بقلم: الأديب فتحي فوراني
أعترف بادئ ذي بدء بجهلي وبثقافتي التي اكتشفتُ فيها ثقبًا لا يشرّفني.
ومرة أخرى يستطيع المذيع الرياضيّ أن يعلن عن هدف أدخلته كاتبة «الحلم المزدوج» إلى المَرمَى الذي لم يحسن حارسه حراسته أمام هذه الضّربة. لقد سدّدتْ دينا سليم إلى شبكة المرمَى، ضربة كادت تمزّقها!
ففي اللعبة الأدبيّة التي تحفل بالهُواة الذين خلطوا الحابل بالنابل، والصالح بالطالح، ضاعت الطاسة الأدبيّة، وصرنا نشكّ في ذائقتنا الأدبيّة أمام هذا المشهد العبثيّ الذي يَقنع بالقليل من الأدب، ويحفل بالكثير الكثير من «قلّة الأدب”!
مرّة أخرى، تتسلل إلى سجلّي الحافل بالخسائر والهزائم وخيبات الأمل، ضربة أخرى إضافيّة!
ومما يعزّيني أنّني لست وحيدًا في هذه البطولة!
فمن كان منكم بلا هزيمة أو إحباط أو أزمة عاطفيّة أو إضاعة فرصة ذهبيّة..فليرفع إصبعه!
أعترف أمامكم بأنني لم أعرف دينا سليم من قبل، ولم أقرأ لها شيئًا، وفي زحمة الأسماء التي يزخر بها المشهد الثقافيّ.. كان اسمها يمرّ من أمامي، فأمرّ عليه مرّ الكرام.. لا أتوقّفُ.. ولا ألتفتُ.. ولا أبالي!
إلى أن كان يوم..
ففي الأسبوع الماضي اتصل بي صديق يعزّ علي كثيرًا، وبيني وبينه عيش وملح فكريّ، ولا أستطيع أن أقول له: «لا»، وقال لي بلهجة «عَشَمية» دافئة وفيها الكثير من خفِّة الظّلّ: سجّل في دفتر اليوميّات: العاشر من آذار..أمسية أدبيّة مع الكاتبة دينا سليم ومع باكورة أعمالها الروائية: «الحلم المزدوج» وأنتَ عريف الأمسية!
والحقّ الحقّ أقول لكم أني تردّدت! وقلت في نفسي: لقد وقعتُ في ورطة!
وجاءني صوت داخلي وهمس في أذني: أُغرشْ!
فغرشتُ!
وتخوّفت من اكتشاف جهلي وافتضاح أمري، واكتشاف الثقب الثقافيّ الذي أردته أن يظلّ مستورًا! فقلت في نفسي: «غُلُب بسْتيرة ولا غُلُب بفضيحة بجلاجل، ومن ناحية أخرى فقد اعتدتُ خوض المنايا، فليكنْ! وإذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمرّ به، الوقوف أمام الجمهور في هذه الأمسية الأدبيّة.
مغامرة أخرى، ورزقي على الله!
فأنا معتاد على هذا النوع من المغامرات، ولطالما خُضتُها، وواجهت الكثير من المتاعب، وأحيانًا دفعتُ الثمن غاليًا، ولكنني كنت أنام الليل الطويل مرتاح الضمير!
ولا أخفي عليكم أنني كنت أجد في هذا اللّون من المغامرات ضربًا من التّحدّي، وكثيرًا من المتعة! على الأقل، أعتبرها دعوة إلى اقتحام المجهول وقراءة ما لم أقرأ!
وقلت في سرّي: أكتشف شيئًا جديدًا، وأُزيل عن جبيني وصمة الأمّيّة الثقافية!
قال خليل السكاكيني إذا لم تخنّي الذاكرة، والذاكرة خؤون، قال: إذا مرّ يوم من عمري لم أستفد فيه كلمة ولم أزددْ عِلمًا فما ذاك من عمري.
واسترجعت تراثنا، فشدّني المثل القائل: العلم بالشيء ولا الجهل به!
وحيث إنني من عباد الله الذين لم يُؤتوا من العلم إلا قليلًا، فقد توجّهت إليه عزّ وجلّ بالدّعاء «ربّ زِدني علمًا”!
واتّكلت عليه!
وفي نهاية المطاف..فأنا المستفيد الحقيقيّ!
ومتعة اكتساب المعرفة..متعة وأيّ متعة..والمتعة الأدبيّة في حضرة اللغة العربيّة..نوع من العبادة! فقرأت الرواية..واكتشفت شيئًا..
لقد اكتشفت موهبة واعدة..وانفتحت شُرُفاتي على موهبة جديدة تلفتُ الانتباه.. وشكرت صديقي العزيز الدكتور بطرس دلة..الذي أوقعني في هذه الورطة!
ووعدت نفسي أن أوقعه في ورطة أدهى وأمرّ..لن ينساها طول حياته!
وأنا وهو..والزمن طويل!
**
أيها الإخوة والأخوات
بعد هذه الدعابة الأدبية..والدردشات عن الجهل والأمّيّة الثقافيّة..ندخل في الأمور الجِدّيّة!
في الاسبوع الماضي وصلتني هديّة!
ففتحتها وإذا بها «حلم مزدوج»! وهو الباكورة الروائيّة لضيفتنا الأدبيّة دينا سليم حنحن. كما وصلني عدد من المقالات التي تحفل بالاطراءات والتقييمات الأدبيّة التي نغبط الكاتبة عليها، الأمر الذي حثّني على قراءتها بإنعام ورَويّة..ولا أُخفي عليكم أنني بعد انتهائي من قراءة الرّواية، اكتشفت أنني أمام نبع ثرّ من العطاء..أمام كاتبة واعدة تشقّ طريقها بخُطى ثابتة في عالم الرواية، وهي بداية مباركة تستحقّ التشجيع.
وأستطيع أن أنام ملء جفوني وأغمض عينيّ، وأراهن على هذه المُهرة التي ترمح في الساحة الأدبيّة. هذه الكاتبة الصادقة المبدعة سيكون لها شأن! وأول الغيث قطر!
قبل سنة ونصف السنة، وفي عمان صدرت الطبعة الأولى من رواية «حلم مزودج»، وفي بيروت، عن دار العودة، صدرت الطبعة الثانية من الرواية عام 2004.
ولأسباب قاهرة..جاءت من القاهرة.. وشاركتْ فيها بيروت وعمان.. تعذّر نشر الرواية في البلاد التي تدرّ لبنًا وعسلًا!.. ونرجو أن يُرفع الحصار..وتنجح ألِس في اختراق الحواجز.. لكي تنطلق.. وبيمينها «الحلم المزدوج» حتى يتسنّى لها الطواف أيضًا في بلاد العجائب!
وفي العالم العربيّ كُتب عنها العديد من المقالات النقديّة بروح إيجابيّة وبإعجاب.. يتمنّاه كل كاتب في خطواته الأولى.
قرأت مقالَين للعراقيّ سعد حمزة، ومقالًا لعبد الكريم كيّالي ومقالًا لمِقداد رحيم وهو محاضر من السويد، وآخر لجاسم طاهر وهو صحافيّ عراقيّ مقيم في هولندا، ومقالًا لمحمد معتصم من المغرب، ومقالَين للدكتورين بطرس دلة ومنير توما وآخر للشاعر الفلسطينيّ المقيم في السّعودية تيسير حامد.
فمن هي صاحبة هذه الرواية؟
لقد فتحت الملفّ الشخصيّ لِدينا ووجدت ما يلي:
ولدتْ في نيسان في مدينة اللد..في أواخر القرن العشرين!
الأب مولع بالفنّ..والأمّ تحترف الأمومة الدافئة..ومطالعة الكتب الأدبيّة..
والجدّة حضن حنون، ومدرسة للطّموح والصمود والثقة بالنفس والمثابرة والصبر الأيّوبيّ. وهي تاريخ يمشي على قدمَين!
وفي ظروف شبه مستحيلة، شقّت الكاتبة طريقها، واجتازت حقولًا مزروعة ألغامًا اجتماعيّة وإنسانيّة وأدبيّة وشخصيّة!
وبالمناسبة، الشّيء بالشّيء يذكر، لي صديق اسمه أحمد أبو الطيّب المتنبي، وأسهر معه كل ليلة.
لقد علّمني أبو الطيّب كيف يدمن الإنسان على السهر. وعرّفني على صديق آخر اسمه اللّيل!
ذات مساء..حدّثني عن الهمّ وتبعاته وتداعياته، وأنشدني البيت التالي:
والهمّ يخترم البدين نحافة ويشيب ناصية الصبيّ ويهرمُ
ورغم الهموم التي تُشيب ناصية الصّبيّ وتُهرمه، فقد استطاعت الكاتبة أن تسير في الحقول الملغومة..وتظلّ منتصبة القامة مرفوعة الهامة!
تسير على الزجاج..حافية القدمَين..دامعة العينَين..وفي القلب نزيف!
إنها تكابد وتجاهد وتعاند وتبدع..ولا ترفع الراية البيضاء!
إنها تنحت من صخر..وتحترف قَرط الصّوان!
الغربة والوحدة والألم..أعزّ أصدقائها!
تغرّبتْ فتوحّدتْ فتألّمتْ..فأبدعتْ!
والألم أبو الإبداع..كما قال أحد الكُتاب الروس، وأظنّه تشيخوف!
أيّوب لا يفارقها..فهو يطاردها حيثما توجّهت..ويسير وراءها كالظلّ..ويعزّ عليه أن يتخلّى عنها..إنه يحرص عليها كلّ الحرص ولن يتركها وحيدة أبدًا!
قلب صغير يسعُ المحيطات حبًّا..ويطفح بركانًا من العاطفة الصادقة..ورأس مرفوع أبدًا، وطموح حدوده السّماء!
وأن تُقْدم المرأة على خوض مغامرة الكتابة، وفي مجتمع موبوء ذكورية واستبدادًا، ويتمتّع بقلب من حديد..فأمر تستحقّ عليه الكاتبة كلّ التقدير.
في ملفّها أربعون قصة ونصًّا ومقالات نقديّة وحوارات صحافيّة.
ويروي الرّواة أن المطبعة حبلى بعشر قصص للأطفال ومسرحية للأطفال ورواية جديدة عنوانها «الحالمون”.
ونحن نريد أن نستبشر خيرًا بميلاد نرجو أن يكون سعيدًا!
وقد ألقت إلينا عصفورة بوردة صغيرة ناعسة الأكمام..جامحة عصيّة.. وفيها تمنّع وخَفَر!
وفي حوار بين الوردة والسيف..عرفت شهرزاد كيف تُشهر شذاها في وجه الطاغية.. شهريار!
فغطّ الطّغية في سُبات عميق.. وانهزم الظلام.. وكان نور.. فأدرك شهرزادَ الصّباح.. وكانت قصيدة!
نواقيس البحار
تعلن الحصار
تضرب حوافّ الذاكرة
والأسوار المغلقة
تدخل سماء مربدّة بالغيوم
والخلجان
تغمر مياهها أعماق السكون
تغفو اللّوعة في قلب السنين
والانتظار
امرأة ناعمة تخدشها همسة رجل
والرّيح تطرق الأبواب
وتعوي الذئاب
تجرّدها..تجتاح عفّتها..
تأخذها من خاصرتَيها
تعرّي جسدها
فتتشظّى تحت أقدام أحلامها
ويبقى الحلم ناقوسًا..يحترف الانتظار!
*
لا يحنّ على العود إلا قشرُه.
تيسير حامد..شاعر فلسطيني مقيم في السعودية.
وفي رسالة عاجلة بعثها عبر الأثير..يقول تيسير:
“أرجوكم أن تشكروا دينا سليم نيابة عنّي. لأني عدتُ على أجنحة قلمها إلى الوطن، عدتُ عندما عاد «صارم» إلى «شموس». حملتني هذه المرأة إلى أبو سنان وكفر ياسيف وعكا وحيفا ويافا والناصرة وطبريا..إلى الكروم والسفوح والشواطئ، وأزعم اليوم أنني أجلس بينكم، أطلّ في وجوهكم التي أنتمي إليها بقوّة، فأرى فيها حكاية وطن وأرض، وآمنت أن القلم وطن، والمحبّة وطن، والعطاء رمز الأوطان ومهد الأديان.
أهنّئ الروائية دينا سليم على العمل القيّم الذي قدمته، فقد أغنت مكتبتنا العربيّة برواية قيّمة، ذات خاصيّة مميزة تحمل جرأة مهذّبة.
أتلهّف جدًّا لقراءة الرواية التالية. فهل سيكون ذلك قريبا؟» (تيسير حامد)
فمن أنت يا أيّتها الأديبة الصاعدة الواعدة التي تحمل في قلبها «حلمًا مزدوجًا”:
سقوط الطاغية..وعودة العصفور من صقيع الغربة إلى دفء «شموس» المشتهاة!؟
من انت؟!
وكل «سقوط» وكل «عودة» وأنت بخير
**
(حيفا مقهى «تموز» الثقافي، 10/3/2005)
**
من كتاب «دروب المسك»