
بعد فترة وجيزة من عودته إلى المنصب، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أوامر تنفيذية تقضي بوقف التمويل الفيدرالي لما يُعرف بالأبحاث “المستيقظة” (woke research)، في إطار حملة أوسع تشمل إلغاء جميع سياسات وبرامج ومِنَح التنوع والمساواة والشمول (DEI) في الحكومة الأمريكية.
امتدت تأثيرات هذه السياسات إلى مجالات بحثية متنوعة، من الطب والتكنولوجيا إلى الدراسات الاجتماعية واللغات القديمة. وفي الولايات المتحدة، بدأت بعض الجامعات بالفعل في تقليص أعداد الطلاب المقبولين، كما تبحث عن طرق لتخفيض عدد أعضاء هيئتها الأكاديمية والباحثين.
لكن التداعيات لم تقتصر على الداخل الأمريكي، بل بدأت تؤثر أيضًا على الباحثين الأستراليين المشاركين في مشاريع تمولها الحكومة الأمريكية، إذ طلبت إدارة ترامب معلومات حول مدى توافق أبحاثهم مع السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة.
استبيان مثير للجدل
أرسلت الحكومة الأمريكية استبيانًا مكونًا من 36 سؤالًا إلى بعض الباحثين الأستراليين الذين يعملون في مشاريع بحثية مشتركة مع مؤسسات أمريكية.
وبحسب تقارير إذاعة ABC الأسترالية، فإن ما لا يقل عن ثماني جامعات أسترالية تأثرت بهذا الإجراء، حيث تشمل مشاريعها مجالات مثل المساعدات الخارجية، الطب، اللقاحات، والدفاع. كما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن استبيانًا مماثلًا أُرسل إلى مؤسسات بحثية خارج الولايات المتحدة تتلقى تمويلًا أمريكيًا.
يغطي الاستبيان مجموعة واسعة من القضايا، من علاقات الباحثين بالصين إلى مدى ارتباط أبحاثهم بموضوعات التنوع والشمول والهوية الجندرية، وكذلك تغير المناخ.
ومن بين الأسئلة المطروحة:
- هل يمكنكم التأكيد أن مؤسستكم لم تتلقَ أي تمويل من الصين أو روسيا أو كوبا أو إيران؟
- هل يمكنكم التأكيد أن المشروع لا يتضمن أي عناصر تتعلق بالتنوع والمساواة والشمول؟
- هل يتخذ هذا المشروع تدابير لحماية النساء والتصدي “للأيديولوجيا الجندرية” وفقًا للأمر التنفيذي المرفق؟
- هل يمكنكم التأكيد أن هذا المشروع لا يتعلق بالتغير المناخي أو “العدالة البيئية”؟
كما يتطرق الاستبيان إلى قضايا أخرى مثل تأمين الحدود مع المكسيك، ومكافحة الإرهاب، وتقليص الإنفاق الحكومي، و”القضاء على التحيز ضد المسيحيين”.
ردود فعل غاضبة
أعربت مجموعة الثماني (وهي تحالف يمثل أكبر الجامعات البحثية في أستراليا) والأكاديمية الأسترالية للعلوم عن قلقهما للحكومة الأسترالية بشأن تداعيات هذا الاستبيان على البحث العلمي في البلاد.
ووفقًا لمجموعة الثماني، فقد ألغت الحكومة الأمريكية بالفعل أو جمدت منحًا بحثية لست من جامعاتها الأعضاء الثمانية. كما وصفت نقابة التعليم العالي الوطنية الأسترالية هذه الخطوة بأنها “تدخل أجنبي سافر”.
من جانبه، صرّح متحدث باسم وزير التعليم الأسترالي جايسون كلير بأن الحكومة الأسترالية تتواصل مع الولايات المتحدة لفهم أبعاد هذه السياسات وتأثيرها على التمويل البحثي المستقبلي.
الجدل القانوني حول قرارات ترامب
تواجه أوامر ترامب التنفيذية تحديات قانونية في الولايات المتحدة، حيث يرى معارضوها أنها تنتهك التعديلين الأول والخامس من الدستور الأمريكي، اللذين يكفلان حرية التعبير والحماية المتساوية والإجراءات القانونية العادلة.
لكن رغم هذه الطعون، بدأت الوكالات الحكومية الأمريكية بالفعل بتجميد التمويل، وتشير التقارير إلى أن ترامب وجّه إدارته إلى تجاهل بعض أوامر المحاكم، وهو ما يتماشى مع سجله في الصدام مع القضاء الأمريكي.
تأثير القرارات الأمريكية على أستراليا
تلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في تمويل البحث العلمي في أستراليا، حيث بلغ إجمالي التمويل الأمريكي للمنظمات البحثية الأسترالية 386 مليون دولار أسترالي في عام 2024، وفقًا للأكاديمية الأسترالية للعلوم.
وقد يُنظر إلى قرارات ترامب على أنها انتهاك للسيادة الأسترالية، لكن في الواقع، لطالما كان للولايات المتحدة تأثير على الأبحاث الجامعية الأسترالية عبر شروط التمويل، وإن لم يكن بهذا الشكل المباشر سابقًا.
عادةً ما تتضمن عقود البحث مع الجهات الممولة متطلبات محددة، مما يعني أن القوانين الأمريكية يمكن أن تمتد لتشمل الباحثين الأستراليين. فعلى سبيل المثال، عند توقيع اتفاقية “أوكوس” بين أستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة في عام 2021، أثيرت تساؤلات حول مدى امتثال الجامعات الأسترالية لقوانين التصدير الأمريكية الصارمة.
أما الاستبيان الأخير، فيبدو أنه صادر عن مكتب الإدارة والموازنة الأمريكي، ومدعوم بقانون “الرقائق والعلوم” (CHIPS and Science Act) وسياسات مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية. وهذا يمنح الجهات الممولة الأمريكية مبررًا قانونيًا لإلغاء عقود التمويل في حال عدم الامتثال.
ما الخيارات المتاحة أمام أستراليا؟
بدأ بعض الباحثين الذين فقدوا وظائفهم في الولايات المتحدة بالبحث عن فرص عمل في دول أخرى، مما يمنح دولًا مثل الصين وروسيا فرصة لاستقطابهم.
لكن هذا الأمر لم يغب عن انتباه دول أخرى، حيث عرض الاتحاد الأوروبي على العلماء الأمريكيين المتضررين بيئة بحثية أكثر “تسامحًا”، فيما تسعى كل من كوريا الجنوبية وكندا لجذبهم أيضًا. ويمكن لأستراليا أن تحذو حذو هذه الدول.
حاليًا، تُجري الحكومة الفيدرالية مراجعة استراتيجية لنظام البحث والتطوير في أستراليا، وقد يكون تنويع الشراكات البحثية أحد الأولويات الوطنية في المستقبل.
وقد يشمل ذلك إعادة النظر في قرار عام 2023 بعدم الانضمام إلى برنامج “هورايزون أوروبا”، وهو أكبر صندوق بحثي تابع للاتحاد الأوروبي، مما قد يمنح الباحثين الأستراليين خيارات تمويل أوسع بعيدًا عن النفوذ الأمريكي.
بغض النظر عن المسار الذي ستتخذه أستراليا، فإن التغييرات الجذرية في السياسات الأمريكية تفرض عليها إعادة تقييم كيفية تمويلها وتنظيمها للبحث العلمي في المستقبل.