نَـهَـتني جـدّتي ذات عـصر:
لا تقتربي من هذا السّياج، ولا تتخطي هذا الممر، وإياك أن تعبري من هذا الطريق الضّيق، لا تختصري السبيل تسقطين في جحر مكيدة لا يمكنك الخروج منها، ربما تتغير الطّريق فجأة، فما عدو الإنسان سوى الإنسان!
سألتها لماذا كل هذا الحرص بينما ننعم بالعيش الرغيد ولا يوجد لنا أعداء، ولما هذا الخوف طالما تربينا على احترام الجميع من الصّغير إلى الكبير، واعتدنا مراعاة شعور الضّعيف، وتهدئة خاطر الذليل!
أجابتني: أخشى من هذا اليوم الذي سيأتي، ومن ذكرتِهم يصبحون أقوى من العدالة الإنسانية، الآن جميعنا أخوة، في النهار يضحك كل في وجه الآخر، وعندما تحين ساعة المساء يترك كل منا الآخر ويذهب بمعية ضميره إلى مخدع العقل القَلِق ليضعها على وسادته البيضاء، منهم من يلوثها بأفكاره السلبية ومنهم من يزيدها طهارة، سيأتي يوم ويتبدل كل شيء، ويصبح الأخ عدوا لأخيه، ربما اليوم سيتأخر لكنه سيأتي، المهم هو ألا تفقدي إيمانك بالمحبة، لأن من يزرع محبة يجدها، ومن يزرع كراهية يحصدها، وصافي القلب سيبقى قلبه صافيا، وهذا الدنيء السّيء، حامل المعاصي، سوف ينكشف حتى لو بعد حين!
لم أعد أثق بأحد جدتي، فالعصر الآن لم يعد ذلك العصر الذي عشناه، لكن مشاهد كثيرة جميلة ما تزال تلوح داخل ذاكرتي، رأفة فلانة ورحمة فلان، إيمان فلانه وتقوى فلان، قبح فلان أمام حسنات فلانة، نيّة فلانة الملتحف عقلها بالسواد مقابل النيّات الصادقة القليلة لفلانة، ومن بين كل هذا التخبط، أتوقف عند مشهد ربما لا أهمية له، أتذكر الكلب المشرد، انتظر لقمة بوداعة خلف سور بيتنا، خصصتها له كل يوم، ولكي لا نتشاجر، أنا واخوتي، وزّعتِ تلك اللقم فيما بيننا، حسب عدد الأيام، نفعل ذلك مسرورين راضين، لقّنتنا الدّرس الأهم في الرّحمة، وأصبح مفهوما ألا ندوس ظهر نملة، وندع القوقعة تمر بسلام، فمن يشفق على حيوان طريد لا يمكنه أن يكون قاسيا.
الحيوان البريء، لحق به صبية الحارة، رجموه وجاء في يوم ما والتجأ إلينا باكيا، لا تُرى دموع الكلاب، لكنهم يبكون! بكينا أمام نظراته الحزينة أيضا، نبح كثيرا عندما سقطت عينه على ثعبان تسلق جدار بيتنا وتحيّن فرصة مهاجمته ولو على حساب حياته، هذا المسكين الذي أتت نهايته وسُحق تحت عجلات سيارة شحن كبيرة ولم يجد من يلملم أشلاءه من الطريق، هذا المنبوذ علّمنا هو أيضا كيف يكون الوفاء…. لكن لا تعمّر الكلاب طويلا!

رابط مختصر: