كلا الشاعرين يعيشان غربة المكان بعيداً عن مدينتهما بيروت في عالمهما الثالث.. عالم الحروب والخيبات والانكسارات
صدر الكتاب الشعري «مدينتان» عن منشورات المتوسط عام 2023 بعدد صفحات 72 وهو من الكتب الشعرية القصيرة. وهي المرة الأولى التي تجمع الشاعرين بعمل مشترك. جاءت التجربة الفريدة كمغامرة لكنها كانت ناجحة وهي تشبه المطارحات في الشعر العربي القديم. نص شعري يليه نص سردي كُتب بشعرية عالية حتى امتزج كل منهما بنص شعري فائق الجمال.
وكلنا نعرف أن الروائيينِ عبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا قد سبق أن خاضا هذه التجربة حين كتبا رواية واحدة كل من منظوره حول فكرة واحدة «عالم بلا خرائط»، في تجربة سردية، وهما عملاقان في السرد الروائي العربي، وكانت تجربة أولى لم تتكرر بعدها، كون الفعل الإبداعي فردياً تماماً، ولا نعرف سر الغواية وقتها في إنتاج نص مشترك، فكيف اتفقا وكتبا رواية واحدة، هل تورطا فيها أم كانا راضيينِ عنها.
ترجمة المشاعر
الجانب المهم في الشعر هو قدرته على ترجمة المشاعر الصعبة والمركبة بلغة بسيطة ومن دون زيادة، وهذا ما سنجده في تجربة مغايرة شعرية، لكاتبين لبنانيين مغتربين، يعيشان في مدينتين متباعدتين، الأول الشاعر بلال خبيز يعيش في لوس انجلوس والآخر الشاعر على شمس الدين ويعيش في لندن. يكرران تجربة إبداعية جديدة بالاشتراك في انتاج كتاب شعر بعنوان «مدينتان» صدر عن منشورات المتوسط وجاء في 72 صفحة، يمزج بين الشعر والسرد، مع انه مجنس «كتاب شعري»، ومن يطلع على النصين المتصلين بعنوان واحد فسيجدهما شعريين، كأنهما يتطارحان الشعر، يولد الثاني من الأول، بل يرسم الثاني صورة للأول، لا تختلف عنه، كانا يتناغمان بينهما، كأنهما عصفوران في مكانين مختلفين ومتباعدين، يناغم أحدهما الآخر في الغناء، ما يقوله الأول يحاكيه الثاني، وكان غناؤهما نشيداً حزيناً واحداً لا نشاز فيه، عن حياة كل منهما وهو يواجه غربته ووحدته.
نص يحاكي نصاً آخر، في البدء النص الشعري، ثم يليه النص السردي، الأول جاء على شكل صورة والثاني كأنما يأتي شارحاً له، النص الأول متن الكتاب والثاني متن آخر، لا هامش للنص ولا ذيل له، وفي تجربة «مدينتان» نجد أن النص السردي جاء ليشرح النص الشعري.
الشعري والسردي
العنوان جاء هكذا «مدينتان» وهذا يدفعنا للتساؤل، المدينتان من هما؟. هل سنعرف من خلال المتنَينِ الشعري والسردي، وسنعثر على اسم مدينة واحدة (لندن) التي جاءت ضمن القصائد، ونكتشف المدينة الثانية لوس انجلوس من خلال المتن السردي والتي هي احدى الولايات الامريكية، المدينة التي يسكنها كاتب النص السردي، فلكل مدينة عالمها واجواؤها وطبيعة الناس والحياة فيها، فاختارا هذا العنوان، أي كل ما جاء في المتن من شعر وسرد، خرج من تجربة كاتبين بكل ما فيها من حياة باردة اثر الوحدة والغربة في مدينتين لم يستطيعا أن يكونا فيها، نص يبتدئ ثم يأتي نص آخر يجيب عنه، يكشف عن اسراره، يعمق معناه، يضيئه أكثر، تضامن النصان وتوافقا شعورياً لإنتاج معنى واحد.
لو تتبعنا قصيدة «الصباح» فسنجد أن النص الشعري يبدأ بـ «كم أحتاج إلى الصباح»، وفي النص السردي، يبدأ «والحق أني أنتظر الصباحات».. هناك محاكاة او مطارحة سردية شعرية له.
نجد علي شمس الدين في القصيدة يتعامل مع الصباح بشكل ذاتي، داخلي، هو يحتاج إلى الصباح، يستفيق فيه لنفسه، ويقصد ذات الشاعر، الصباحات التي تتشابه مثل أسرّة مهجورة، باردة وموحشة، وكل صباح يكرر اللقاءات التي ترسم على وجهه البلاهة.
في النص السردي لبلال خبيز، يتعامل مع الصباح من الخارج، ينتظر الصباحات، لا لشيء، او فعل شيء، ليس ثمة شيء يفعله.
غربة المكان
كلا الشاعرين يعيشان غربة المكان، بعيداً عن مدينتهما بيروت، في عالمهما الثالث، عالم الحروب والخيبات والانكسارات، عالم متوحش، لكنهما على الرغم من كل الآلام فيه، يحنان إليه، ولكن نصيَّهما لم يأتيا ضمن نصوص النوستالجيا، ولا العودة الى ماضيهما، بل هي نصوص حاكت ورسمت الواقع الذي يعيشانه، في مدينتين مختلفتين بالثقافة والعلاقات، مغتربان يعيشان عذاب الوحدة والغربة والتعب، وهم ينقلان عوالم كل منهما بشكل يختلف عن الآخر، لكنهما يشتركان بمضمون واحد، قد يتوافقان او يختلفان، في ثمانية وعشرين نصاً شعرياً يتبعه سردياً.
يفهم قارئ النص من خلال النصين أي المدينتين هما. نجد في قصيدة «حقوق نشر» الشاعر يحكي عن موت «آيمي واينهاوس» المغنية الإنكليزية التي ماتت بعد إدمانها للكحول نتيجة علاقة حب مع الرجل الخطأ، بينما في النص السردي يحدثنا عن الممثلة (انجيلينا جولي)، إذ يقول: «حين تحزن تغلب الموت»، «وكيف لامرأة بهذا الجمال أن تجعلك تتمنى الفاجعة لكي تلمح نظرة التعاطف في عينيها، وتؤمن أنها تراك».
في النص الشعري قصيدة «لندن»، يصف المدينة كيف أنها تفتح ذراعيها للوافدين، تعفيهم من المذابح، وهي تحيل إلى العنوان، هنا يفارق بين مدينته التي جاء منها مهاجرا والمدينة التي يسكنها وافداً، كيف تمنحهم فرص العمل، تقدمهم للقانون أبرياء، يلتقطون الصور مع الشرطة، لا بكاء أمام الكاميرات لا أشلاء، حياة مستقرة وهانئة، بينما نجد في النص السردي، يمضي أيامه في شقته على الكنبة يأكل ويدخن وينام كقتيل، ويظن أنّ هناك حياة حارة خارج شقته، لكنه لا يشعر بهذه الحياة، حتى النادلة في المقهى، طوال شهور لم تنظر الى وجهه، لكنها في الأخير، قالت له: «تبدو متعباً».. وشعر أنه منظور للمرة الأولى وأن هناك من يحس به ويشعر بآدمية، «حسناً فلأذهب وأبتاع قميصاً جديداً».
التكثيف في الشعر
الكتاب كما نرى يجمع بين طياته 28 قصيدة ونصا سرديا، بعناوين فرعية، بين التكثيف في الشعر، والإسهاب بالسرد، لطبيعة كل منهما في الشكل الفني.
قد يصل التكثيف في القصيدة الواحدة بيتاً واحداً، كما ورد في قصيدة بعنوان «هوية»
إذ يقول: «التعب في هذه المدينة هو مفتاح الكلام».
ولكن في النص السردي، يشرح لنا شكل التعب وطبيعته وثقله اليومي على الذات الساردة.
إنَّ وظيفة الفن لا تكمن كما يفترض غالبا في ترجمة الأفكار، بقدر تحقيق التجربة الجمالية، وما يلفت في كلا النصين هنالك اقتباسات جميلة جداً، لا يمكن المرور عليها من دون التوقف، واللافت أيضا أنّ النص السردي كتب بشعرية عالية قريبة جداً، فمن يقرأ الكتاب لا يفرق بين النصين، فهو يستمتع بموسيقى الشعر التي جاءت بها الجمل جميعها، جمل شعرية كتبت ببساطة لأفكار معقدة، لغة سهلة ولا تحمل غرابة في التفسير، هي يوميات حياتية في مدينتين، استطاعا أن يترجما لنا تلك المشاعر في الغربة من خلال نصوص غاية في الجمال. وصرنا نشعر معهما كما لو كنا معهم.
نص العالم السفلي
يرسم لنا الشاعر علي شمس الدين صورة عن المدينة التي يعيش فيها، كأنها في عالم سفلي، إذ يصف الوجوه بأنّ لها ايقاعها الخاص في المدينة التي يعيش فيها وهي لندن فهي تحيي من تراه وتدلف مسرعة الى القبور. بينما في النص السردي الذي يسرده لنا بلال خبيز طبيعة هذا العالم «لم نمت، بدليل أننا نراقب كأشباح أناساً لا نعرفهم، وهم يمضون أيضاً كأشباح إلى عزلاتهم، عزلاتهم صامتة باردة، لكنها أدفأ من قلوبنا، لكننا متنا، لأن هذه العزلة التي نقيم فيها لا تشبه شيئاً سوى القبور».
ثبت لي أنَّ هذه التجربة الشعرية لا تشكل عبئاً على القارئ بقدر ما هي تضيف صورة إضافية أكثر عمقاً مما لو كانت صورة شعرية واحدة، وقد يلاحظ أنّ النصوص جاءت ضمن كتاب واحد بعناوين لكل نص، ولكن المتن تنوَّع بين شكل القصيدة الشعرية وشكل النص السردي الذي امتزج بشعريته وبموسيقاه مع النص الشعري فصار عميقاً ومكتملاً وطويلاً.