بمناسبة اليوم العالمي للسرطان فيسبوك تويتر لينكدإن
في يونيو (حزيران) من سنة 1968، التحقت بمؤسسة
«Memorial Sloan Kettering Cancer Center»
في نيويورك للتخصص في معالجة
الأمراض السرطانية. ومن يومها إلى يومنا هذا، كان لي شرفُ معالجةِ المرضى المصابين بهذه الأمراض كل يوم. 56 سنة من الحياة، كرستها لإعطاء الحياة.
ولقد اختارت الجمعية الأميركية للأبحاث السرطانية السريرية
[American Society of Clinical Oncology (ASCO)]
أن تلقي الضوء على مسيرتي العلمية في نشرتها
«ASCO POST»
الصادرة يوم انعقاد مؤتمرها السنوي لهذا العام تحت عنوان «من قرية صغيرة في لبنان إلى العالمية في طب السرطان». ولكنني لم أجئ اليوم لأكتب عن هذه المسيرة، بل جئت، وبمناسبة اليوم العالمي للسرطان، لأتكلم عن ماذا تعلمت من هذه المسيرة. وهذا بعض مما تعلمته:
أولاً: أن الصحة، وليس المال، أو الشهرة، أو النفوذ، أو المعرفة، هي أهم ما يمتلكه الإنسان. وكنت منذ زمن قد رفعت الشعار الذي يقول: «إن كنت تمتلك الصحة، فلا يحق لك التذمر». إن الصحة هي المدخل إلى الحياة. دونها لا تكون الحياة.
ولذلك لا نزال نناضل من أجل تعديل جذري في وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. فنحن نؤمن، وبكل قوة، أن أهم حق للإنسان هو الحق في الحياة. إنما لا يمكنك الحصول على هذا الحق من دون الحصول على الحق في الصحة. وقد يكون أكبر عار على أمة، هو موت إنسان فقير لم تمنحه بلاده حقه في الصحة. وبرأينا أن جميع الحقوق المنصوص عنها في وثيقة حقوق الإنسان، تذبل وتتلاشى أمام هيبة الحق في الحياة. ويؤسفنا أن نقول إن هذه الوثيقة لم يجرِ تعديلها أو تحديثها منذ يوم مولدها في سنة 1948. ونحن قد تعلمنا من العلم أن أي وثيقة لا تخضع للتحديث والتقييم والتطوير مع مرور الزمن تتجمد في التاريخ، وتفقد صلتها مع الحاضر. وأكثر ما يثير استغرابي كيف تعد دول الغرب حقوق الإنسان قبل الولادة مقدسة، ولكن حقوق هذا الإنسان بعد الولادة ليست كذلك؟ وهل نجرؤ أن نقول إن الدول التي تدّعي رعاية حقوق الإنسان، هي الدول ذاتها التي تدوس هذه الحقوق كل يوم؟
ثانياً: الوقاية أهم سلاح لدينا ضد المرض. عندما درست الطب في أوائل الستينات، لم تلاحظ آنذاك المناهج التعليمية، أهمية كبرى للوقاية من المرض. وللأسف لم تتطور هذه المناهج كثيراً في هذا المضمار؛ فلا يزال تعليم الطب يركز على علاج المرض لا على الوقاية منه. هذا، وبعد خبرتي الطويلة، يشكل خطأً جسيماً ويجب تصحيحه. كيف لا ونحن نعلم أن 75 بالمائة من الأمراض السرطانية هي أمراض قابلة للوقاية منها. فخذ مثلاً سرطان الرئة، وهو السرطان الأكثر شيوعاً في العالم؛ فالقضاء على آفة التدخين تمنع 85 بالمائة من الإصابات به. وإن تلقيح النساء بين عمر 10 سنوات و30 سنة بلقاح
«Human Papilloma Virus»
يمنع الإصابة بسرطان عنق الرحم بنسبة 90 بالمائة. وهل تعلم أن الالتهابات الجرثومية التقليدية تسبب أكثر من 25 بالمائة من مجمل الإصابات بالسرطان؟ وأن معالجة هذه الالتهابات بواسطة المضادات الحيوية أو التلقيح ضدها تحول دون الإصابة بالسرطان؟ لذا على دول العالم صنع سياسات صحية توفر الوقاية لا من السرطان فقط، بل أيضاً من الأمراض الأخرى.
ثالثاً: المعرفة وحدها لا تكفي. عندما أكملت 50 سنة في معالجة الأمراض السرطانية، نشرت كتاباً بعنوان: «كيف تقهر السرطان. إن المعرفة وحدها لا تكفي». ولذا لا يمكنك شفاء المريض بمعالجة المرض وحده. فهناك إنسان وراء المرض. والتحدي الكبير هو ليس فقط أن ترى هذا الإنسان، بل أن تعالجه. هذا الإنسان يحتاج إلى ما هو أهم وأعلى من المعرفة. يحتاج إلى المحبة والحنان والكرامة والأمل. يجب أن تعانقه حتى يشعر بأن الإنسانية جمعاء تحبه. كما يجب أن ترى أيضاً من يقف وراء المريض. هؤلاء الذين يحبونه. هؤلاء تجب معانقتهم أيضاً، وتثقيفهم لكي يصبحوا قوة داعمة له، لا قوة تدفعه إلى اليأس والإحباط.
رابعاً. الشجاعة والمثابرة القصوى. ولربما يكون أهم ما تعلمت، هو أهمية الشجاعة والإقدام، وأهمية المثابرة القصوى والعنيدة. المثابرة التي لا حدود تقف عندها. هذه ليست أمثولة في معالجة المريض فقط، بل هي أيضاً درس في فن النجاح في الحياة؛ فالمرء لا يعرف قدرته الحقيقية للإنجاز، إن لم يعمل ما هو فوق استطاعته؛ فالنجاح يختبئ وراء الفشل، ومن يخاف الفشل، لا يمكنه صنع النجاح. وقد يصدمك عدد المرضى الذين يموتون كل يوم.
لا لأن وقتهم قد حان، بل لأن الطبيب المعالج أو المريض الذي يخضع للعلاج، فقد الشجاعة للإقدام، كما فقد القدرة على المثابرة لتلقي العلاج. وهنا لا يمكنني أن أنسى المريض الذي فشلت عنده 8 محاولات للعلاج، ولكنه أصّر على التاسعة. وهذه التاسعة أخذته إلى الشفاء التام. إلى الحياة من الجديد. وقد تقول لي هذا مريض واحد، وأنا أقول لك نعم، إنه مريض واحد، ولكنه بنفس الوقت هو العالم كله. العالم كله لي، وله، ولجميع الذين يحبونه.
خامساً: الحواجز التي تمنع الوصول إلى الشفاء. ويسألونك. كل هذه الأبحاث العلمية، وكل هذه المعرفة التي تراكمت من جراء هذه الأبحاث. فلماذا لا نعالج معظم المرضى المصابين بالأمراض السرطانية؟ والجواب أن هناك حواجز كبيرة لاستعمال المعرفة ووضعها في خدمة المريض. فهناك توافر الدواء، وجودة هذا الدواء، إذ إن هناك مافيات عالمية اليوم تقوم بتصنيع الدواء المزيف وتسويقه. وهناك أيضاً تكلفة العلاج الخيالية، وعدم توافر البرامج العلمية التي تُعنى بالمعالجة الحديثة لهذه الأمراض. كما أن هناك اعتداءً تاريخياً على الطب من قبل أنظمة الضمان الصحية، ومن قبل بعض المحامين الذين يشجعون المريض على الادعاء على الطبيب لجني الأرباح لهم وللمريض.
ولذا يصبح الطبيب خائفاً من المريض، وينظر إليه بوصفه عدواً يتربص به في قاعة المحكمة. ونتيجة ذلك ولدت قوانين جديدة في المستشفيات وخارجها لحماية هذه المؤسسات والأطباء فيها، عوض أن توضع هذه القوانين لحماية المريض، وللتأكيد على حقه بتلقي العلاج الأفضل لمرضه.
وفي النهاية، أتطلع إلى السماء وأقول: الشكر لله، المجد له. أشكره على كل ما منحني من نعمه. لقد أعطاني الفرصة الذهبية لمعالجة أضعف البشر؛ فالمريض بالسرطان هو أضعف الضعفاء. كما كانت هذه الفرصة أكبر امتياز لي. لقد أغنت حياتي ورفعتني إلى فوق. وقد أعطاني الله العمر الطويل لأطور العلاج الجديد لمعالجة الأمراض السرطانية وهي في الحالات المتقدمة.
هذا العلاج يحمل اسم
«ICTriplex»
وهو مزيج من العلاج الكيميائي والعلاج المناعي والعلاج المستهدف. في هذه المسيرة كانت عيناي دائماً مسمرتين على الهدف. لم يكن الهدف عندي الحصول على جائزة نوبل، كان الهدف دائماً، ولا يزال، ما هو أهم وأبلغ، إعطاء الحياة.