د. نجمة خليل حبيب

بأسلوب شيّق، سهل التناول، يوثّق شوقي مسلماني سيرة القرية اللبنانيّة، ومن ورائها سيرة كلّ قرية عربيّة. وفي كلّ لوحة من لوحات الكتاب هناك كشْفٌ عن ميزة من مزايا شعبنا العربي الطيّب. نصوص تكشف عن الذات القرويّة، وما تتميّز به من روح سمحة ودعابة وصلابة وإرادة في مواجهة شظف العيش. نصوص ممتعة ومفيدة في حفظ ذاكرة القرية للأجيال القادمة». وفي ما يلي نصوص من «كونين ـ لطائف وطرائف»:

(كلبة حسن طعّان)
أراد المرحوم حسن علي «أبو ابراهيم» أن يزرع مشاتل تبغ، وكان يُسهسل (يسهّل) الحاكورة (قطعة أرض مجاورة للبيت) جيّداً بواسطة مشط حديد، وفي اليوم التالي يجد المشاتلَ «مدعوسة». وحيث تكرّر الأمر غضبَ رحمه الله وصمّم أنّ يعرف من هو المعتدي الآثم، وأخيراً عرفه. ولعلعَ (ارتفع زاعقاً) صوتُه، فسمعَه جارُه المرحوم سليمان جنيدي فقال: «شو باك يا بُو بْراهيم طالعْ صوتك، إنت ومين علقان»؟، فقال: «كلبة حسن طعّان، كلّ يوم بْتجي وبتجبلي معها شلعة (مجموعة) كلاب، ما بتحلالها إلاّ بالمشاتل»!.

(شخير «ورِّ» البقر)
قال عبد طعمة «أبو عبّاس» إنّه أيامَ الشباب اتّفق مع «بنت» أن يلتقيا في حاكورة (قطعة أرض) هي للشيخ عبد، وكانت مزروعة قمحاً أستراليّاً طويلاً، بحيث يختفي بداخله الجمل، كما يُقال تعبيراً عن حال، ومقابل أن «يستمسك» بها وعدها بعلبة «راحة» ـ حلويات ـ وذلك بعد أن يؤذّن الشيخ علي آذان المغرب. وتحمّم عبد طعمة وحلق لحيته وذهب الى الحاكورة وجلس وطال إنتظاره، «وْصارْ يغفلْ وِيفِيقْ»، وتكرّر ذلك، وأصبحت الدنيا ظلاماً شديداً، وفي هذه الأثناء خرجت زوجةُ أحد الجيران من آل رشيد وجاءت إلى الحاكورة كي تبول، على عادة أهلنا قبل اكتشاف المراحيض، وأنتَ تعلم أنّ «الحرمه» عندما تريد أن تبول فـ «السايب» له «شخير» مثل «ورِّ» البقر، فسمع عبد طعمة هذه «النغمات» فظنّها لحبيبته، همس وقال: «أنا قاعد هون ليش قعدتي عندك»؟!. فهربتْ خوفاً وهي تبول. وفي الصباح سرتْ «دعاية» أن حاكورة الشيخ عبد فيها: جِنّ!.

(حرام عليك!)
وفي الأربعينيّات من القرن العشرين كان مختار كونين هو الشيخ عبد الحسن حمّود والد المرحومين: موسى وجواد، والمشيخة له اعتباريّة وذلك لِسِعة عقله واتّساع صدره، وكان «صاحب بيت» وكريم النفس جدّاً. وكان له صديق بيروتي متموّل من آل الكردي يرتدي «قمبازاً» ـ ثوباً طويلاً و»طربوشاً» أحمر اللون، استضافه الشيخ أكثر من مرّة، فأحبّ كونين وأحبّ أهلها، واشترى فيها «كذا» قطعة أرض. ومرّة جاء إلى كونين مصطحباً زوجته البيروتيّة، وعند المغادرة عائداً إلى بيروت بالبوسطة ـ الحافلة الكبيرة ـ وقفتْ له خديجة الحاج حسين طالب ومعها طفلها يبكي وصرخت في «مقلب» من مقالبها الغريبة: «لوين رايح؟، لمين تارك إبنك؟، حرام عليك»!. وأُصيبت الزوجة البيروتيّة بالذعر، وأقسم زوجُها الكريم أنّه متّهم مظلوم، وبالطبع من دون جدوى. وأخيراً باع الأراضي التي سبق واشتراها وانقطع عن كونين، و»هيداكْ يوم وْهيدا بَدَاله».

(شمس العروس)
تزوّجتْ حمدة خنافر «أمّ محمّد» التي هي أصلاً من بلدة عيناثا المجاورة لبلدتي كونين وذلك في سنة 1955 من عمّي كامل علي محمّد أسعد أمين مسلماني، و»زفّوها» على فرس، وكانت العادة أن يمسك ناطور البلدة رسن فرسَ العروس، وكانوا يعطونه بدل عمله هذا «تيّاراً» هو «إشارب» ثمين، وهو ذاته الذي كان يُلفّ به عنق الفرَس ذاتها. وهناك «حوربة» ـ أغنية ـ أنشدها في الزفّة حسين عبدالله «أبو فوزي» نادرة: «يا شمس دَلّي حبالِك \ وتأمّلي بحالِك \ بالجوّ ما عاد لِك سكونْ \ طلعتْ عروس قبالك».

(كاديلك سوداء)
حسين عبدالله «أبو فوزي» كان من أوائل الذين اقتنوا سيّارةً في كونين ـ خمسينات القرن العشرين وهي من نوع «كاديلك» سوداء «مِنْ هَل طوالْ، موتورها خربان، بْتمشي ع الدفش ـ الدفع، أشكمانها مخزوق، وبْتهدر». ولم يعدم من يغنّي له في ذلك العصر والأوان: «بُو فوزي جايب سيّاره \ بْتهدر متل الطيّاره \ بالطلعه شِدّوا يا ولاد \ وبالنّزله حطّوا حجاره».

(ذات الكحل)
مرّة ذهب محمّد شاهر مسلماني إلى المرحوم عبد الكريم محمّد مسلماني «أبو علي»، وهو شقيق جدّه، وكان مهجّراً من كونين، ويقطن في محلّة خندق الغميق ـ بيروت، إثر احتلال إسرائيل «للشريط» الحدودي اللبناني سنة 1978 وإثر تهجير جميع كونين، في ما بعد، تقريباً. وكان بين الإثنين، على رغم فارق السنّ الكبير جدّاً، مودّة ظاهرة وملاطفة ومزاح كأنّهما متجايلين، ولم يمكث محمّد قليلاً في منزل أبي علي زائراً حتى استأذن على غير عادة أنّه يريد الذهاب إلى «أبي إسحق»، سأله عن أبي إسحاق هذا، قال: «زلمي» ـ رجل «عنده صبايا للإيجار»!. ابتسم المرحوم، طيّب الله ثراه، بعدما فطن إلى مداعبات حفيد أخيه وقال: «والله ذكّرتني». وروى إنّ «محسن ذيب»، وذلك في الخمسينات من القرن الفائت، كان صديق أبيه المرحوم محمّد، المعروف كثيراً بشجاعته وقوّة عصاه، وفي مرحلة من زمان هذه الصداقة كان محسن ذيب، وقد كان نحيلاً وقصير القامة، قد استأذن، وهما معاً، أنّه سيفارق إلى عمل ضروري، حتى إذا سأله عنه قال «متشاوفاً» إنّه يعرف «واحدة» ولا أجمل، عيناها «مْكحّلينْ تكحيلْ»، أي هي من الحور العين، وإنّهما يلتقيان في «العريض» ـ غابة الضيعة. ويوماً قرّر المرحوم محمّد أن يعلم من تكون هذه «الواحدة» التي «يحرقصه» محسن ـ يثير غيرته ـ بها؟، وتبعه خلسة حتى رآه أخيراً عند صخرة في طرف العريض ـ غابة الضيعة ـ «وْنازلْ سَفِقْ ـ يفعل ـ بِحمارَهْ».

(مخاطباً الله)
هناك رواية عن الحاج مصطفى فوعاني تقول إنّه كان قد زرع قطعة أرض قمحاً، ونضج القمح ولم يبلغ طوله شبراً، وبعد البيدر والمورج جعل القمح الصافي في «خيشة» صغيرة ربطها وجعلها على حمارته إلى البركة الكبيرة التي من زمان ما قبل الرومان من أجل الغسل والصوصلة، وكان الحاج مصطفى طيّب القلب إنّما عصبي، وكانت أيّام فقر، وعندما اقترب من البركة خطر له أن يرفع يديه نحو السماء وهو يقول: «يا ربّ حلّها وافرجها علينا»!. وكانت الحمارة قد وضعت قائمتيها الأماميتين في الماء كالعادة ولكن هذه المرّة لم يعجبها أن تشرب من أوّل البركة بل خاضت في الماء أمتاراً، وزيادة في الطين بلّة كأنّ أحداً حلّ ربطة الخيشة وهرَّ القمح في الماء. وانصدم الحاج مصطفى، ورفع يديه بعصبيّة نحو السماء مخاطباً الله وقال: «قلتلّك حلّها وافرجها ما قلتلّك حلّ الخيشهْ»!.