
حاوره أنطوان القزي- سدني
يوم الأربعاء 12 آذار ، جمع نجم قزي أوراقه، وتأبّط أرشيفه ورحل، ربما لأن هذه الفانية ضاقت بأوراقه، فانتقل الى الحياة الأبدية ليفترش مساحتها ديواناً يطلّ من نافذته لمناجاة ربّه..
وعلى امتداد ساعتين رافقت الكاتب والمخرج المسرحي واستاذ التاريخ وصاحب فكرة ادخال الخيار اللبناني الى استراليا ومؤسس محترف المسرح المهجري نجم القزي في منزله في غلينوري، وكان تجاوز عتبة الثمانين ولا يزال يسكنه المسرح ولا يزال في فكره.
تعترضك في مسيرة نجم القزي الكثير من المحطات الجميلة، فرحلة “الأستاذ” نجم الحافلة زاخرة بإنجازات لافتة، من مسرح النورماندي في بيروت مطلع السبعينات الى العمل مع الكبيرَين ريمون جبارة وانطوان ملتقى الى برنامج شباب ٧٣ التلفزيوني وصولاً الى التقاعد في مزرعته في غلينوري في استراليا..
وكان لي ان شاركت في مسرحية”غط الحمام طار الحمام” التي اخرجها نجم القزي سنة ١٩٩٠ وعُرضت ١٧ مرّة على مسرح الملتقى في سدني كما عُرضت ثلاث مرّات في ملبورن.
بين هذه وتلك ، لا ننسى أن نجم القزي كان في بداياته مشروع راهبٍ أنطوني، ولكن ظروفاً حالت دون ذلك ، ليصبح أبو جبران أبا وجداً لعدة أحفاد.
ولد نجم القزي في الجية في أول ايلول سنة 1941 وتابع دروسه الإبتدائية في دير مار شربل للرهبان اللبنانيين في الجية، وبعد حصوله على السرتفيكا توجّه في مطلع الخمسينات الى المعهد الأنطوني في بعبدا كتلميذ داخلي، وبعد سنوات توجّه الى دير مار شعيا للرهبان الأنطونيين في برمانا حيث مدرسة المبتدئين والنذور الرهبانية الأولى. وبين سنتي 1958 و1959 لبس “الأخ” نجم ثوب الأخوة الأسود بعدما نذر النذور الرهبانية الأولى المؤقتة.
يقول نجم أن فيروساً مؤلماً أصابه في معدته في تلك السنة واستمرّ يعاني منه عدّة شهور ما دفعه لمغادرة الدير، وقد أقعده المرض ثمانية أشهر.
وكان عليه أن ينهي المرحلة الثانوية، فتوجّه الى دير المخلّص في جون- الشوف وانهى صف الفلسفة هناك سنة 1962.
في السنة التالية دخل كلية الآداب في الجامعة اللبنانية وتابع دراسة التاريخ، ثم التحق بمعهد الفنون الجميلة في منطقة العدلية القديمة قرب السرايا ، وفي تلك السنة ( 1963) أسس نادي الشباب المتحد في الجية الى جانب فيكتور قزي ومارون أمين قزي وعلي موسى وآخرين. وترأس النادي لعدّة دورات.
وسنة 1968 تخرّج من معهد الفنون، واثناء الدراسة الجامعية شارك في عدة أعمال مسرحية جامعية لطلّاب المعهد. وقبل أن يتخرج من الجامعة وطيلة فترة الستينات كان يقدّم عملاُ مسرحياً سنوياً في بلدته الجية حتى مطلع السبعينات ومن هذه الأعمال:
“إليسار ملكة قرطاج” للاب ميخائيل معوض و”ريتشارد الثالث” لشكسبير و”مكبث لشكسبير” و”عرس الدم” للكاتب الأسباني فيديريكو غارسيا لوركا و”مريض الوهم” لموليير و”ضاعت الطاسة” و”عرس الدم” لفريديريكز غارسيا.
سنة 1972 شارك في مسرحية ” تحت رعاية زكور” لريمون جبارة الى جانب منير معاصري ونخبة من ممثلي المسرح.
سنة 1973 تزوج نجم القزي من عايدة مخايل القزي وأنجبا ثلاثة أولاد: جبران ورياض وماري.
سنة 1973 أيضاً أنجز عملاُ مسرحياً من كتابته وإخراجه على مسرح النورماندي وشارك معه في التمثيل خريجون جامعيون جدد مثل نقولا أبو مراد وموسى مرعب بالإضافة الى ناصيف قزي. ولكن الأحداث في ذلك العام حالت دون الاستمرار في تقديم العمل.
وفي تلك السنة 1973 شارك نجم القزي مع بعض خريجي معهد الفنون في برنامج ( شباب 73) على شاشة تلفزيون لبنان.
وسنة 1973 أخرج مسرحية “ضاعت الطاسة” وهي لكاتب أسباني.
في هذه السنة زار أستراليا مع مجموعة ممثلين من أبناء الجية لتقديم المسرحية بينهم: هنريات بستاني، جاك طنوس القزي وجرجس حاتم ( أبو شوقي) وقدّموا ثلاثة عروض من المسرحية على مسرح “غراس براذر” في منطقة برودواي. وبعدما أقاموا شهراً في أستراليا عادوا الى لبنان.
وفي سنة 1974 عمل في المسرح التجريبي مع أنطوان ملتقى في مسرحية “عشرة عبيد زغار” لأغاتا كريستي..
بين سنتي 1971 و1976 علّم مادتي التاريخ والجغرافيا في مدرسة راهبات العائلة المقدسة المارونيات في الجية وفي مدرسة المطرانية المارونية في صيدا.
وبين سنتي 1973 و1984 زار نجم القزي أستراليا عدة مرات لظروف مختلفة
وهو في فترة تهجير بلدة الجية سنة 1976 أقام بين روم والبرامية.
الهجرة الى أستراليا
إنتهى المطاف بنجم القزي مهاجراً مع عائلته الى أستراليا سنة 1984، وفور وصوله راح يساعد شقيقه وليم الذي كان يمتلك محلاً للأحذية في منطقة نيوتاون، وفي ذات السنة افتتح نجم فرعاً ثانياً للمحل في ليفربول لكن الأمور لم تسر كما كان يشاء.
رائد الخيار اللبناني
المعروف عن نجم القزي أنه رائد الخيار اللبناني في أستراليا وهو صاحب فكرة إدخاله الى هذه البلاد.
ويقول أن خبرته في زراعة الخيار تعود الى سنة 1979-1980 يوم زرع خيمة في الجية قرب منزله.، وعندما جاء الى أستراليا أقنع شقيقه وليم وصديقه جوزيف جميل حاتم واشتروا جميعاً أرضاً في غلينوري ، ولم تكن الخيام البلاستيكية معروفة في أستراليا، فاستوردوا عشرين خيمة من فرنسا ( نجم ووليم وجوزيف حاتم وشقيقه جورج)، واستوردوا البذور أيضاً من فرنسا.
يقول نجم” لم نتمكّن في البداية من بيع الخيار اللبناني لأنه ليس معروفاً للأستراليين ورحنا في بداية الأمر ندور على المحلات ونبيع الصندوق بدولار واحد. واستغرق الأمر على هذا النحو فترة 3 سنوات، وفي السنة الرابعة بدأ الخيار اللبناني يشق طريقه الى السوق وبدأ معظم أبناء الجية في سدني بزراعته عبر إقامة مشاريع زراعية “وكان هذا مصدر خير كبير لهم راح يتوسع مع الوقت”.
الملتقى والمسرح المهجري
استقرّت الظروف مع نجم قزي بعدما اتسعت أبواب تسويق الخيار اللبناني، وانصرف مجدّداً الى حبّه الأول – المسرح. وهو كان وراء فكرة افتتاح الملتقى مع جاد الحاج سنة 1989 في منطقة كانتربري ، ولم يكن نشاط الملتقى محصوراُ بالعمل المسرحي بل كانت تقدم فيه لوحات شعرية وفنية ومباريات أجمل وأسوأ قصيدة في الأسبوع بالإضافة الى كونه مطعماً لبنانياً.
ولعلّ مسرحية (طار الحمام غط الحمام” التي قدّمت على مسرح الملتقى سنة 1990 من كتابة جاد الحاج واخراج نجم القزي وبطولة عباس مراد كانت من انجح المسرحيات في الإغتراب إذ تم عرضها 17 مرّة في سدني وسافر فريق العمل الى ملبورن وتمّ عرضها هناك ثلاث مرّات.
أنا شخصياً شاركت في المسرحية في دور مستشار الملك “صفوان” كما شاركت فيها الفنانة يولا البستاني وشقيقتها كارمن وعطالله القزي وطانيوس جان القزي وجريس (أبو شوقي ) حاتم وكثيرون.
وكان هذا العمل أهم ما قدمه محترف المسرح المهجري الذي أسسه نجم القزي.
وسنة 1991 قدم المحترف على مسرح الملتقى مسرحية ” وصية كلب” من بطولة عباس مراد أيضاً.
في السنة التالية أقفل “الملتقى” بعدما اقتحمت سيارة واجهته الأمامية على كانتربري رود ولم يتم إصلاحه.
زراعة التين في أبيات الزجاج
ولأن نجم القزي يحب التجديد و”التجريب” وهو أصلاً يهوى المغامرة والأفكار الجديدة، أراد أن يطوي الصفحة على الخيار اللبناني الذي أخذ حقّة من جهد وعناء، راح يفكّر بمشروع زراعي”تقاعدي” لا يحتاج الى الكثير من التعب.. وبينما كان يشاهد شريطاً وثائقياً يابانياً على الأنترنيت لفتته فكرة زراعة أشجار التين في الهايدروبونيك في الخيام البلاستيكية “لأننا أصبحنا في مرحلة من العمر تحتاج الى الراحة وليس للمادة”.. وهكذا كان وسنة 2011 استبدل نجم مشروع خيام الخيار بمشروع خيام شجر التين. ففكرة الوثائقي الياباني اعجتبه خاصة بعدما شاهد وفرة إنتاج التين الذي يستمر الى ستة وسبعة أشهر… وهو يقول أن اختياره كان جيداً وان عدة اقنية تلفزيونية أسترالية زارته وكتبت تقارير عن زراعة التين كونه مادة أساسية في الطعام.
أحب العيش في جزر الباسيفيك
كان نجم القزي شغوفاً بالسفر والرحلات، فهو زار أميركا الشمالية من الولايات المتحدة الى كندا، كما زار المكسيك وكان يعشق زيارة جزر الباسيفيك، فزاركاليدونيا الجديدة وتاهيتي وفيدجي وفانواتو” لأن كان لدي رغبة أن أعيش فيها لأنني أعشق البحر والجزر”… وفي فانواتو زار نجم موقع بركان “لا يزال يلفظ الحمم” وبالإمكان الاستماع الى ارتجاجه، و”هناك يربطون الشخص بحبل كي يتمكن من مدّ رأسه ومشاهدة البركان كي لا يقع ثم يسحبونه”..
الولايات الأسترالية
أما الشق الأمتع من رحلات نجم القزي فكان في زياراته الى كل الولايات الأسترالية، وكان رفيقه في هذه الرحلات العميد المرحوم أنطوان جورج القزي.
فكانا ينطلقان مع زوجتيهما كل بداية صيف ويقطعون آلاف الكيلومترات ولا يعودون إلا بعدما يزورون الولاية بكاملها، وكل صيفية كانوا يزورون ولاية.. وعندما سألته :”هل كنتم تحجزون مسبقاُ في الأماكن التي ستبيتون فيها”؟ قال لا ، عندما نصل الى بلدة أو قرية نسأل عن نزل للمبيت فيه ومن حسن حظنا أننا كنا نجد دائماُ في تلك الأماكن مكانا للمبيت.
يتحدث نجم ولا ينتهي وفي عينيه شوق لتكرار كل ما تحدث عنه.. وعندما تسأله عن انطباعه العام حول مسيرته يقول:” أعتبر أنني عشت حياة جميلة ولا أندم على شيء”.
لماذا كنت يسارياً
لم أشأ ان اترك “مسبّع الكارات” نجم القزي دون أن أطرح عليه سؤالاً فضولياً كان يراودني من زمان، فقلت له “أنت تقريباُ من أوّل اليساريين في الجية وسبقت الى ذلك كل الوجوه اليسارية المعروفة اليوم فما السبب”؟
ابتسم وقال بكل بساطة :” نحن نشأنا في مرحلة كانت فيها نجومية عبد الناصر طاغية، وأنا تأثرت بأفكاره منذ كنت على مقاعد الدراسة، وكوني أحب العمل الجماعي وهذا أكثر ما يتوفّرفي اليسار ، كانت هذه الطريق التي اخترتها يومذاك”.
وعندما سألته:” كيف خاصمت رئيس البلدية مخايل فريد القزي ورحت توزّع المناشير ضدّه ثمّ تزوّجتَ ابنته عايدة”!؟. هزّ رأسه مبتسماً:” كان مشهداّ جميلاً على خشبة العمل السياسي”
Lebanese cucumbers
والإنجاز الأمبر لنجم القزي أنه الشخص الذي أدخل كلمة “ليبانيز ” بكثرة الى سوق التداول الأسترالي في كل مدينة وقرية وشارع.
فكلمة “ليبانيز كوكومبر” أي الخيار اللبناني اجتاحت محلات بيع الفواكه والخضار بشكل لا سابق له من أدليد الى داروين ومن سدني الى بيرث ، وطبعاً الفضل يعود الى فكرة نجم القزي .
غسيل الكلى
سنة 2016 بدأ نجم قزي يغسل كليتيه ثلاث مرات في الأسبوع، وفي أحد أيام سنة 2021 وفي طريقه الى المنزل تعرض لحادث سير وكان يقود سيارته ، واصيب بكسور في قدميه واماكن أخرى من جسده، خضع على أثرها لعدّة عمليات جراحية، لكنه استمر يعاني من آلام مبرحة خاصة في ظهره ، وعجزت العلاجات والمسكنات عن تخفيفها ، ما حدا به إلى ايقاف غسل الكلى، ليسلم الروح في 12 آذار مارس سنة 2025 في غلينوري شمال غرب سدني وحوله زوجته وأولاده وأفراد عائلته.