عزيز العصا
دينا سليم؛ روائية فلسطينية، ولدت بين النكبة والنكسة؛ فعاشت تفاصيل الطفولة المنكوبة، وعايشت وجع ضياع ما تبقى من الوطن. أنجزت سبع روايات خلال عقد من الزمن، أودعت فيها تجاربها الحياتية بقلم رفض الانحناء أو التقوقع داخل المرأة التقليدية التي أرادها الزوج (ومجتمعه) بذكوريّته الطاغية. وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده، فهو روايتها «جدار الصمت»، الصادرة عن دار الجندي للنشر والتوزيع في العام (2015)، وتقع في (285) صفحة من القطع المتوسط، احتضنت (44) محطة سردية.
تطل علينا «دينا سليم» منذ بدايتها المبكرة، بكلمات مشبعة بالوجع والألم، لتقول لنا قبل السرد: «قمت بتدوين هذه الرواية مباشرة بعد وفاة ابني «باسم» سنة 2014». وبهذا؛ تومئ لنا الكاتبة بأننا أمام رواية سيرية بامتياز. وهذا ما يجده القارئ؛ فقد قامت الكاتبة ببناء الشخصيات، الرئيسية والثانوية، من الواقع الذي تعيشه الروائية نفسها، بالإضافة إلى بعض الشخصيات التخيلية التي وظفتها في خدمة النص ضمن مساحة محدودة، علمًا بأن القلق والتوتر الذي عاشته الكاتبة قد انعكس على النص الذي كان قلقًا في جنسه الأدبي؛ عندما تأرجح بين القصة والرواية، وأطلقت عليه «هذا المؤلف»، حتى استقر كرواية سيريّة.
تتوزع البنية المكانية للرواية على أرض فلسطين المحتلة عام 1948؛ بلد المولد والنشأة، واستراليا (بلد الغربة والاغتراب عن الوطن). وتمتد تلك البنية لتشمل أمريكا وكندا. وقد شملت العديد من المدن الفلسطينية: عكا، حيفا، يافا، القدس، والعديد من المدن والمقاطعات الاسترالية. أما البنية الزمانية، فلم تخرج عن الفترة الواقعة بين عامي 1978 و2014؛ وهي عمر البطل الموازي (الابن المتوفى).
وكأحد أشكال الوفاء، أجهدت الأم-الكاتبة نفسها لكي تروي تجربتها، وتوظف أحداثها لصالح نص روائي يحتفظ بابنها إلى الأبد، وقد كانت حريصة على إنجاز تلك الرواية لتكون مزيجًا من مشاعر طازجة وليس استحضاراً لها.
تقدم «دينا سليم» لقضيتها الروائية هذه بالإشارة إلى «تجار الموت»؛ الذين لا يهنؤون إلا على عذابات الآخرين وآلامهم وجراحهم، وأكثر ما يزعجهم أن يشفى مريض أو يتعافى سقيم، أو ينهض متعثر. وأما الثيمة (القضية) الروائية، فهي وصف «شبه بصري» لآلام الإبن المريض باللوكيميا، ذلك المرض السرطاني القاتل، وعذابات الأم وتشرد الأسرة. فالإبن لا ينفك يقاوم الألم ويتحاور مع الموت؛ مرة يرحب به ومرّات يراوغه ويلعنه ويطرده من حياته، ولكن ينتهي الأمر به إلى القول: «أنا لا أخاف الموت بل أتمناه، أنتظره، وأريده؛ لأنني سأكون في مكان سيصل إليه قليلون». والأم تعيش عذابات ابنها «المريض»، و(تتوحد) مع آلامه لحد قبولها بأي فيروس قادم من ابنها حتى لو أودى بحياتها. وما عدا حالة الارتباك التي واجهتها عند سماع خبر مرض ابنها أول مرّة، تبقى الأم بكامل هيبة «الأمومة» حتى النهاية.
وتميزت الرواية بوجود الخيط الروائي، على مدى السرديات، دون انقطاع، وعزز ذلك البطولة المزدوجة للأم وإبنها؛ فبقي حضور البطل طاغيًا وهو الذي يتحكم في تفاصيل المشاهد. ولا يمكن للقارئ مغادرتها قبل أن يلمس ملامحها النسوية؛ حيث جاءت الكتابة السردية مشبعة برؤية أنوثية ظهرت على أنقاض الرؤية الذكورية, حتى أزاحتها من طريقها، بعد أن زعزعتها, بل أنها حاولت تفكيك النظام الأبوي, واستبداله بنظام أمومي، أخذ الدور المزدوج للأب والأم، في آنٍ معاً، رغم الغربة وعذاباتها، ورغم المرض الذي كان يفتك بالإبن.
بقي القول،
هذه الرواية هي تسجيل لأحداث حقيقية، تمتعت بلغة سرد ومعالجة درامية جيدتان، كما أن المعالجة الطبية جميلة ومتناسقة. وبإمعان النظر فيها، لتفحص السر الكامن خلف عنوانها «جدار الصمت»، نجدها وقد توقفت عند الصمت كمفموم وسلوك، إذ ترى أن له قاع يدوي في أزمنة ضائعة، وأنها «مـن بيـن ردفيه تستنشق دويّ الهمس». وارتأت، في فترة ما، أنها بالصمت تحافظ على تماسك أسرتها، إلا أنها تصل إلى نتيجة مفادها: «بالتزام الصمت، تتضخم المشاكل، وتتوسع حتى يختل توازن (الأسرة)، فيفشل الجميع في تسيير المركب الذي يغرق في الجميع. وتنهي الحديث عن الصمت بالقول: «خائن هو الصمت ومسكين العنفوان عندما ينكسر».
بذلك؛ يتضح لنا ما الذي أرادته الكاتبة من وراء عنوانها لروايتها هذه، التي هي تتويج، حتى اللحظة، لعشقها للقلم وللكتابة، هذا العشق المدوي الذي أزعج محيطها الاجتماعي، الذي أرادها أن تكون مجرد صامتة خلف جدار الذكورة الطاغية بمفاهيمها اللاإنسانية، المدعومة من الجهل المجتمعي، حتى أضحى بيت الزوجية المكان الذي تعتقل في الزوجة، في أجواء من الكراهية والحقد لحد تمنّي الموت.
نبارك للكاتبة قدرتها على جذبنا لقراءة روايتها، من الغلاف إلى الغلاف، وتوظيف ما امتلكته من أحاسيس ومشاعر ومعارف ومعلومات في روايتها هذه، التي فيها الكثير من الدروس الكافية لأن تتمكن المرأة من تهشيم جدران الصمت؛ بالإرادة الصلبة والتصميم والشجاعة عند اتخاذ القرارات الصعبة والمصيرية.