دينا سليم
وفي مرحلة أخرى، في جيل المراهقة الذي لم أعشه لأني تدربت على السكوت، أحببت وطني فلسطين وخشيت من البوح، دونت أشعاري سرا في أوراق وجدت مصيرها داخل سلة المهملات قبل أن تباغتني والدتي وتلقي هي بها، خشية علي وعلى مستقبلي، فأمامي رحلة طويلة من البحث عن الذات في الداخل الفلسطيني، استمررت في الكتابة والتمزيق، لم أبارح وطني مثل شقيقاتي الثلاث إلى أمريكا، فكيف أترك الوطن وأهاجر إلى البعيد دون أن أتصبح بأشجار (الجميز) والتين التي اشتهرت بها مدينتي.
أثناء حرب 1973 رأيت التوابيت تخرج من بيوت جيراننا، فبيتنا ذي الطوابق الأربعة يكشف حتى ما بداخل تلك البيوت وساحاتها ساعة المصائب، بكاء صامت وهادئ في بيوت اليهود المهاجرين من أوروبا، وعويل وصراخ في بيوت المهاجرين من الشرق العربي ووعيد بقتلنا نحن العرب، ومن ثم تمتليء الشوارع بالمعزين والجنود حاملي التوابيت، تلك الفترات كانت فترات السجن بالنسبة لنا، سجن داخل الملاجئ ساعة إطلاق صفارات الانذار، وسجن آخر داخل بيوتنا خوفا من التعرض لمضايقات من الجيران، ولتفادي أحداث لا تسر لها القلوب. وإن حصل واضطررت أنا وشقيقتي السفر في الحافلة إلى يافا للدراسة، اتفقنا فيما بيننا أن تأخذ هي مكانها في مؤخرة الحافلة، وأن أبقى أنا في المقدمة، حتى لا نضطر التحدث بلغتنا فننكشف، فلم نتواصل إلا بالنظرات، وأيضا، إن حصل انفجار ما في الحافلة، ألا نموت معا، وهذه كانت وصية والدتي، يكفي واحدة منا تموت فتغرق بدمها الأخرى، المهم أننا اعتدنا على المفاجآت، وخلال فترة حياتي في البلاد، حماني الله من ثلاثة أعمال تفجيرية بالصدفة، واحدة منها عندما تأخرت عن القطار، والثانية عندما نسيت الكتب الجامعية فنزلت في منتصف الطريق، والثالثة عندما ذهبت إلى القدس لأعالج ابني.
أذكر أني أعربت عن رأيي في يوم ما بسقوط طائرة راح ضحيتها أبرياء، فسرّحت فورا من عملي كموظفة، حيث كنت أعمل سكرتيرة وماسكة حسابات أثناء العطل الصيفية، فالفتاة التي عملت معي أتقنت العربية بما أن جذورها من العراق، عندما وشت بي عند المسؤول، حتى أنها أتقنت دور الصحوبية جيدا عندما قرأت لها قصائد الشعراء العراقيين الكبار وعندما غنّت لي هي لناظم الغزالي، وعندما تناولنا أشهى الأسماك في مطعم على الشاطيء، لكنها خانتني.
وفي حادثة أخرى، عملت مدربة فصيل في المخيم الصيفي لطلاب في مدرسة يهودية، وافقوا لأني أتقن العزف على آلة موسيقية، لكن المشكلة أين؟ أثناء وجبات الطعام، حيث تلى الطلاب صلاة لم أتقنها، وأنا المدربة الرئيسية والمسؤولة عن فرقة مكونة من عشرين مصطافا، وشى بي أحدهم إلى المسؤول الذي قال لي في حينه ( مرة أخرى لا تطلبين عملا في هذه المخيمات إلا وإن كنت تتقنين صلاتنا، اطلبي العمل في المخيمات العلمانية، هناك مكانك، سأغض النظر الآن حتى انتهاء فترة المخيم لأنه صعب إيجاد بديلة الآن، ثم أنتِ بارعة جدا بسرد القصص).
لقد تربيت في مدرسة عربية معظم مدرسيها من اليهود المهاجرين، وعلى وقع الموسيقى الجميلة نميت، أستاذي موسيقيا جاء من سوريا عينني مغنية كورس وألزمني بالنشيد الصباحي للمدرسة الذي ألفه هو يشيد بالمحبة والسلام، نسيت اسمه نهائيا الآن، مرّت علينا الأزمان، أمضينا الأيام بين الكرّ والفرّ، حتى جاء اليوم الذي تركت فيه وطني الذي أحببته مرغمة، قلت، الابتعاد أفضل، انزويت في صومعة بعيدة عن العالم، حتى ابتلينا بعصر الفيس بوك، وتفاقمت الأحداث، وتبرقع العالم بالدماء، لا الصاحب بقي صاحبا، ولا العدو استمر بعدائه المخفي، تغيرت الأفكار وتشتتت القلوب، فمن الطبيعي أن يتغير عقل الإنسان الذي منّ عليه الله بأجمل النعم، العقل والقدرة على التعلم، الذكاء والقدرة على الاستيعاب والتدرب لاستقبال الجديد، هذا هو الفرق بين عقل الإنسان وعقل الحيوان، اللهم، إن كان يعاني من مشاكل عقلية، أو ذهنية، أو حسية، أو فكرية مكتسبة وملوثة.
إن عدت إلى فترة الماضي فسأندم أني فرحت في يوم ما على مقتل أشخاص بدون ذنب، والآن أتعذب لمقتل كل إنسان يقتل، حتى النملة في حديقتي تتمتع بحرية التنقل في ساحة بيتي فكيف أفرح لمقتل روحا ولدت لكي تعيش، وأتعجب بالشامتين والساخرين بدماء الأبرياء!
لنعد إلى صومعتي التي اخترتها للتفكير والقراءة والكتابة بعيدا قدر الإمكان عن الآخرين، بما اني مخلوق اجتماعي وأحس بمرارة لأني قررت هذا القرار هذا اليوم بالذات، وهو أن أغلق على نفسي باب بيتي وموبايلي، لكني أبقيت فيسبوكي مفتوحا، لكي أحتفظ بأصدقائي في صفحتي، وقد اخترت أن يكونوا من جميع الفئات، وأنظر إليهم جميعا نظرة ودية واحترام لأنهم دخلوا بيتي، ولأنهم قرروا أن يكونوا أصدقائي، وأتساءل لماذا أغلق على نفسي، هل لأني امرأة هادئة حتى إن غضبت، أو ربما لأنني محايدة، ليس ضعفا، بل ذكاء مني، ليس طمعا بمصلحة، بل لأني أدرك جيدا أننا ولدنا لكي نكمل الأدوار على المسرح الكبير، وأعرف أن الذي يذهب يترك مكانه فارغا، والمسرح الفارغ لا يؤدي واجباته كما يلزم، وبالتالي سيفقد الساسة عروشهم، جميع الساسة بغض النظر عن انتماءاتهم.
لست مكلفة بمجاراة أحد أو مساندته، تأييده أو معارضته، أو فتح أي حوار بدون فائدة مع أحد، لأنه سيبقى حوارا فاقد المعني وسيسلب مني وقتي الثمين، ولست مجبرة على اللعب على الأوتار الحساسة من أجل بلوغ هدف ما، أنا صاحبة موقف ووجهي واحد، لكن هذه المواقف لا تجد لها مكانا تستقر عليه، كل شيء يتبدّل وبسرعة فائقة، وكل الذي يحصل يؤدي إلى الدمار، التحريض دمار والتهويش دمار، فتح الجروح دمار، والكتابة العشوائية من أجل الظهور على الفيس بوك دمار شامل.
لماذا تحدثت عن طفولتي؟ لكي أوصل بكم إلى حلّ واحد وهو، أننا خلقنا إنسانا، ليس باختيارنا، وخلقنا على كرة أرضية واحدة أصبحت تشبه البيضة وليس باختيارنا أيضا، مهما ذهبنا ومهما عدنا سنبقى داخل هذه البيضة المغلقة علينا جميعا دون استثناء، لقد وُضعنا في مكان واحد، ما هو إلا مكيدة، صدقوني مكيدة، الحياة أكبر مكيدة، أنا لا أكذب، إن استطعنا التعايش واحترمنا بعضنا البعض سنخرج من هذه المكيدة بسهولة، لكن إن تجاوزنا حدود انسانيتنا واعتقدنا أن تفجير الآخر جهادا، وأن نسمح بقتل الآخر الكافر الذي لا ينتسب إلى ذات الدين، وأن نتجاهل ما يلقوننه لأطفال المستقبل في بعض المدارس ستنكسر هذه البيضة على رؤوسنا جميعا وقد بدأت تتشقق والمتغير المناخي أوفى برهان.
وسبب آخر، هو أنني طالما أنا حيّة أرزق لن أصنع لي تمثالا أعبده، ولا رئيسا أسجد له، ولا حزبا أسير خلفه مثل الثور داخل التلم، لأن التلم الأعوج سببه الثور الكبير، والزعيم أساسه بعبعة الغول والصغار يبعبعون كثيرا، وفرعون سيقى يقول محتجا، انتم فرعنتوني وما لقيت حدا يردني…لن أفرعن أحدا وسوف أشطب من صفحتي كل صديق آثر على نفسه فرعنة أحد، ليس على حساب مواقفي، اذهبوا إلى الفريق الذي يفرعن مثلكم ذات الفرعون، فرعوني أخطبوط واستطعت التخلص منه، فلماذا أفرعن أخطبوطا آخر يستبد بي مجددا؟ نحن شعب يعشق الاستبداد…
المشكلة هي أنني بدأت أخشى من الذين أنتمي لهم الآن، في المهجر وفي الواقع وحتى على الفيس بوك، العرب الذين انقلبوا على بعضهم البعض، وأنشأوا أحزابا، كل فردين ضد فرد، سلسلة مقطوعة، حتى لو جمعت بينهم فيروز وأم كلثوم وحتى أي مطرب أجنبي مزيف، لقد فقدنا كل شيء لأننا ما زلنا نمجد الماضي، والعقول الجامدة لا تتغير، والتسميات التي أثارت حفيظتنا في السابق ما زالت تثيرنا، بل تضعنا مجددا على فوهة بركان لنحترق بناره. هذا ما يريده الساسة منا هو أن نبقى أعداء ونبقى نغني أغنيات الأمجاد فنهرب معها إلى أحلام لا تتحقق، كما هربنا إلى استراليا…كل واحد يسأل نفسه، بل ليذكر نفسه، لماذا هرب من وطنه، أنا أجبت عن هذا السؤال في رواية حملت 284 صفحة عندما كسرت (جدار الصمت) وبدأت حياة جديدة بدون زعامات فارغة.