عقد وزراء الخارجية والدفاع في أستراليا وإندونيسيا اجتماعهم التاسع في كانبيرا في 28 أغسطس، وأسفر الاجتماع عن اتفاقيات في قطاعات استراتيجية، لا سيما المعادن الحيوية. ويأتي هذا الاجتماع تتويجًا لعام من التفاعل المكثف، وشمل زيارة رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز إلى جاكرتا في مايو، وزيارة وزير القانون والشؤون الإصلاحية الإندونيسي يسرِل إهزا ماهندرا إلى كانبيرا في يونيو، ورحلة وزيرة الأعمال الصغيرة الأسترالية آن آلي إلى جاكرتا في أغسطس.
على الرغم من أن هذه التبادلات قد تبدو كدليل على علاقة مزدهرة، فإن المحك الحقيقي لأستراليا ليس عدد الزيارات أو البيانات المشتركة، بل القدرة على إقامة تعاون ملموس ومستدام يوفر فوائد متبادلة، ويلامس أولويات إندونيسيا.
بالنسبة لجاكرتا، تكتسب الشراكة أهمية خاصة في إطار الأجندة الاقتصادية للرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو، وخاصة في مجالي المعادن والتصنيع. على أستراليا أن تخفف من أي توقعات بأن إندونيسيا ستعتبر علاقتها مع كانبيرا استثنائية مقارنة بالعلاقات الثنائية الأخرى. فإندونيسيا، كقوة صاعدة، تلتزم بسياستها الخارجية القائمة على “المسافة المتساوية البراغماتية” والتي تهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الفوائد من مختلف الشركاء مع تجنب الاعتماد على أي كتلة قوية واحدة.
منذ أوائل عام 2020، تتبنى إندونيسيا استراتيجية وطنية للتصنيع القائم على المعادن. ويشكل تجهيز النيكل محور هذه الاستراتيجية، حيث تتطلع جاكرتا إلى مستقبل تُحوّل فيه المواد الخام إلى منتجات عالية القيمة مثل بطاريات السيارات الكهربائية. تهدف هذه السياسة ليس فقط إلى تعزيز الناتج المحلي الإجمالي، بل أيضًا إلى وضع إندونيسيا كلاعب محوري في سلسلة التوريد العالمية للمعادن، مما يعزز مكانتها كقوة متوسطة.
استخدمت إندونيسيا مبدأها “الحر والفعال” في التعاملات البراغماتية لجذب الاستثمارات في قطاع المعادن الخام. وبين عامي 2020 و 2024، تلقت إندونيسيا استثمارات مباشرة تزيد قيمتها عن 30 مليار دولار أمريكي لمشاريع مصاهر وتجهيز المعادن، معظمها من مبادرة الحزام والطريق الصينية. وفي عام 2024، تعهد تحالف بقيادة شركة “إل جي إنيرجي” الكورية الجنوبية و”هوايو كوبالت” الصينية باستثمار 9.8 مليار دولار أمريكي إضافية لبناء أول مصنع لخلايا بطاريات السيارات الكهربائية في إندونيسيا.
تدعم أستراليا أيضًا طموحات إندونيسيا. فقد أكد البيان المشترك للاجتماع الوزاري على دعم أستراليا لقطاع السيارات الكهربائية في إندونيسيا، بما في ذلك التعاون في تصنيع البطاريات والصناعات الحيوية. كما رحبت أستراليا بتشكيل فرقة العمل الجيواقتصادية التابعة لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وهو منتدى تأمل جاكرتا أن يحافظ على الاستقلالية الإقليمية في إدارة سلاسل التوريد وسط التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين على المعادن الحيوية.
علاوة على ذلك، بدأت إندونيسيا بالاستثمار في المعادن الحيوية في أستراليا، مما يعود بالنفع على المصالح الاقتصادية لأستراليا. فعلى سبيل المثال، أعلن وزير الطاقة والثروة المعدنية الإندونيسي بهليل لحداليا عن خطة لاستيراد الليثيوم من أستراليا لدعم طموحات جاكرتا في مجال بطاريات السيارات الكهربائية. يمكن لمثل هذا التعاون أن يشكل أساسًا لسلسلة توريد إقليمية مرنة ومتنوعة للتقنيات الحيوية، مما يحمي البلدين من الاعتماد المفرط على الصين.
أظهرت بعض الشركات الأسترالية التزامها بالعلاقة. فقد استثمرت شركة “نيكل إندستريز” الأسترالية 1.7 مليار دولار أمريكي في تكنولوجيا “الترشيح الحمضي عالي الضغط” في منطقة “مورووالي” الصناعية بإندونيسيا، وهي خطوة أشاد بها الوزير المنسق للشؤون الاقتصادية الإندونيسي إيرلانغا هارتارتو. ولكن هذا الرقم ضئيل مقارنة بالتدفقات المالية الصينية والكورية الجنوبية. إذا كانت كانبيرا ترغب في أن تؤخذ على محمل الجد كشريك جيواقتصادي، فعليها أن تزيد من استثماراتها العامة والخاصة.
إن فعل ذلك سيحقق فوائد استراتيجية. فبالنسبة لإندونيسيا، ستسهم المشاركة الأسترالية الأقوى في إبقاء المنافسة حية في قطاعها المعدني، مما يحد من الاعتماد المفرط على الصين. وعلى الرغم من أن أستراليا لا يمكنها مجاراة الحجم الهائل للاستثمارات الصينية، إلا أنها تستطيع الاستفادة من نقاط قوتها من خلال تشجيع شركاتها على التركيز على تعزيز القدرة التنافسية في مجال المعادن. على سبيل المثال، يمكنها ذلك من خلال تحديثات التكنولوجيا التي تحسن الكفاءة والاستدامة والقدرة على التجهيز في صناعة التعدين الإندونيسية. أما بالنسبة لأستراليا، فإن تعميق العلاقة سيخدم مصالحها الاقتصادية من خلال تعزيز الإنتاجية الصناعية، وربما يمهد الطريق لإضافة قيمة أعلى في قطاع التعدين الخاص بها.
ومع ذلك، يجب على أستراليا أن تحافظ على توقعات واقعية. فبسبب مبدأ سياستها الخارجية القائمة على عدم الانحياز، لن ترفع جاكرتا كانبيرا إلى منزلة متميزة في هرم أولوياتها الخارجية. ستواصل حكومة برابوو السعي وراء شراكات متنوعة ثنائية ومتعددة الأطراف، حتى بعضها قد يزعج كانبيرا، مثل العلاقات مع الصين وروسيا. من غير المرجح أن تعطي جاكرتا الأولوية لعلاقاتها مع أي شريك واحد، وقد أظهرت مرارًا وتكرارًا أن الفوائد الاقتصادية تفوق التوافق الأيديولوجي.
من المتوقع أن تستمر إندونيسيا في العمل على تعزيز علاقاتها مع مختلف البلدان، بما في ذلك تنمية علاقتها مع أستراليا، لذلك يمكن أن تستمر هذه المرحلة المزدهرة في العلاقات الثنائية. إذا أرادت كانبيرا أن يستمر هذا الازدهار، فيجب عليها تحويل الخطابات إلى التزامات اقتصادية، خاصة في قطاع المعادن الحيوية الذي تعتبره جاكرتا مستقبلها. لن تكون البيانات الفارغة كافية، بل سيكون من الضروري توفير استثمارات مستدامة وتعاون صناعي وبناء للثقة. وعندها فقط يمكن لأستراليا أن ترسخ مكانتها كشريك موثوق به في التحول الاقتصادي لإندونيسيا، وتؤمّن دورًا هادفًا في الجيواقتصاد المتطور لجنوب شرق آسيا.

