اختارت الجمعية الأميركية للأبحاث السرطانية
American Society of Clinical Oncology- ASCO)) ، وهي أعلى منبر علمي للأبحاث السرطانية في الولايات المتحدة، فيليب سالم، العالم والطبيب لإلقاء الضوء على مسيرته الطبية، وفلسفته في معالجة الأمراض السرطانية، بعد خبرة طويلة امتدت إلى 56 سنة. وذلك في مقال الصفحة الأولى من النشرة الرسمية للجمعية، ASCO Post التي صدرت بمناسبة المؤتمر
السنوي الذي عقد في شيكاغو من 31 أيار إلى 4 حزيران من سنة 2024 وكان عنوان المقال: «من قرية صغيرة في لبنان إلى العالمية في الابحاث السرطانية».
يصف المقال رحلة فيليب سالم العلمية، وكيف كان في كل مرحلة من هذه المراحل الانسان الكبير الذي وضع المعرفة في خدمة المريض وأضاء الحياة بالأمل والمحبة، وتجرّأ على تحدّي الدوغما. وكيف أصبح رائد رؤية فلسفية للطب محورها الإنسان وركائزها المعرفة والمحبة والأمل . ويستشهد المقال بقول من فيليب سالم «كنيستي هي عيادتي، صلاتي هي عملي». وبقول آخر «كلّما لمست جسد المريض أشعر بأن ّ يد الله تلمس يدي».
المحطة الأولى
المحطة الأولى كانت نيويورك. في حزيران من سنة 1968 وفي سن السابعة والعشرين، وجد الدكتور سالم نفسه على بعد ستة آلاف ميل من لبنان، يحدّق بمداخل Memorial Sloan Kettering Cancer Center . ويقول: «رئيسي الأول كان Bayard Clarkson، وكان David Karnofsky الرئيس الأعلى رتبة وهو يُعتبر مؤسس علم السرطان. كان Karnofsky يتمتع بحضور مهيب، وكان المساعد الأول له Irwin Krakoff. هذان الرجلان حددا مستقبلي المهني في الولايات المتحدة».
ويقول Ronald Piana ، كاتب المقال، انه لم تكن حياة الدكتور سالم الجديدة في أميركا لتختلف عن كتاب قصص قصيرة امتلأت صفحاته بالعجائب المدهشة. فبعد ثلاثة أشهر من وصوله الى نيويورك اصبح يعالج أحد أقرباء أرسطو أوناسيس ، ووجد الطبيب الشاب نفسه يقف فجأة قرب جاكي كنيدي، السيدة الأميركية الأولى السابقة التي فتنت العالم. تلك كانت البداية لعلاقة مع السيد أوناسيس استمرت طيلة عمره. وفي سنة 1969 تم تشخيص مرشده الأسطوري David Karnofsky بالاصابة بورم سرطاني خبيث في الرئة، كان قد انتشر إلى الدماغ. يروي د. سالم قائلاً: «في ذلك الوقت كانت علاقتي بالدكتور Karnofsky كعلاقة الأب بابنه. وبعد علاجه بالأشعة، شعر بتحسن كبير وأخبرني بسعادة غامرة أنه تلقى دعوة من شاه إيران لزيارة طهران. ثم اخبرني إنه مصمم على زيارة لبنان والتعرف إلى عائلتي. وبالفعل توقف في بيروت وأمضى ثلاثة أيام مع أهلي في بطرام. «وقبل وفاته بأسبوع واحد، قال لي ألّا أرفض امنيته. ونصحني بعدم الرجوع إلى لبنان فورا، والالتحاق بمركز M.D.Anderson في هيوستن. لقد أرادني أن أعمل مع Emil Freireich و Tom Frei لمدة سنة واحدة على الأقل. لم أستطع رفض أمنية رجل على فراش الموت كان بمثابة الوالد لي».
المحطة الثانية
بعد ثلاث سنوات من التخصص في الولايات المتحدة الأميركية عدت الى لبنان في صيف عام 1971 والتحقت بالمركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت في شهر أيلول. كنت أول استاذ في تاريخ الجامعة متفرغ بشكل كامل لعلاج السرطان والأبحاث فيه. كانت أحلامي كبيرة، ولكنني كنت أجهل أن حروباً شرسة وطويلة قادمة في وقت قريب». يستعيد د. سالم تلك الذكريات ويروي قائلاً: «كتبت معظم المقالات التي نشرتها يومذاك في أهم المجلات العلمية في الملجأ في راس بيروت تحت وابل من القنابل التي كانت تمطر على المدينة.
خلال عمله لمدة خمس عشرة سنة في الجامعة الأميركية في بيروت، أسس الدكتور سالم برنامجاً للسرطان بمستوىً عال. يقول الدكتور سالم شارحاً: «لم تكن الجامعة الأميركية تملك الموارد المالية الكافية لدعم الأبحاث؛ ولم تكن تملك الرؤيا الصحيحة لأهمية البحث العلمي في حياة الجامعة. ولكن بالرغم من تلك العراقيل والحرب الشرسة، كنا نملك الارادة والتصميم فأسَّسنا مجموعة للأبحاث السرطانية. وكان فريقي البحثي واحداً من أوائل الباحثين الذين اكتشفوا مرضاً جديداً محصوراً في البلدان الساحلية للبحر الأبيض المتوسط . وكان هذا المرض نموذجاً لكيفية تطور الالتهابات الجرثومية التي تصيب الجهاز الهضمي، وكيف تتحوّل هذه الالتهابات إلى امراض سرطانية في حال لم تتم معالجتها بالمضادات الحيوية.
المحطة الثالثة
رغم حبّه لوطنه، كانت ويلات الحرب قد أصبحت لا تُحتمل. وتدهور الوضع الأمني بشكل مخيف، واصبح الخطر على حياته وحياة عائلته كبيرا . فقرر الدكتور سالم مغادرة لبنان في كانون الثاني من سنة 1987 وعاد الى مدينة هيوستن في الولايات المتحدة. وفي هذا المجال يقول د. سالم «حطَّت بنا الطائرة، أنا وزوجتي وثلاثة أولاد في مطار هيوستن. شعرت كأن القسم الاكبر منّي قد مات ودُفن في لبنان، وها انا قادم بما تبقّى مني لكي أضمن فقط سلامة ومستقبل أولادي. ظننت يومذاك أن حياتي المهنية قد انتهت؛ لا بل حياتي كلها قد انتهت»!
وبعد تسعة أشهر من وصولي إلى مدينة هيوستن طلب مني صديقي الدكتور Burt Lee ان اعمل معه في لجنة استشارية، يرأسها هو للرئيس George Bush الأب. وكان الرئيس Bush يومذاك قد اختار الدكتور Lee طبيبه الخاص واسند اليه مسؤولية إدارة كل أجهزة العناية الصحية في الولايات المتحدة الأميركية . كانت هذه المرحلة من مسيرتي مميزة وتاريخية. لقد تعلمت فيها الكثير. كما ان الخبرة التي اكتسبتها في البيت الأبيض مع الرئيس Bush أولا ، ومع الرئيس Bill Clinton ثانياً، فرصة مهمة تعرفت فيها كيف يصنع القرار في البيت الأبيض، وكيف يؤثر القرار السياسي على السياسات الصحية .
المحطة الرابعة والأخيرة – مركز سالم للسرطان
بعد أربع سنوات من عمله في M.D. Anderson أصبح الدكتور سالم مديرا لقسم الأبحاث السرطانية في مستشفى القديس لوقا الأسقفي في مدينة هيوستن. وفي الوقت ذاته، أسس مركز سالم للسرطان.
وبعد مضي اكثر من 56 سنة من المساهمة في علم السرطان والأبحاث فيه، ليس للدكتور سالم أي نية للتقاعد. ها قد طور حديثا علاجا جديدا للأمراض السرطانية وهي في الحالات المتقدمة، ICTriplex. هذا العلاج هو مزيج من العلاج المناعي والعلاج الكيميائي والعلاج المستهدف. في هذا العلاج تُبنى استراتيجية المعالجة على قياس المريض وعلى قياس المرض السرطاني المصاب به هذا المريض. وسيتكلم الدكتور سالم عن استراتيجيته العلاجية الجديدة في مؤتمر ASCO Breakthrough العالمي الذي سيعقد في اليابان 8-10 آب من سنة 2024. يمتاز هذا المؤتمر عن غيره من المؤتمرات التي يعقدها ASCO لأنه يركز فقط على الأبحاث السرطانية المهمة والتي تعتبر اختراقا علميا والتي لها تأثير كبير على مجرى تطور علاج هذه الامراض.
وختم الدكتور سالم مقابلته مع ASCO Post بقوله «خلال السنوات الست والخمسين في معالجة الامراض السرطانية والأبحاث فيها، كانت عيناي دائما وابدا شاخصتين على الكرة . لم تكن تلك الكرة جائزة نوبل، بل كانت ما هو أهم وأعمق . إنقاذ حياة إنسان «.