عندما حصل انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020، وحده تمثال المغترب اللبناني على مشارف المرفأ بقي منتصباً، لم يطله الدمار الشامل الذي أصاب المرفأ ومحيطه.
يبلغ طول التمثال البرونزي 4 أمتار و30 سنتمتراً ووزنه 1400 كيلوغرام. وصل بيروت في 10 سبتمبر (أيلول) من عام 2003، ودُشّن في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه. ولهذا التمثال قصة يرويها لـ«الشرق الأوسط» المحامي نبيه الشرتوني. فهو مغترب لبناني شغل منصب رئاسة الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم. ومع زملائه في النادي اللبناني بالمكسيك عمل على إقامة هذا النصب التذكاري. اليوم تحوّل هذا التمثال إلى معلم سياحي، وصار عنواناً ونقطة انطلاق يتبعهما اللبنانيون في مشاويرهم في العاصمة.
يمثل التمثال، المغترب اللبناني القديم، مرتدياً السروال والسترة (الجبّة) الجبلية يضع اللبادة (قبعة أسطوانية) على رأسه، ويحمل على ظهره أمتعة السفر في «بقجة» من القماش. ويقول الشرتوني: «ألّفنا لجنة خاصة في المكسيك لإقامة هذا التمثال، وثُبّت بوصفه شعاراً اغترابياً. وهناك جوائز تكريمية تحمله، وكانت بيروت أولى محطاته. واليوم نراه ينتشر في بلدان عدة بينها أميركا وأستراليا والمكسيك. فالمغتربون اللبنانيون موجودون في كل بقعة من الكرة الأرضية. ونحن فخورون بأصولنا وانتمائنا لوطننا لبنان».
حنين نبيه الشرتوني إلى لبنان يسكنه منذ هجرته إلى المكسيك. كان يومها في الـ24 من عمره، ترك بلدته شرتون، وأقفل مكتب المحاماة الذي يملكه على أمل العودة القريبة، إذ قال الشرتوني: «ذهبت هناك بقصد زيارة أعمامي ولكن القدر شاء أن أبقى حتى اليوم. وصرت بين عداد المغتربين اللبنانيين في المكسيك. لم أنسَ لبنان يوماً، ولم تفارقني ذكرياتي فيه. وهذا التمثال يُترجم حنين المغتربين اللبنانيين لأرضهم. هذا الحنين هو وليد المحبة الناتجة عن الشّوق، الذي بدوره يشعرك بالحاجة لعيش ذكرياتك في وطنك».

صمّم هذا التمثال الفنان اللبناني المغترب رامز بركات. ومن مجموعة صور وصلته عن أجداد ومغتربين قدماء في المكسيك، رسم ملامحه. ويعلّق الشرتوني: «كنا مجموعة لبنانيين عملت على تنفيذ هذا المشروع. ومع نبيل حرفوش وخورخي شملاتي وغيرهم ألّفنا لجنة تمثال المغترب. وفي لبنان سهّل لنا مهمتنا المحافظ الأسبق يعقوب الصراف. فأمّن لنا قطعة أرض مقابل مرفأ بيروت كي ينتصب التمثال عليها. لماذا مرفأ بيروت؟ لأن اللبنانيين القدامى كانوا يعبرون منه إلى العالم».
يشكّل «تمثال المغترب اللبناني» جسر تواصل بين اللبنانيين المهاجرين وأرض الوطن. ويصف الشرتوني الهجرة بنوع من العذاب، ويوضح في سياق حديثه: «نرحل من بلادنا وفي أذهاننا صور وذكريات كثيرة. نعيش حياتنا ويومياتنا على أمل الالتقاء بها ولو بعد حين. ولكن عندما يعود المغترب إلى أرضه ويكتشف تغييرات جمّة حصلت يُصاب بالضياع، وكأن هناك حلقة مفقودة بين زمنين لم يستطع التقاطها، فتؤلف فراغاً عنده يُشعره بالعذاب. الزمنان مختلفان وهو يقف في وسطهما لا يعرف لأي منهما ينتمي».
شوق نبيه الشرتوني إلى لبنان وكل تفصيل فيه دفعه لاستحداث لغة محكية تعلّم للشباب المغترب. وتحت عنوان «أراب كولوكيال شرتوني» ألّف قواعد هذه اللغة. «لاحظت من خلال مدرسة افتتحتها في المكسيك، أن الطلاب لا يستسيغون تعلّم العربية الفصحى ويستصعبون التحدث بها. فقررت ابتكار لغة محكية تناسب المغتربين لأي بلد انتموا. هذا العمل استغرق مني سنوات طويلة. وبالفعل صارت هذه اللغة اليوم منتشرة في العالم أجمع. والمغتربون من لبنانيين وغيرهم يتحدثون بها».
يرى نبيه الشرتوني، أن العربية الفصحى لا يتحاور بها أحد في منزله؛ وعندما كان التلامذة يدرسون قواعدها، كان أستاذ اللغة يتوجه إليهم بالعامية. ومن ثم ينتقل إلى تعليمهم أسس الفصحى. ويعلّق الشرتوني: «كانوا يشعرون بالضياع فلا يعرفون كيف يستخدمونها في يومياتهم وفي حواراتهم مع أهاليهم وأصدقائهم. ومع الـ«أراب كولوكيال» سهّل عليهم الأمر. واليوم يتحاورون بها مع أي مغترب كان. فهذه اللغة انتشرت لتطال مغتربين من مصر واليمن وتونس وبلاد الشام وغيرها».

يؤكّد الشرتوني إن العامية التي استحدثها لا يقتصر تعلمها على المغتربين من أصول لبنانية أو عربية. «هناك إيطاليون وفرنسيون وأميركيون يتعلّمونها اليوم. ويوجد تطبيق إلكتروني لها، يسمح لهم باستعمالها على تطبيق (واتس آب) وعلى جهاز الكومبيوتر».
ولكن هل كسر بذلك قواعد اللغة العربية الفصحى؟ يردّ: «أبداً لا بل أنا قدّمتها خدمة للغتنا العربية. كما ضمنت استمراريتها من جيل مغترب إلى آخر من دون أن تفقد هويتها. وقمت بأبحاث لغوية ودراسات لأصل إلى هذه النتيجة. تتضمن ألفاظاً من دول عربية عدّة. وتجمع الكتب التي ألّفتها عنها ما بين القواعد اللغوية والأرقام والأمثولات. وكذلك القصص والضمائر المنفصلة وغير المنفصلة».

تطول أخبار نبيه الشرتوني عن رحلته مع الهجرة وعن تعلّقه بوطنه لبنان. ويختم لـ«الشرق الأوسط»: «الحنين للوطن الأم لا ينتهي. ولكن ما يعزّينا هو أننا نحن الجاليات اللبنانية نتمسك بعلاقة وطيدة به. ونحن جاهزون دائماً للمساهمة في إعادة إنهاضه. وهدفنا هو توريث هذه العلاقة للشباب المغترب ليكمل رسالتنا نحو بلدنا لبنان».
ومن أحدث إنجازات نبيه الشرتوني، كان عام 2023، حيث استقدم مجموعة من الشباب المغترب إلى لبنان. جاؤوا يومها من 18 بلداً أميركياً وأوروبياً، جالوا في مدن وبلدات لبنانية ليتعرّفوا إلى أرض أجدادهم.