رغم التصريحات المتطرفة التي صدرت عن عدد من الوزراء الذي توعدوا بتجفيف غزة، أدركت إسرائيل من بداية الحرب أنها ملزمة بتجديد إمدادات المياه إلى غزة؛ في أعقاب اتصالات جرت تحت النيران بين أطراف مهنية في إسرائيل والقطاع، قام عمال فلسطينيون بإصلاح خط الأنابيب تحت حراسة مشددة من الجيش الإسرائيلي
منذ اللحظة التي اندلعت فيها الحرب، كان من الواضح أن مسألة توفير المياه للسكان الفلسطينيين كانت قضية حساسة بشكل خاص. وحتى قبل أكتوبر، كانت شبكة المياه في قطاع غزة في حالة هشة وعانى السكان من نقص مزمن في المياه الصالحة للشرب، وتحت النار، حتى ذلك كان في خطر الانهيار التام.
ويتبين الآن أنه خلال القتال كانت هناك اتصالات وتعاون مباشر بين عناصر من الجانب الإسرائيلي وعناصر فلسطينية في غزة من أجل ضمان تجديد إمدادات المياه من إسرائيل إلى القطاع.
يوضح هذا التعاون بين الجهات المهنية الإسرائيلية والفلسطينية الهوة الواسعة بين التصريحات الملتهبة لوزراء الحكومة والواقع المعقد على الأرض. هذه الفجوة هي أحد الأسباب التي تجعل جميع الأطراف في الجانب الإسرائيلي التي تتعامل مع هذه القضية « منسق أعمال الحكومة في المناطق، وسلطة المياه وشركة «مكوروت» « تفضل عدم الخوض في هذه المسألة.
في السنوات الأخيرة، قامت إسرائيل بضخ المياه إلى قطاع غزة عبر ثلاثة خطوط أنابيب: الخط الشمالي، بالقرب من ناحل عوز، والأوسط، المعروف باسم بركة سعيد، والجنوبي، المعروف باسم بني سهيلة، بالقرب من خان يونس
بلغ إجمالي المياه التي تم ضخها 20 مليون متر مكعب سنويا، حيث تم خصم الدفعة من أموال ضرائب السلطة الفلسطينية. وحصل سكان غزة على بقية المياه من مرافق تحلية المياه الصغيرة المقامة في قطاع غزة والتي يتم ضخها من الآبار التي أصبحت المياه فيها أكثر ملوحة بسبب انخفاض منسوب المياه وتسرب مياه البحر.
وقد تضررت منشأة ضخ المياه الشمالية، التي تنقل المياه من إسرائيل إلى قطاع غزة بالقرب من ناحل عوز، وأُغلقت في هجوم السابع في أكتوبر. توقفت محطات تحلية المياه في قطاع غزة عن العمل على الفور تقريبا بسبب نقص وقود الديزل والكهرباء. وسارع وزير الطاقة آنذاك يسرائيل كاتس ووزير الدفاع يوآف غالانت إلى الإدلاء بتصريحات توعدا فيها بأن المياه لن تدخل إلى غزة.
في اليوم الثالث للحرب (9 أكتوبر) نشر غالانت مقطع فيديو قال فيه «من الآن فصاعدا لن يكون لسكان غزة لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود». في اليوم نفسه نشر كاتس على منصة «اكس»، «لقد أمرت بقطع إمدادات المياه من إسرائيل إلى غزة على الفور. ما كان لن يكون». وحتى في ذلك الوقت كان من الواضح أن كلمات التبجح هذه يمكن أن تصبح ذات يوم دليلا في لاهاي.
وبينما لا يوجد خلاف حول إغلاق خط الأنابيب الشمالي، هناك خلاف حول مصير خط الأنابيب الأوسط والجنوبي. وبحسب إحدى الروايات، فقد تم إغلاقهما أيضا في الأيام الأولى من القتال نتيجة سقوط قذائف هاون أو مرور دبابات ومعدات ثقيلة إسرائيلية. وبحسب رواية أخرى، قام الجيش الإسرائيلي بإغلاق الصنابير بأمر من وزير الدفاع.
وقال مصدر مطلع على الأمر «ما حدث في الأيام الأولى كان بمثابة حرب سياسية وإعلامية حول إغلاق خطوط الأنابيب من عدمه. هذه الحرب، التي تضمنت العديد من التغريدات حتى قبل إغلاق خطوط الأنابيب فعليا، عرّضت حياة البشر للخطر لأن هذه البنى التحتية كانت موجودة في نفس المكان لمدة 20 عاما ومكانها ليس سرا.
«بمجرد أن تقول إنك ستغلق [خط الأنابيب]، يبدأون في قصف هذه النقطة. كل هذا الصراخ أدى إلى تأخير ما أرادوا القيام به. في النهاية، كان إرسال عمال مكوروت إلى هناك أمرا خطيرا للغاية، وقد نفذ الجيش الإسرائيلي ذلك».
على كل حال، سرعان ما أصبح واضحا أن نقص المياه في قطاع غزة سيأتي بنتائج عكسية على إسرائيل وسيسبب لها أضرارا جسيمة على الساحة الدولية والقانونية. من دون الاعتراف بذلك علنا، بدأ الجانب الإسرائيلي بالبحث عن سبيل لاستئناف ضخ المياه إلى قطاع غزة.
على الجانب الإسرائيلي، كان لا يزال من الممكن التعامل مع الأمر: تم إرسال عمال شركة مكوروت لإصلاح خط الأنابيب في الجانب الجنوبي تحت حراسة مشددة. وفي مقطع فيديو الذي صوره أحدهم، يمكن سماع أصوات إطلاق نار بالقرب من موقع أعمال الإصلاح. بالمناسبة، يزعم المسؤولون في إسرائيل أن عمليات الإصلاح تمت في المقام الأول للسماح بضخ المياه إلى قوات الجيش الإسرائيلي التي دخلت القطاع. على الطريق، سمح ذلك بإعادة ضخ المياه للفلسطينيين.
تم الانتهاء من أعمال الإصلاح في الجانب الإسرائيلي من السياج، «لكن إذا انكسر الأنبوب في الجانب الآخر، فإن المياه ستتسرب إلى الرمال»، كما يقول مسؤول في قطاع المياه. وتبين أن خط الأنابيب على الجانب الفلسطيني في حالة سيئة للغاية، ومن أجل استخدامه، كان من الضروري الدخول في مهمة إصلاح واسعة النطاق.
وهذا بالطبع لا يمكن أن تقوم به شركة مكوروت، التي تعمل حصريا داخل إسرائيل. ولهذا كانت هناك حاجة إلى الفلسطينيين لإصلاحه. إلى هذه المعمعة تم تجنيد مسؤولين كبار سابقين وآخرين تم تجنيدهم في خدمة الاحتياط للمساعدة.
بعد أيام قليلة من بدء الحرب، تلقى غيورا شاحم، الرئيس السابق لسلطة المياه، طلبا من ضابط احتياط كبير في وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق. كان لشاحم خلال السنوات التي شغل فيها المنصب علاقات واسعة مع المسؤولين في سلطة المياه الفلسطينية ومقرها رام الله كجزء من لجنة المياه المشتركة التي تعمل منذ اتفاقية أوسلو.
وقال شاحم: «كان واضحا بالنسبة لي أنه يجب استئناف ضخ المياه من أجل السماح بحرية العمل العسكري وبمساحة مناورة دولية لإسرائيل. ففي نهاية المطاف، لا يمكنك ترك ملايين الأشخاص بلا ماء. كان النظام يبحث عن حل لكيفية إصلاح خط الأنابيب على الجانب الفلسطيني وعن أطراف على الجانب الآخر يكون بالإمكان إدارة هذه المسألة معهم».
نظام المياه في قطاع غزة، مثل كل شيء هناك، هو كيان متعدد الجوانب. «إن من يدير نظام المياه على المستوى الوطني هي سلطة المياه، ومقرها رام الله، وهي تتلقى رواتبها من السلطة الفلسطينية»، كما يقول شاحم.
«بعد دخول المياه إلى القطاع، يتم توزيعها على السلطات المحلية مثل غزة وبيت لاهيا وغيرها، وهي بالفعل سلطات حماس. حماس تبيع المياه للسكان بسعر باهظ وتأخذ حصتها».
ومن أجل إصلاح خط الأنابيب، كان من الضروري تحديد الأطراف داخل القطاع التي يمكنها إرسال العمال. يتذكر شاحم: «تحدثت مع مهندس يعيش في جباليا، وهو رجل لطيف من المفضل عدم نشر اسمه. سألته عن سبب عدم توجهه جنوبا، فقال إنه بقي هناك لأنه ليس لديه مكان يذهب إليه. تحدثنا عدة مرات خلال الحرب.
«في وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، تم بذلك جهود كبيرة للتنسيق، وفي نهاية المطاف تم إرسال عمال فلسطينيين إلى الأماكن التي تضرر فيها خط الأنابيب بالقرب من السياج وتم إصلاحه تحت حراسة مشددة من قبل جيش الدفاع».image0.jpegimage1.jpeg