سدني د. نجمة خليل حبيب –
بين كلمات الشاعرة بتول القلّا مشاعر تنمو في موسيقى متصاعدة النغمات، تقرب المسافات، وتباعد الفراق وتزرع الهمسات، وتحكي للمستحيل كل الوان القصيد، وتعانق الندى في السكون، وتثير الرياح عندما تفيض الشجون. (محمود الداوود)2
** * * *
اعتمدت الشاعرة قصيدة النثر المنفلتة من الوزن والقافية التي مكنتها من التركيز على ما في لغة النثر من قيم فنية واستغلتها لتخلق مناخاً “يعبر عن تجربة ومعاناة من خلال صور عريضة تتوافر فيها الشفافية والكثافة في آن واحد، وتعوض انعدام الوزن التقليدي فيها بإيقاعات التوازن والاختلاف والتماثل والتناظر معتمدة على الجملة وتموجاتها الصوتية بموسيقى صوتية تحس ولا تقاس”3.
وإذ نبدأ فبالعنوان كونه العتبة الرئيسية للديوان القادرة على أن تمدنا “بزاد ثمين لتفكيك النص وفهم غموضه”4 والذي من خلاله نستطيع أن نستشّف نوع النصّ وتركيبته ومحتواه، حتى أن ّ طه حسين وقع في نفسه عنوان رواية نجيب محفوظ “زقاق المدق” الموقع الحسن، فرآه ينطبق تمَامًا على مضمون الرواية، مما جعله يقول: “ولكنّك لا تكاد تسمعه وتنطق به حتى تتبيّن أنّك مقبل على كتاب يصوّر جوّاً شعبياً قاهريّاً خالصاً، فهذا العنوان يوشك أن يحدّد موضوع القصة وبيئتها”5، وإن صحت هذه المقولة فإنما تصح بديوان (حبيبي الذي ما أتى) الذي نستشف منه وَلَهٌ بحبيب لا يستجيب لهذه العاطفة، وبذا يمكننا أن نتكهن أن تكون معظم قصائده بوحاً وجدانياً تتميَّز بالتركيز على عواطف الشاعرة وأفكارها الشخصية. وتعمل عتبات الديوان الأخرى من غلاف وإهداء وغيرهما على تثبيت هذا التكهن، فالغلاف مثلاً يتألف من صفحة بيضاء تضم إضافة إلى اسم المؤلفة، وعنوان الكتاب، زهرة بنفسج، الزهرة التي يُنسَب إلى محبيها التمتع بأحاسيس روحانية وبديهية، وبأنهم يؤمنون بمشاعرهم ويستخدمون حدسهم بالطرق المناسبة!… وبأنَّهم يتمتعون بمستويات فكرية عالية، وبالقدرة على رؤية الأشياء وسماع أصواتها
دون استخدام الحواس، ذلك لأن البنفسجي هو اللون المرتبط رمزياً بالدماغ6!… وقد بيّن المقطع الشعري المدوّن على الصفحة الخلفية من الغلاف، امتلاك الشاعرة لهذه الصفات:
قَلِقٌ حبيبي صار لمّا قُلْتُ لَهُ أنّي أُحِبُّ الأسْئِلَة
ما المشكِلَة؟
حُلْوٌ حبيبي وَهْوَ يَقْلَقُ لو أمامي
كُنْتُ رُحْتُ أُقَبِّلُه….
وينبئنا هذا المقطع، أن الشاعرة تتمتع بطاقة ذهنية نافذة قادرة على اختراق دماغ حبيبها ومعرفة ما يجول بخاطره دونما الحاجة إلى الكلام. لقد استنتجت أن حبيبها يقلق عندما يعلم أن حبيبته تحب الأسئلة، فتساءلت- مساءلة العارف/ة- “ما المشكلة؟”، ولكنها لم تتوقّف عند هذا الحد، بل قفزت عنه لتخبرنا عن مشاعرها إزاء هذا القلق: إنه يملؤها غبطة وتتمنى لو أن الحبيب قريب منها لكانت هرعت لتقبيله. واستطراداً نقول: إن هذه الجملة، على قصرها، خلخلت عرش البطريركية، فالرجل يقلق (يخاف) من تفتح عقل المرأة، ليس فقط لأنها صارت تحب الأسئلة، بل لأنها أمست لا ترى غرابة في ذلك، ولأنّ قلق حبيبها زاده ظرافة. وإذ نتساءل ما الذي جعل الشاعرة تحبّ هذا القلق وتستهجنه؟ لقلنا إنه يعود إلى كونها تعيش في أستراليا التي تساوي دساتيرها وقوانينها بين المرأة والرجل7. على مستوى البناء الفني، نهجت الشاعرة نهجاً حداثياً. ومن المعلوم أنه مع الحداثة “وقع انتقال باللغة من كونها شيئاً ثابتاً محدداًً، إلى كونها بؤرة من الاحتمالات، والخروج بالمفردة اللغوية من كونها علامة ثابتة الدلالة، قاموسيتها، إلى كونها طاقة إيحائية وبؤرة دلالية تشع في جسد النص إمكانات متعددة مثرية إياه بهذه التعددية، وخالقة حول نفسها شبكة من الترابطات والدلالات التي لا يمكن أن تقلص إلى الدلالة القاموسية الواحدة”8. ويشكل ديوان (حبيبي الذي ما أتى) حالة من تجليات هذه الظاهرة، لذا ستتوقف هذه الدراسة عند نصوص مختارة لتشكِّل أنموذجاً عن باقي قصائد الديوان:
قصيدة رقم 1
شكراً لأنك جِئْتَ، زَيَّنْتَ الزّمان
بِمَدى يديكَ ولَحْظَةٍ من أقحوان
وَبِرَشْفَةٍ ممَّا تدّلى من أباريق الأمان
لما دعوتك كنت أعرف أنني
أدعو الأفق
لمّا كتبتُ وقُلْتُ زُرْني
زار أوراقي ألق
من أجل أن تأتي خُلِق
يصعب (على حد تعبير أبي اليزيد الشرقاوي) فهم الصورة اعتمادًا على المعنى الإشاري الذي تواضعت عليه اللغة لهذه الألفاظ، ذلك لأنه حدث انزياح تخلت بموجبه الصور الشعرية في الأبيات الثلاثة الأولى من النص أعلاه عن مفهومها الزمني والواقعي، والطبيعي والمادي، فلفظة “زَيّنْتَ تخلّت عن معناها الدلالي إذ أنه من المعلوم أن الزينة إنما تكون باللباس أو الجواهر وما شابه، بينما هي هنا للزمان، ومثلها كانت في “لحظة من أقحوان” حيث انزاحت لفظة “لحظة” عن معناها المتعارف عليه كفعل مختص بالعين، إلى معنى آخر مرتبط بالأقحوان. وهكذا القول في الصورة الشعرية “أباريق الأمان”. ثم تقفز الشاعرة فجأة من حالة الامتنان والشكر إلى حالة الكشف الوجداني لتخبرنا عمّا اعتراها من مشاعر عندما مرت صورة الحبيب في البال، مستخدمة لذلك ألفاظاً لها بالقوة معنى مزدوج، إشاري وهو المعنى الذي يوجد في القواميس ” لمّا كتبتُ وقلتُ زرني”، وآخر إيحائي يعرف حسب خصائصها الإدراكية التي لا تجد لها مكاناً في القاموس إلا من خلال المعنى، “زار أوراقي ألق”.

ففي الأبيات الثلاثة الأولى من القصيدة استخدمت الشاعرة الأسلوب الوجداني الذي تكون فيه الغلبة فيه للمادة المقدَّمة في السرد، حيث تتسق أجزاؤها في نمطٍ أُحادي يخلو من توتر الصراع، ثُمَّ يعقبها في الأهمية المنظور والإيقاع”9، ومعنى ذلك أنَّ موئل الصراع الذاتي الداخلي هو الذات السَّردية الوجدانية التي هي مصدر صناعة الحدث، بعينه، وأسلوبية الإيقاع الفنَّي التعبيري للوحدات السردية الموضوعية10. وفيما بعد انتقلتْ الشاعرة إلى أسلوب الإخبار الذي يراد به تنبيه السامع/ة إلى القصد بالحديث من قبل ذكره ليحقق الأمر ويؤكده11: “ولمّا دعوْتُكَ كُنْتُ أعرِف أنني/ أدعو الأفق”.
في القصيدة الثانية لجأت الشاعرة إلى عالم ماورائي سكنت فيه ذاتها بعيداً عن عناء الروتيني والعادي والصاخب والمبتذل، عالم رأت فيه حلم العودة إلى فلسطين حقيقة واقعة ولو بعد حين، وهي بذلك تذكرنا بقصيدة محمود درويش “في انتظار العائدين”، التي اشتركت معها باللهجة الفرحة المتفائلة الواثقة بعودة من هُجِّروا عن الوطن، ولكنها عادت واختلفت عنها بالتراجع عن تفاؤلها وبوقوفها مشككة بين الظنون وبين اليقين، تقول:
إلى أن تحين مواعيد السلام
وبدء الكلام
وبدء الكتابة
سأغلق خلف العيون شبابيك ليل طويل وخلف النهار هواه وبابه
وأنصب خيمة ما بيننا
على عشبك المار بين الحضور والغياب
لعل حضور الهوى او غيابه
يرى أينا راح يدعو شبابه
لبعض حين….. وحتى يفيقَ المدى وصديقاته الغاليات
ويصحو التذكُر
كي يشرب النور من يد أولاده العائدين
وينسى صحابه
سأنسى عتابه
وأجلس بين الظنون، وبين اليقين….
تعالَ إذا شِئْتَ واجلسْ معي (ص 6)
وعلى مستوى البناء الفني، لعبت أبيات هذه القصيدة على وتر الحسية وفق المفهوم القديم المعتمد بأنَّه على الشاعر/ة أن يعبر عن معنى شعوري مجرد باستثمار مدركات وأشياء العالم الحسية حتى ينجح في مهمة التعبير من خلال إعادة تشكيل أجزاء العالم لينقل الإيحاءات التي عجزت اللغة المباشرة عن توصيلها، (سأغلق خلف العيون شبابيك ليل طويل/ وخلف النهار هواه وبابه)
إضافة إلى هذه الصورة المركزية في الجملة، هنالك صور جزئية تؤسس حواراً معها وتقوم بتأسيس المجال وإثراء المستوى الدرامي للموقف مثل: (وحتى يفيقَ المدى وصديقاته الغاليات/ ويصحو التذكُر) وهذه صورة قائمة على التداعي الشعوري الذي “هو من طبيعة نفسانية فما يتداعى في ذهننا ليس الأشياء إنما الصورة الذهنية للأشياء والفكرة التي تنشئها عنها ويعتبر سوسير أن العلامة الألسنية تجمع بين مفهوم وصورة سمعية لا بين الشيء واسمه”12
لم تأتِ هذه المقالة المتواضعة إلا على النذر اليسير مما جاء في ديوان (حبيبي الذي ما أتى)، فهنالك مواضيع وآراء ومواقف كثيرة لم يتسع المجال لذكرها. أختم آملةً أن يسعفني الوقت والصحة بالعودة إلى الموضوع مرة أخرى لإتمام ما قصّرت عنه هذه المقالة المتواضعة

1 بتول القلاّ، (حبيبي الذي ما أتى)، ط/1، حيفا، مكتبة كل شيء، 2020 …… بتول القلاّ، شاعرة فلسطينية من مواليد مدينة نابلس، ومن مقابلة أجراها معها محمد علي الأسعد ونشرتها صحيفة النهار البيروتية عام 2020، نستنتج أنها هاجرت إلى أستراليا عام 1989 وأنها لم تتمكن من الاندماج بالمجتمع الأسترالي بالرغم من مرور واحد وثلاثين عاماً على وجودها فيها، فهي تقول: إنها ما زالت شرقيّة، وأن شيئاً فيها لم يتغيّر1. صدر لها حتى حينه ديواني شعر: (بتوليات) 2016، و(حبيبي الذي ما أتى) 2020 (موضوع دراستنا) وهو يتألف من 275 صفحة و136 قصيدة لا تحمل عناوين ولا أية تصنيفات.
2 محمود الداوود، “بتول القلا تنثر قصائدها في رحاب منتدى البيت العربي الثقافي”، الدستور، 22 كانون الأول/ ديسمبر، 2022
3 ttps://ar.wikipedia.org/wiki قصيدة النثر
4 – محمد مفتاح، (دينامية النص)، بيروت: ط/2، المركز الثقافي العربي، 1990، ص 72
5 بخولة بن الدين، “عتبات النص الأدبية مقاربة سيميائية”، الجزائر،
International Journal of Semat. Vol 1 No1, 121-134 (May 2013)