أمان السيد– أديبة وكاتبة
سيدني – أستراليا
لقد بات مصطلح التنوير ومن يشتغلون عليه، أو ينتمون إليه إدراكا ووعيا موضع تساؤل وشك، واتهام من جهات معينة. وكأني بها تحرص على أن يظل «ما وجدنا عليه آباءنا» حاضرا وفاعلا ومحركا، ومثبطا للعقل، أو لأية محاولة لإيقاظه، أو حتى دغدغته!
ولكن للحياة دورتها، وللزمن ساعته، فإثر اكتظاظ الساحات بالمعوّقات الفكرية، والتدمير الإنساني بحجة الدفاع عن الدين، أو تطبيق شريعة الله، كان لا بد من أن ينهض بعض العاقلين، والحكماء، وينهض المثقفون لمن فضل السيف والقذف سلاحا للتحاور، يعظم عندهم ليصبح تحليل الدم بالقتل أمرا مباحا، حيث جعل الاجتهاد حكرا على فئة وأسماء لمّعت لغاية، أو أخرى عبر تسلسل لا يقبل خدشا، أو استبدالا، وكأني بالعقول التي خصنا بها الله حجة للوصول المتيقن ممنوع عليها أن تتأمل، أو أن تفكر، تتلقى فقط.. رغم أن القرآن الكريم ثري بالخطاب الإلهي الذي يحض على التدبر والتأمل، والتفكر.
وفي غمار هذا وذاك، كان لا بد أن يظهر الأستاذ ماجد الغرباوي، وأمثاله من الغيورين على الدين، وعلى الطائفة المسلمة ليعيدوا غربلة ما طفا فوق السطح، وتقويم ما اعوجّ بما أوتي من الثقافة، والدأب والعمل، وأن يجتهد لإعادة الأمور إلى رصانتها المنشودة، فيشعر من أوتي جانبا من الحكمة بالاطمئنان إلى ما يتلقاه منه مادة، وشروحا.
ومن الجوانب التي آثر الأستاذ ماجد الغرباوي أن يوليه موضعا كبيرا، وقيّما في قراءاته المستجدة للتراث ولما نسب إلى الشريعة على لسان المتقولين، هي المرأة… المرأة التي شغلت للأسف مساحة وارفة من فكر أصحاب الرأي والاجتهاد، والشيوخ ذوي الاستنساخات المشوهة حتى ليوشك أن ينسب انهيار المجتمعات الإنسانية إليها، وتفوق التفكير في شأنها على ما عداه مما تحتاجه المجتمعات الإسلامية من الدعامات والأسس التي تقيم أودها وتصلح شأنها، ولا ضير إن اعترفنا ببساطة وصراحة أننا أمة مأسوف عليها فيما وصلت إليه من التردي، والتخلف والانقسام الطائفي، والانحطاط الفكري، إلا من رحم ربي وتنبّه إلى المستنقع الذي طال قدميه، فانتشل ذاته منه، ونتجت إثر ذلك حركات فردية ما تزال تنشر فكرها وتساهم في إضاءة العقول والنفوس على استحياء، ومن تجرأ بإعلاء صوته منها، يرى الكثير من الألسنة تمتد لتعمل فيه إساءة، وتكفيرا، ولن نهمل أن هناك من آثر الانفراد بما قد استنار به لنفسه بعيدا عن حروب من حملوا لواء التكفير والشجب، ليحشرونا في خاناتهم التي هي ليست إلا إثراء لسطوتهم، وجشعهم، وانحرافهم الضليل!
في اطلاع لي على كتاب «الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي» الفكري التنويري الإصلاحي إن صح التعبير، تلمست رؤيته للمرأة ودفاعه عنها ضمن تسلسل تاريخي نابها فيه ما نابها من الاضطهاد والإسفاف، والالتفاف حول الشريعة ومعطياتها في ما يخص المرأة.
أقتبس هنا بعض ما ورد في الكتاب ضمن محاورة جديرة بالاهتمام والتقدير:
مقارنته وضع الرجل المركزي بشكل عام في كل زمن، قابله تهميش للمرأة ضمن قيم تنتمي إلى العبودية، ولم تغادر تلك الرؤية في العصر القبلي، ولا حتى في العصر الإسلامي، وقد تسربت تلك القيم رغم ما طرأ على المرأة بعد نزل الوحي من تطور على مستوى الحقوق والواجبات: (إن مركزية الرجل وهامشية المرأة، تنتمي لقيم العبودية، ولم تغادر المجتمع في العصر القَبلي، بل وحتى في العصر الإسلامي، تسربت تلك القيم، رغم ما طرأ على المرأة بعد نزول الوحي من تطور على مستوى الحقوق والواجبات).
إن الشاهد على تكريس دونية المرأة نصوص / روايات تنسب إلى عصر الخلفاء. وبعضها يروى عن النبي نفسه، وبعضها سلوك شخصي أو اجتماعي متعارف عليه «ناقصات العقول، كن من خيرهن على حذر، شاوروهن وخالفوهن» وغير ذلك من النصوص التي تمثل فجيعة العقل التراثي، وغربة المرأة داخله.يقول:(والشاهد أن أغلب النصوص التي تكرّس دونية المرأة تنتسب لعصر الخلفاء، بعضها يروى عن النبي وبعضها سلوك شخصي أو اجتماعي متعارف «ناقصات العقول، كن من خيرهن على حذر، شاوروهن وخالفوهن» وغير ذلك من النصوص التي تمثل فجيعة العقل التراثي، وغربة المرأة في داخله).
إنه من المأسوف عليه حقا أن تتداول مجتمعاتنا تلك النظرة التي لا بد أن لها أسبابها لو قورنت بالعصر الذي سيقت فيه، والتي لا بد أنها ارتبطت -إن صدق نقلها وتوارثها- برؤية ومصالح فرضها بعضهم في زمن معين لغايات والتماسات معينة، ولكن ماذا في العقول الذكرية والتي بعضها قد يفترض به ارتقاء سلالم الوعي والثقافة، والمكانة الاجتماعية، وهم ما يزالون يرونها الرؤية الصادقة ويربطونها بالشريعة، ومبادئها؟!
ويأتي الرد من الأستاذ الغرباوي معقبا ومحاججا بأن القرآن الكريم لم ينص على دونية المرأة، ولم يتحدث عن ثنائية النوع الإنساني إلا من خلال الجانب الوظيفي، وأن في النصوص القرآنية إشارات وقرائن يهملها المفسر/ الفقيه كما في الآية الكريمة « الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم» والتي ما تزال تثير إشكاليات كثيرة، ورفضا واحتجاجا إيجابيا وسلبيا من جهة المرأة والرجل، إذ أن المفسر/ الفقيه يتكئ على بداية الآية، ويهمل الشروط التي قامت عليها.
ثم إن الغرباوي يسبر أكثر من آية كريمة فيها الإيحاء غير المباشر على المساواة بين الذكر والأنثى ويطيل الشروح المقرونة بالدلائل على معانيها، وعلى أن انتراع بعض المعاني وشرحها بعيدا عن السياق والإيحاء يعتبر جورا وظلما، ويخلص الأستاذ الغرباوي إلى أن مرجعيات الحركات الإسلامية سواء التراث، أو النص الديني هي وراء منطق تكريس دونية المرأة ومعاداة النسوية الداعية إلى تحرير وعي المرأة، واستعادة حيثيتها الإنسانية كي تواصل حياتها مستقلة بعيدا عن عقد المظلومية والانكسار.
سنتحتاج وقتا طويلا، وأكثر من ثورة إنسانية فكرية لنتقبل الجديد، فكما قيل كل نبي غريب في أرضه، فإن إكرام متنور، أو مصلح اجتماعي لن يكون سريعا، إكرامه الذي أقصده، وعي ما قدمه ويقدمه لنا من فكر، وإدراك ما تحمله ثناياه جيدا من التحريض على إيقاظ العقل، وتحليل المعطيات لنتخلص من سلطة مفسر/ فقيه جعل من نفسه سيد العقلاء حين دفعته ذكورته التي ينتمي إليها إلى أن الرجل سيد المجتمع، وأنه الأفضل، والمتفضل، وهذا يقتضي أن تكون المرأة جزءا من متاعه خاضعا لإرادته يسوقه بعصاه كما يسوق أغنامه، فمن ذاك الذي يقبل بفقه فقيه يشرع وينسب إلى الإسلام ما لا يقبله عقل أو منطق، كتفخيذ الرضيعة، أو إرضاع الكبير لجواز الاختلاط مثلا» كما يذكر الأستاذ الغرباوي؟!”
قد ينبري أحدهم متهما أن الأستاذ الغرباوي ينبش في ذيول السلوكيات، ويحتج بها مما ذكرته أعلاه، لكن من يستطيع أن يغمض عينيه عن ممارسات القمع التي ما يزال يغص بها زمننا وحاضرنا من قهر للمرأة، وتعنيفها في أغلب بلداننا العربية، وهل السوشيال ميديا إلا السافر المسفر الذي لا نستطيع صده، وهويعرض علينا في كل حين مشاهد قتل وسحل للمرأة بمختلف الطرق، حين ترفض الزواج من أحدهم، فينحرها، وحين تغتصب طفلة من أقرب المقربين إليها، وتسكت أمها على الأمر خوفا من ذوي الشأن من الذكور في أسرتها، وضحايا الحروب والمعتقلات، والأطفال الذين ولدوا في السجون ثمار اغتصاب…. ماذا بشأنهم؟!
هو غيض من فيض فلسفه مشروع الأستاذ الغرباوي مشكورا في معرض لكشف الأستار، وإضاءة الأنوار حول وضع المرأة التي هي رحمنا الأول.. الأم قبل أن تكون الحبيبة، أو الزوجة وتتسلسل إلى ابنة وحفيدة، وسيدة مجتمع وكيانا قائما بذاته..