نجمة خليل حبيب- سدني

​​​​​​​​​​من الناس من لفظه لؤلؤٌ           يبادر اللقط إذ يلفظ

وبعضهم قوله كالحصى           يقال فيلغى ولا يحفظ
* * * * *
التحدث عن كلام المبدع أمر في غاية الصعوبة، (لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور الأمور وأشكالها التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحس ممكناً، وهذه فضاؤها واسع. أما الكلام على الكلام، فإنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه) بتعبير أبو حيان التوحيدي، غير أن كلام المبدع، لا بد وأن يستدعي كلاماً آخر مبني على نظريات الأدب، وإستراتيجيات قرائية وتأويلية دقيقة تتفاعل مع النص تفاعلاً مثمراً لتسبر أغواره وتكشف عن أسراره. ومن ثم، إذا كان هذا الأمر صعباً في كافة أنواع الإبداع فهو حتماً أشد صعوبة مع الشعر والنصوص الشبيهة به، ذلك لأنها تعتمد بشكل كبير على الخيال الأدبي، ولا تخضع لضوابط إنتاجية معينة، وتبقى دائمة التَّمنع والإشراق حتى ولو نزفت مجازاتها على البياض. لا يعني أن الخيال مقتصر على القصيدة فقط، بل هو موجود في مختلف الأجناس التعبيرية.

ومعظم نصوص “شيء
يشبهني” من هذا الكلام الصعب الذي يدور على نفسه ويلتبس بعضه ببعضه ويحتاج لقراءة تأويليّة تسبر أغواره. وإذ نبدأ فبالعنوان الذي أزال للالتباس عنه نص متأخر بعنوان “تشابه” بدأته بوقفة تأملية إزاء مشهد المطر يتساقط غزيراً في يوم حار في سدني تضاربت فيه مشاعرها بين الاكتئاب والبهجة، إلى ان انتهت “مدركة السر في مزاجية الأوقات ربتّت على كتف جنون العاصفة وهمست في أذن تحدي الأعاصير التي لم تاتِ خجولة مثل شمس الشتاء؛ اخبرتها: في حضوركِ شيْ يشبهني”.
أما الغلاف، فينبئ لونه البني الداكن عن وجود مضامين كئيبة في نصوصه، يخفف من وطأتها احتضان امرأة فتيّة لجذع شجرة
يمتد من أسفل الصفحة حتى نهايتها، يشي بالعزم وقوة الإرادة. أمّا الإهداء فصورة شعرية لخّصت فيها كاميليا وفاءها لتراب قريتها ووالديها وأبنائها ولأخيها كمال- توأم روحها
إلى عطر تراب الأرض الذي لم يغادرني،
وصوت أمّي يستوطن الوجدان.
إلى دفء شروق الشمس في عينيك أبي،
​ووجوه فلذات الأكباد …
عليها تسمّرت صورة الوطن
​إلى توأم روحي كمال.  ​
وقدّم د. رغيد
النحاس للكتاب، بلغة شعرية شفافة عرّف بها بكاميليا ابنة القرية الجنوبية التي حملت هموم الوطن وأهله عبر آلاف المسافات، إلى أقصى شرق العالم. وهي التي رغم ما عانته من عذابات الروح والجسد، لم تتخاذل، بل سمت إلى المشاركة الإيجابية في معترك الفكر. “وهكذا يصبح للحياة معنى، وهكذا تنصقل الكتابة الخلاقة في التعبير عن كل الأشياء التي تشبهها وحتى تلك الغريبة عنها”. ثم يخبرنا النحاس عمّا تتميز به النصوص من صنعة بهية تجلت في أنسنة الجماد، وفي مزج صحي بين الواقع والخيال، “وفي توظيفها للتناقض الدائم في نفسيتها التي تعكس كثيراً من تناقض السلوك البشري والكوني بطريقة إيجابية فعالة، لتصبح هي المنتصرة في النهاية لأنها تتصالح مع ذاتها..” (ص. 7-8)
تتنوع نصوص شيء يشبهني في مواضيعها، وتتميز أسلوباًبصورها الشعرية ذات التشكيل اللغوي الذي يكوّنها الخيال من عدة معطيات يقف العالم المحسوس في مقدمتها. ففي نص بعنوان “أخي وغرس أبي” قالته الكاتبة في رثاء أخيها الذي خطفه الموت على حين غرة، تدفقت الصور الشعرية بعفوية وحرارة معبرة عن أحاسيسها بهذه الفجيعة بنص خارج عن المألوف استخدمت فيه طاقات اللغة في الحقيقة والمجاز، والترادف والتّضاد، والمقابلة والتجانس، وغيرها من وسائل التعبير الفنّيّ، فحققت لنصها صفة البكارة والإبداع:
أخي وغرس أبي
“هاتِ يدك. تعال معي. صوت صمتك يصم آذاني. لم أعد أطيق السير وحدي على دروب الوله، سأغمض عيني مثلك، وأحمل في يدي سلة من ذكريات وحنين. وحين نتعب في مسيرة العتاب والنجوى، نجلس معاًتحت ظل شجرة تين أو زيتون من غرس أبي، نفترش في ظلالها بساطاً مرصّعاً ببساطة طفولتنا ورنين ضحكاتها، وعفوية أيام الصباـ نعلق على أغصانها همسات التقارب والتناغم بين سنيّ عمري وعمرك، والقي برأسي على وسادة دفء لقياك، مستشعرة حرارة العطف تسري من لحاف يديك، تغمر عصف صقيع نوائب غربة أيامي، وتذيب تجلد المشاعر، وتوقظ البسمة التي اختبأت خلف التوجس والحيرة، ترسمها بحبر الغياب على وجهي، بدوائر بلون خيوط الشمس، حين تطل من وراء الجبال التي تترامى في البعد على أطراف حقول ضيعتنا، وألغي من ذاكرتي بذور الأسئلة المتعبة عن الرحيل المبكر، أنتظر على مساحة التساؤل ، أستيقظ من حصار سهوي ، لأقطف من الشتول التي ينعت ثمارها من ورود الشوق أعصر من رحيق زهر اللهفة قطرات الوجد، أحملها في واحة يدي، اكمل المسير نحو أبدية وجودك، تسابقني القطرات حيت نشتم عطر السكون ، تتسلل من بين أصابعي نحو مسام ّ رخام بياض القبر، تتهاوى عليك، تمسح انامل الحسرة بأكف ألمي على جبين الفراق، ومن حرقة لهيب يشبّ في أروقة الفؤاد اسألك ان تمد يدك مرة ثانية، ليس سواها يطبطب على القلب المرتجف، لعلها تهدئ روعي، وتسخر من ضجيج أوجاعي. . . . “ (ص.15-16)
قلَّ أن نجد نص رثاء حفل بهذا الكم من الصور الجمالية. ومن ناحيتي- كي لا أجزم وأقول كل متلقٍ- لم أدرك أن النص من باب الرثاء حتى كاد يصل إلى نهايته، فالكاتبة لم تقف على قبر أخيها متفجعة ولا نادت الناحبات للتذكير بفضائل المتوفى، ولا استدعته ليسلم على فلان وعّلان ممن سبقوه إلى السماء، بل تعاملت معه وكأنه حي يرزق. أخذته من يدعه ودعته إلى مشاركتها سلّة ذكريات طفولتهما في حقول القرية (فكرة تتناص مع رثاء بدر شاكر السياب لحبيبته وفيقة حيث يتحول القبر إلى حديقة زهور). ثم طلبت منه أن يحميها من صقيع الغربة،مذكِرّتْهُ بما كان من جمال الشمس على أطراف حقول قريتهم. صحيح أن الموضوع مؤثر يستدعي الاهتمام، ولكنّ الأسلوبية الناجمة عن خيال أدبي يخلق ولا يقلد، يأخذ مادته من العادي البسيط، ثم يمزجه ليمسي شيئاً جديداً على شكل غير الذي كان له قبله، تماماً كمثل ما تعمل النحلة برحيق الأزهار حين تمتصه من الزهرة وتمضغه بلعابها فيمسي عسلاً. وهكذا فعلخيال الكاتبة الخلاق مع القبر، خلع عن مكان الدفن ما له من رموز الفناء والتلاشي والغياب وأعطاه صفة الأبدية: “أكمل المسير نحو أبدية وجودك”. وفي قولها، “حرارة العطف تسري من لحاف يديك”، تعطي للأخوة قيمة أعلى مما هو متواضع عليه في الخطاب التقليدي المتكرر في الانتصار لصلة الدم. وعندما انفجرت أمام القبر، كان لانفجارها ألق الشمس الآيبة إلى الغروب ..
* * * * *
كتبت كاميليا نعيم في العديد من المواضيع: النقد الاجتماعي، الوطنية، البيئة، الحب، الصوفية، ولكن فلسطين هي التي سكنت وجدانها وهي التي من أجلها تُقدم أغلى القرابين:
خذي لترضي
“صبية تعزف على ابتسامة الاستخفاف التي تكبلها. تنقر بعزف مغموس بالقهر على وتر اللامبالاة في وجه القيود والجنود. . . شاب يحلق بجناحي العشق نحو سماء القدس. يقفز كالنسر، لا يحذر من قساوة ملامحهم. يوقد النار المقدسة في جسد المغتصب. يعبر من بين الأحلام، ويسقط نحو الوصية. . . طفل يعبر نحو الأبدية مرتدياً ثوب العيد، يضع حول ملامح براءته كوفية القدر ويمضي لحم ودم يتناثر: خذي فلسطين حتى ترضي. . . طفلة تحمل خبزاً بيدها اليسرى، وباليمنى حجراً. . . فلسطين كم تليق بك القيامة والتضحيات!

وفي نص بعنوان “عيون مريم”، حضرت فلسطين في جلسة صباحية لكاميليا ورفيقاتها من منتدى “.. وخير جليس”، تقول فيه: في واحدة من جلساتنا الودّية، استوقفتني نظرات “مريم”، التي تسمرت على لوحة علقتها “سناء” على جدار القلب في غرفة الجلوس:
“وكما تعانق الأم وليدها الذي أبعدوه عن حضنها قهراً، فتحت “مريم” ذراعي الحنين لتحتضن إطار خريطة تسكن في ذاكرتها أسماء جليّة لكل بلدات فلسطين، وراحت أناملها تحبو فوق أسماء المدن والقرى التي تعاند المساومة بعنفوان، وتتحدى بقوة الحق، أعاصير الزمن الضال، تبحث بكل الشوق الذي يحيا بداخلها عن اسم بلدتها، وتفتش خلف الحروف عن الأزقة الضيقة، والحارات القديمة التي تسكن في ذاكرة الإبعاد والإقصاء، وقناديل عيون “سناء”، المبللة دوماً بالحنين ترشدها بشغف إلى حيث يستقر اسم البلدة، ينتظر عودة الغياب، ويولد كل يوم في الخيال بحلة أجمل” (54)
ومن جميل الاستعارات التي تغص بها نصوص “شيء يشبهني”، تكنية الأسرة بالوطن، ففي حين جاء عنوان النص “صورة وطن”، تحاشى جسده ذكر أي مرادف أو تشبيه له علاقة بالوطن. إذ يبدأ النص والأم تدخل غرفة ابنتها بحذر خشية إزعاجها وعندما طالعها الفراغ أحست بالوحشة والحنينأغلقت الباب وقبلت الجبين المسافر نحو شجرة الأحلام بقطف ثمار الحب وراحت ترقب عودة الطفولة والياسمين والأنثى التي تضيء قسمات وجهها صورة وطن. (24)
أبدعت كاتبتنا الملهمة في وصف خلجات نفسها وما اعتراها منخيبات وضياع أمانٍ وأحلام، ولكن جميعها لم تفضِ بها إلى الانكسار، بل زادتها قوة وعزماً على التحدي: “ولتأخذ الذاكرة غفوة تحت ظل الأمس. لن أسمح لسيل المرارة أن يوقظها. سألقي عليها رداءً ضبابياً من نسيج الغموض كي لا يؤرقها التأمل. وربما أشدو أهزوجة الاستهتار في حقول السنابل الفارغة”. (25)
وفي الحب كان لها موقف من العلاقة بين الرجل والمرأة تمثلت بنص “خذ بيدي ..” الذي بدا عنوانه وكأنه إقرار بتسُّيدالرجل. ولكن ما أن ندخل جسد النص حتى يتبين أنه دعوة ندية لتوحيد القلبين لمواجهة ضعفهما البشري، لاستعادة ومضة من حماس يعيدان بها حياتهما إلى الحياة. ومن جميلما قالته في هذا المجال، هو مزجها بين العاطفة الإنسانية الأرضية والأخرى الصوفية النورانية إذ اشترطت على حبيبها أن يكون في حياتها كما هي كلمة حب عند المتصوفة: “ إن أردت أن تكون: كن في حياتي تلك الكلمة، واغرف من حبر قليل أبجديتها الكثير. إسقِ بمداد حرفين ظمأ لم تغره سيول من سنين. وامسح بياض جبين الحاء بمنديل معطّر برائحة زهور النرجس. لا أرضى بغيرها بديلا”. وبعد ان تعدد شروطهالدخول دنيا الرجل، تعود لدمج هذا الحب بالتصوف شارحة رمزية هذين الحرفين الحاء والباء وما يمثلانه من معاني الألوهية. وإن كان الصوفيون ذهبوا في تفسير هذين الحرفين مذهباّ عرفانيا، كما هي الحال مع شاعرنا الحروفي الجميل أديب كمال الدين، فإن كاميليا نعيم أسبغت عليهما غلالة رقيقة من الغموض زادت من بهائهما دون أن تحجب الرؤية:
“انصب خيام التصوف على أطراف بادية الباء، مشدودة بحبال الشوق، لا يجف عنها الحنين، واملأ واحة النقطة بمطر من سحاب الروح، وهبّات من نسيم الفجر، يستنبت الوفاء غرساً في تربة الوجد، وزهراً عابقاً بشذا البوح، ينفذ سراً إلى القلب، يليق بالإنصات والانعتاق وعودة الغياب”. (64)
ويستوقفنا نص بعنوان “أعوام الثراء”، فنؤخذ بجمالية التسمية المنفتحة على عدة احتمالات، حتى إذا ولجنا جسد النص،أُخِذْنا بجمالية السرد وبساطة وانسياب العبارات، وتعرّفنا على المؤثرات التي صاغت شخصية كاميليا نعيم التي يأتي على رأسها الحاضنة الأُسَريّة المتنوّرة التي صنعت منها فتاة ناضجة تتخطى ما تحلم به الفتيات الصغيرات من برقش الحياة من ثياب مزخرفة وأحلام بعريس يأتي على حصان أبيض ينقلهن من فقر القرية إلى قصر الأمير، فكانت منذ نعومة مراهقتهاامرأة ناضجة تحلم، بل تسعى إلى تحقيق علامة فارقة تبقى عبرة للأجيال القادمة: “كان لجماليات مدرسة القرية وحميمية رفاق الصف. . . نكهة مختلفة فيها من ألوان المسؤولية وكأننا الأجيال التي وقع على عاتقها التغيير، وعليها تبنى آمال الأهل وتطلعات الأجداد”. (98)
* * * * *
ذهبت كاميليا نعم في كتابها “شيء يشبهني” في تفجير اللغة كل مذهب، أي بإزاحة اللفظة جزئياً عن مجالها الدلالي المألوف وربطها بمجال دلالي أخر لا بغرض تغيير معنى اللفظة ذاته وإنما بهدف تفجير طاقاتها التعبيرية وإثراء قدرتها الإيحائية، والمغامرة بها في مجال تأسيس علاقات جديدة. وجاءت نصوصها متنوعة تنوع النفس البشرية. غضبت وتمردت ورضخت للأمر الواقع أحياناً ورغم آلامها الجسدية والنفسية ظلت متماسكة والنفسية والجسدية ظلت متماسكة.
يقول حسين مروة، إن الواقعية- في الحقيقة- تريد من الأدب والفن والعلم، أن يكون كل منهما في خدمة الإنسان، أي في خدمة طاقاته المادية والروحية جميعاً، وأن يكون كل منها كذلك حافزاً حركياً ويحفز هذه الطاقات المادية والروحية معاً في الإنسان لإبداع أقصى ما يمكنه إبداعه من جمالات وخيرات، ولرؤية أعمق ما يمكن رؤيته من كنوز الخير والجمال في الحياة والكون. وهذا ما كانْتْهُ كاميليا نعيم في “شيء يشبهني”