بقلم الدكتور فيليب سالم
إحتفلت الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة (LAU) بمرور مئة عام على صدور كتاب النبي للنابغة اللّبناني جبران خليل جبران. وقد شارك الدكتور فيليب سالم في الندوة المقامة بالجامعة وألقى الكلمة التالية:
البارحةَ زُرْتُه. ها هو مسجىً كالميتِ في الأرضِ التي اختارَها ليعيشَ فيها إلى الأبد. يومَ كانَ حيًاً كانت عَيناه شَاخِصتينَ دائمًا إلى هذا المكانِ الذي ينامُ على أقدامِ جبالِ الأرز وعلى كتِفِ وادي قَنّوبين. وفي حَضْرَتِه، تريدُ أن تَسأل. لماذا هو صامتٌ هكذا؟ وَهلْ يا تُرى لا يزالُ يَذكُر مدينةَ أورفليس؟ وماذا عنِ المُصطفى؟ وعن الميترا؟
وتَخْرُجُ من المكانِ وتَنظُرُ فَتَرى «الشمسَ تُلملمُ اشعّتها الذهبيةَ كالبخيلِ عن رؤوسِ الجِبالْ»، وترى الهِضابَ والأوديةَ تَنامُ على أنغامِ السكينة. فيبهرُك الجمالُ وَيُصيبُكَ شَيءً من الدوارِ فتظنُّ أنّ الله يسكنُ هَهُنا.
هذا الرُّجلُ الراقدُ في ضَريحِه، هو مِن لبنان، ولكنَّ رسالتَهُ كانتْ ولا تزالُ للعالمِ كلِّه. لقد ماتَ جبرانُ من زَمان ولكنَّ «نبيَّه» لا يزالُ حيّاً يَعيشُ بينَنا. صار لَهُ من العمرِ مئةُ سَنَة. وكأنّه وُلِدَ البارحة. فكتابُ «النبي» ليس كتابًا عن الماضي بل كتابٌ عن المُستقبل. إنّه الرسالةُ التي بَعَثَ بها جبرانْ إلى الاجيالِ القادمة. وما رِسالتُه إلا من رسالةِ لبنان. هذهِ الرسالةُ التي تُحدّدُ هويّةَ لبنان وحضَارتِه. هذهِ الرسَالةُ التي لم تَكُنْ يومًا إلا رسالةُ عالمية.
لم يَكتُبْ جبرانُ «النبي» لأهلِهِ في لبنان بل كَتَبَهُ لأهلِهِ في جميع بقاعِ الأرض. كتبه للإنسانيةِ جَمعاء. لذا اختارَ أنْ يكتبَه باللغةِ الإنكليزية، ولذا أخذ وَقته، سنينَ طويلةً ليكتُبَه. إنه عُصارةُ فِكره. إنه الكلامُ الذي أرادَ أن يقولَه قَبل أن تَصِلَ السفينةُ وَتَعودَ بهِ إلى «جزيرةِ مولدِه». انهُ الوَصيّةُ. وَصيّةُ جبران.
وَماذا تَقولُ الوَصيّة؟
تَقولُ الوصيّة إنَّ ما تَراهُ عيناكَ في أخيكَ الإنسان، ليسَ مُهمًا؛ المهمُ هو ما لا تراهُ عَيناكَ فيه. المهمُ هو الإنسانُ في داخلِكَ الذي لا تَراهُ عينٌ ولا تَلمُسُهُ يدٌ. المُهمّ هو ما لا يُقاس ولا يُحدَّد وبالتالي فهو ما لا يُمكنُكَ إدخالُهُ إلى الكمبيوتر. فالحبُ والُنبلُ والشّهَامةُ والأيمانُ والحنانُ والنخوةُ وطهارةُ القلبِ وقداسةُ الرّوح، كلُها أمورٌ لا تقاسُ ولا تُحدَّد الا انها تُحدّد ماهيّةَ الإنسان. والخطرُ الذي يهدّدُنا هو أنّ التكنولوجيا الحديثةَ تعتبرُ أن كلَّ ما لا يمكُنكَ إخضاعُه للكمبيوتر غيرَ مَوجود. إنّ عالمَ جبران ليس عالمُ المادةِ بل عالمُ الروح. ورحلةُ الحياة ليستْ رِحلةً خارجَ الإنسان يَجمع فيها المادةَ والقوَةَ والنفوذَ بلْ هي رحلةٌ في داخِلِه يَرتِقي فيها الإنسانُ إلى أَعلى مَراتبِ الروح. يرتقي إلى المحبةِ التي تعرّينا من قشُورِنا. يَرتقي إلى مُعانقةِ الآخر ليُصْبِحا واحدًا. وكم نحنَ اليومَ بحاجةٍ إلى هذهِ الوصية. فلننظرْ إلى شوارعِ المدينةِ وساحاتِها، فماذا نَرى؟ نَرى أُناسًا يَلهَثونَ وراءَ الشّهرة. نرى أناسَاً يَتقاتلونَ من أجلِ السُلْطّة. ونَرى أُناسًا يَلبِسون وجوهًا مُستعارة. آلافُ السنينَ وتاريخُ البشرية عارٌ علينا. تاريخٌ من الحروبِ والتَقاتلِ والنِزاعات. تاريخٌ من الكراهيةِ والعنف. تاريخٌ من اعتداءِ الإنسان على الله، وعلى أخيهِ الإنسان. فتعالَوا نَرتَفِعْ إلى «الوصيّة».
وتقولُ «الوصيّةُ» في مَعنى العَطاء. عندما بادَرَه رجلٌ غَنيٌّ وطلبَ مِنْهُ أن يحدّثَهم عن العَطاء، أجابَ المصطفى: «ضئيلُ عطاؤُكم حين تَعطون مما تَمْلِكون فلا عطاءَ حقيقيًا الا ما ينبعُ من ذواتِكم» ثمَّ نَظَرَ إلى الجموعِ وتكلم:
] تقولونَ غالبا «سنُعطي، إنما من يَستحقّون»، لكنَّ الشجرَ في بُستانِكم لا يقولُ ذلك، ولا تَقولُهُ القُطْعانُ في مَراعيكُم. هي تُعطي لتَحيا، لأن في إحجامِها موتَها [. وبهذا يكونُ جبران قد جاءَ بمفهومٍ جديدٍ للعَطاء. أنتَ لا تُعطي لتفرحَ بل تُعطي لتَحيا. كم يَتكلمونَ عن فرحِ العطاء، ولكن في العطاءِ ما هو أهمُّ بكثيرٍ من الفَرح. فالعطاءُ يعطيكَ احترامًا منكَ لنفِسكَ، ويَرفعُكَ إلى فوق، فَتَشَعُرُ أَنكَ أكبرُ ممّا أنت. وفي العطاءِ تَبني جِسرا من المحبةِ بينكَ وبين الذي تَلقّى عَطاءَكَ. بينكَ وبين الآخر. جسرًا تعبرُ عليهِ إلى الإنسانيةِ جَمعاء.
وهناكَ سرٌ في العطاءِ أودُّ أن أبوحَ بِهِ؛ وهو أن ليسَ هناكَ من لا يُمكِنُهُ العَطاء. فالمتسولُ الذي جَمَعَ مئةُ قرشٍ في يَومِه، يُمكنهُ أن يُعطي قرشًا واحدًا. وأن الذي لا يُمكِنه أن يُعطيَ مِن مالِه، يُمكِنُهُ أن يُعطيَ من نَفْسِهِ، من وَقْتِهِ، ومن مَعْرِفَتِه. وَكَمْ هُناكَ من حاجةٍ لتدريبِ أولادِنا منذ الصِّغرِ على ثَقافةِ العطاء.
وأرجو أن تَسمحوا لي أن أَتكلَّمَ على عَطاءٍ تَعلمتُهُ في حياتِي مع المرض. ثمانٍ وخمسونَ سنةٍ في الطب، تعلّمتُ أن أعظمَ مراتبِ العَطاءِ هو عَطاءُ الحياة. وهل هناكَ عَطاءٌ يَعلو إعطاءَ الحياةِ لإنسانٍ كادَ أن يَفقدَها؟ وهَلْ هناكَ عملٌ أكبرُ وأنبلُ من أن تنتشل إنسانًا من براثنِ الموت. لقد جاء في القرآن الكريم «ومن أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناسَ جميعا».
ولرُبَّما يكونُ أهمَّ ما جاء في الوصيةِ كلامُهُ في الدين. ] وقال كاهنٌ عجوز «حَدِّثْنا عن الدين» فأجاب «وهل تحدّثْتُ اليومَ عن شيءٍ آخر؟ أليسَ الدينُ كُلَّ فِعْلٍ وكُلَّ تأمُّلٍ وما ليس فِعلاً ولا تَأَمُلاً؟ [. كانَ جبران يؤمن بأنهُ لا يُمكنُ أن تَفْصُلَ إيمانَكَ عن أفعالِكَ. وممارسةُ الإيمانِ لا تكونُ بالصلاةِ بقدرِ ما تكونُ بالفِعل، بقدر ما تكونً بممارسةِ الحياة: «حياتُكُمُ اليَوميّة هَيكلُكم ودينُكم؛ كلّما دَخلْتُموه خُذوا مَعَكم كيانَكم كلَّه». والصلاةُ بالنسبةِ إليهِ ليستْ عملاً خارجيًا تقومُ به عندما تَذهبُ إلى الكنيسةِ أو الجامعِ أو المَعْبَد؛ انه عملٌ روحيٌ تقوم به في داخلِكَ أينما كنتَ وفي أيِّ وقتٍ كان. والإلهُ لا يعيشُ في السماءِ بل يعيشُ مَعَنا وَفينا وبَيننا. «وإنْ شِئْتُم أن تعرِفوا الإلهَ انظرُوا حولَكُم فَتَرونَه في كلِ شيء»
لقدْ خَرَجَ جبران عن الفكرِ المسِيحي التقليدي، فجعلَ الكنيسةَ في دَاخِلِكَ، كما جَعَلَ مِنْكَ كاهن الكنيسة. وجعلَ الصلاةَ ممارسةَ حياة، وجَعَلَ اللهَ يعيشُ بَينَنا ومَعَنا. لقد أحبَّ جبران «يسوعَ ابنَ الإنسان» كما أحبّ النبي محمداً، رسولَ الله. لقد أزالَ الحدودَ بين الأديان بالمحبة، وارتفعَ بالدين إلى الإنسان. كانَ الدينُ بالنسبةِ إليهِ شَجَرَة. جِذْعُها هو المُعْتَقَدُ الأساسي، ولكنَّ الجِذعَ يَرتفعُ وتَرتفعُ مِنْهُ الأغصانُ ثم تُعانِقُ هذه الأغصانُ أغصانَ الأشجارِ الأخرى. هذا العِناقُ بالنسبة اليهِ هو جَوهَرُ الدّين؛ حيثُ تُصبحُ البشريةُ جَمعاء عائلةً واحدة. ألمْ يَقُلْ: «ها قد أصْبَحَتْ البشريةُ جمعاءَ أهلي».
َكانَ في إيمانِه أنَّ الإنسانَ واحد. كائنًا من كانَ هذا الإنسان. وأيًّا كَانتْ أَوصافُه. وجاء العِلمُ ليدعمَ هذا الإيمان. قد يكونُ أهمَّ بحثٍ علمي في القرنِ العشرين هو ذلك الذي تَمَّ التَوصّلُ فيهِ إلى رسم الخريطةِ الجينيةِ عند الإنسان. وتَعلّمنا منه حقيقةً جديدةً وهي أن أكبَرَ فارقٍ بين إنسانٍ وآخرَ في الحامضِ النووي (DNA) هو أقلُّ من 0.1% . ومن يُمكِنُهُ أن يصدّقَ أن كلَّ هذهِ الحروبِ والنزاعاتِ تَحدثُ والفارقُ في المادةِ الأساسيةِ للحياةِ بين الشعوبِ ضئيلٌ إلى هذا الحدّ؟ وماذا كانَ ليحدثَ لو كانَ الفارقُ 1% بدل من 0.1%.
وكلّما غُصْتَ في المعرفةِ، وَتَعمّقتَ في دِراسةِ الخليّةِ الحيّةِ وهي أصغرُ مركَّبِ في جَسَدِ الإنسان، تركعُ أمامَ هيبةِ الخالق. هذه الخليّةُ هي نَفْسُها في كلِ إنسانٍ وكلّما ازددتَ معرفةً بوظائف هذه الخليّةِ، وكَيفَ تَعملُ بِنظامٍ مَهيب، لتعطيكَ الحياة؛ كلما اقتربتَ من الله. وكلما اقتربتَ من الله، تقتربُ من أخيكَ الإنسان وتعرفُ أنَّ الآخرَ فيه شيءُ منك.
منذُ بدايةِ التاريخ إلى يومِنا هذا والطغاةُ يَستعملونَ الدينَ كأداةٍ سياسيةٍ للوصولِ إلى السُّلطة. وكأداةٍ للّتفرقة، كَما يستعملونَه للاعتداءِ على العقلِ، والاعتداء على المعرفة. يجبُ أن لا نسمحَ بذلكَ بَعْدَ اليوم، ويجبُ أن نغيّرَ مجرى التاريخِ الى تاريخٍ يَليقُ بنا. إلى تاريخٍ جديدٍ يؤسّسُ للسلام، يُؤسّسُ لاحترامِ الإنسان.
وأكادُ أسمعُ صوتًا من بعيد. صوتَ المُصطفى يُردّدُ وَيقول: «كَما حُزَمُ القمحِ يَجْمَعُكُم الحبُ اليه. يَدْرُسُكم حتى يُعرّيَكُم. يُغَربِلُكُم حتى يُحرّرَكمُ من قُشورِكم، ثم يَطحُنكم حتى النّقاء».
لم يَقُلِ المصطفى هذا الكلامَ لأهلِ أورفليس فقط بل قالَه لأهلِ الأرضِ كلِّها.
القيت هذه الكلمة في ندوة عن مرور مئة عام على صدور كتاب جبران «النبي» التي أقيمت في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت في 17 تموز 2023.
الترجمة العربية من كتاب جبران «النبي» الذي ترجمه للعربية الشاعر هنري زغيب وهو من منشورات مركز التراث اللبناني.