكان الأمر مثلما يحدس لأنني قرررت ترك بغداد بلا رجعة، ومع أني خارج الوطن بقيت صلاتنا حميمة ،لاسيما بعد استقراري في قارة استراليا وتمتعي بالهدوء والسلام، وعاودت إصدار كتبي الشعرية، وكان ريسان السباق إلى الكتابة عنها وتقصي  تجربتي والاهتمام بها والتنويه بموهبتي في كل عمل أصدره، وبعد دخول الفسيبوك إلى خدمة التواصل الاجتماعي انفتحت آفاقاً إنسانية جديدة بيننا وعدنا إلى سابق الحميمية والمتابعة والاتصالات المستمرة، والحوارات المثمرة  عن مشاريعنا وأحلامنا.ريسان أيهاالصديق الحبيب، أنت جزء حي من ذاكرتي وذاكرة الثقافة العراقية، وصفحة ناصعة الاخضرار ستبقى مثمرة  ما حييت، لقد نجحنا في تشكيل صداقة بريئة وعميقة  انسانية وجمالية معاً.