بقلم د. نجمة حبيب -سدني
أثرى الشاعر أنطوان قزي المشهد الشعري العربي في أستراليا بديوان جديد بعنوان «رذاذ صيفي»، ويتميز هذا الديوان بإخراجه الالكتروني المتقن المنسجم مع حيثيات النص بدءاً من العنوان حتى آخر صفحة فيه. وإذ نبدأ فبالغلاف الذي هو عتبة النص الرئيسية ومفتاحه الأساسي ونقطة الإرسال الأولى بين المرسل والمرسل إليه.
يتألف الغلاف من ثلاث طبقات تسلم الواحدة إلى الأخرى كمثل ما يكون من فصول حكاية شيقة، إذ تقدم الطبقة الأولى ألوان الطبيعة الأساسية (الأخضر والبني والفضي) في انسجام بهي، بينما تقدم الطبقة الثانية انثيال رذاذ الماء الفضي، فيما تقتحم زهرة أقحوان المشهد فتثير ألوانها البيضاء- الصفراء معاني الأمل والفرح والإخلاص وطول العمر، حسبما هو متعارف عليه في الحضارات القديمة، وحسب ما لها من قيمة شفائية لا تزال تستخدم في الطب البديل (التداوي بالأعشاب) في كثير من بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. ولعل الإشارة السيميائية الأولى التي أرادها منسق الكتاب وناشره (الدكتور علي أبو سالم) هو العلاقة بين الزهرة الشافية للبدن والشعر الشافي للروح. لذا فإن ما تبغيه هذه الورقة النقدية هو الكشف عن البلسم الشافي المبثوث في ثنايا قصائد «رذاذ صيفي».
في الإهداء، خرج الشاعر عن المتعارف عليه في الإهداءات من ومضات سريعة تبدأ بإلى، .. وتنتهي بعبارة امتنان وشكر، فجاء إهداؤه على شكل قصيدة شعرية كنّى بها عن أبنائه وزوجته بالرذاذ الصيفي، ولا يخفى ما لهذه الكناية من قيمة بلاغية مبدعة تكمن جماليتها في إضافة الرذاذ إلى الصيف. بمعنى أن الرذاذ لو أتى في أي فصل آخر من فصول السنة لما كان لمجيئه تلك البهجة، أما أن يأتي في فصل الصيف، حين يعم اليباس وتجف الأنهار والينابيع والضروع وتتشقق قشرة الأرض من شدة العطش، فإن في نزوله حدث تفرح له كل الكائنات. ورغم جو التفاؤل الذي يسيطر على
القصيدة، ورغم الفرح الذي أفعم قلب الأب عند ولادة كل من أبنائه الثلاثة، ظلت تنوس تحت
الرماد مشاعر الحزن والأسى والاغتراب «جمرات هجراتي الولاّدة”، «ظلماتي الهاربة»، «جفاف أيامي»، مؤكداً أن المنفى/الهجرة سواء كانت طوعاً أو قسرية، هي صدع لا يمكن رأبه بين الإنسان وموطنه الأصلي، بين الذات ومسكنها الحقيقي. وأن كل ما يحققه الانسان من إنجازات في المهجر ما هو إلا ثمرة جهد يُبْذَل للتغلب على الحزن المضني الذي تولده حالة الاغتراب:
«لهم أهدي هذا الغلاف
هم الرذاذ الذي أطفأ جمرات هجراتي الولاّدة
هم بسمة الغسق التي لوّنت ظلماتي الهاربة
هم قطرة الحياة التي بللت رجائي وعلمتني الرقص على الضفاف
قطرات ثلاث أنعشت جفاف أيامي وأهدتني إكسير الحياة
وزرعت شموسي تحت كل سماء
شكراً لثلاثية هذا الرذاذ
وشكراً للغيمة البيضاء التي أمطرت أيامي بهذا الرذاذ ، اعني زوجتي». (ص. 8)
وبعد هذه المقدمة الشاعرية، يكمل الكاتب إهداءه بعبارات تمثل واحدة من أقصر السير الذاتية وأشدها تكثيفاً حيث يسرد علينا مشوار حياته الطويل القاسي الذي بدأ حين [أدركه الغضب] (عنى به حرب الجبل الأولى) وبين اضطراره إلى الهجرة مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، ثم عودته إلى الوطن بعد أن لاحت بوادر انفراج في الأزمة اللبنانية عام 1981 فيتزوج. ولكن الانتكاسة التي أصابت هذا الاتفاق وأدت إلى حرب الجبل الثانية، دفعت به إلى الهجرة للمرة الثانية ليستقر في أستراليا. ونعلم بعد ذلك أن هذا الرذاذ هم أبناء الشاعر الثلاثة: نغم وناجي وناي. والغيمة البيضاء هي زوجته مرتا. وبهذا تتجلى لنا جمالية هذه الصورة الشعرية «رذاذ صيفي». وبها أيضاً يكون الشاعر
قد هيأ قارئه/قارئته للولوج إلى نص شعري مكثف يحتاج تأويله إلى قدر من التأمل وفيه ما يدق ويغمض «ويحتاج استخراجه إلى فضل رؤية ولطف فكرة» على حد تعبير صاحب «أسرار البلاغة»
* * * * *
وإذ نبدأ فبالقصيدة الأولى «تزرع قبلتين وترحل»حيث تغري جمالية العنوان بالظن أن القصيدة غزلية،
قصة حب تصف امرأة مغناج، ثم يتبين لنا أن هذه المرأة المغناج، ما هي إلا سفينة تتهيأ للانطلاق. وحيث أن العنوان هو الإشارة السيميائية الأولى في القصيدة، يتصدرها ويبث خيوطه وإشعاعاته فيها، «ويشرف عليه كما لو أنه يضئ العتمات و يجليها»، فإنه لا بد من وقفة إزاءه. إن ما يميز هذا العنوان (تزرع قبلتين وترحل) هو كونه بدء القصيدة ومنتهاها. وجماليته هي الحلية الأدبية المبدعة، الاستعارة التي نسب فيها الشاعر فعل الزرع إلى القُبلة فأخرجها بذلك من المؤقت إلى الثابت. بمعنى ان القبلة كحدث، هي لحظة عابرة في الزمن قد يدوم تأثيرها في النفس إلى حين ثم يزول، بينما الزرع هو حدث عرفته الإنسانية عندما تطوّرت معرفتها وانتقلت من الرعوية إلى الحضر، وبذلك يكون الكاتب قد رفع من مكانة القُبلة ونقلها من العابر إلى الثابت الراسخ في المكان.
لا تتوّقف جماليات هذه القصيدة عند عنوانها، فالصور الشعرية المبدعة مبثوثة في كل بيت فيها، سأترك للقارئ/ القارئة متعة فك رموزها:
«أوصدت ملامحها على تنهيدة المساء
وأسدل القبطان غيمة على صدرها
غمرت رعشة قنديل وقطرة رذاذ
وشق الشراع غلائل فجر تائه على ضفائر ظلها
عيناها تلهب ريق الندى
تسلب الموج أغنية المسافات
تنظر، تعشقُ.. وتغمر بغير قبل.
تنازل الأفق حورية سافرة
تعقد جدائل الاس بغير لمس،
تسرق الهمس من بحة الريح
وتولم للعنادل وجنات السحر.
تعصر الحياة بغير شفاه
وتروي ثقوب الشمس جراحاً لاهثة
وعند الشفق..
تزرع قبلتين وترحل». (ص. 11)
ومن المحسنات البلاغية التي اتبعها قزي في ديوانه رذاذ صيفي، الرمزية التي هي وسيلة فنية شعرية تتيح للشاعر، باعتبارها رؤية، وتوجهاً لمجالات واسعة، متعددة ومختلفة، التعبير عن مفهوم وتصور جديدين للشعر آمن بها مختلف الشعراء المحدثين أمثال السياب، ودرويش، وسميح القاسم، ومعين بسيسو، وصلاح عبد الصبور، وخليل حاوي، وأدونيس، وغيرهم. بل إن البعد المأساوي لهذا العصر، يدفع الشاعر إلى ابتكار لغة جديدة لم يسبقه إليها أحد. إنها لغة المستقبل، لغة البدايات التي تشبه إلى حد كبير لغة الأسطورة في كثافتها، ورمزيتها، وتعبيرها عن المجهول. هي لغة الحلم، والعوالم التي يتطلع اليها الشاعر والانسان المغلوب على أمره . . . هي لغة العواطف والأحاسيس المنفلتة من العقل لأنها أعمق منه، وتسمو عليه لأنها أرفع من المنطق والقوانين» وترصد القراءة المتأنية الكثير من قصائد هذا الديوان التي تلتزم التيار الرمزي نذكر منها: «بريق الكفن الموجوع»، «مر السامري ولم يلتفت»، «لن يعود السومري»، وغيرها: هي نماذج آسرة في عناوينها، تثير شهوة القراءة حتى إذا ولجناها أدهشتنا وأربكتنا رمزيتها التي تقول ولا تقول: «مر السامري ولم يلتفت»، وفي قراءة تفكيكية للقصيدة وعنوانها يتبيّن لنا أن الشاعر عطف نص دينيّ قديم على حدث فلسطينيّ حديث معاصر متخذاً من شخصية واردة في الإنجيل رمزاً كنّى به عن الفلسطيني هو السامري، ولكنه غير مساره، ففي حين عطف سامري الإنجيل على الرجل الجريح، مرّ سامري القرن العشرين ولم يلتفت. فالسامري المغتصبة أرضه، لا يستطيع أن يعطف ويسامح الذين طردوه من أرضه وبيته وبستانه وسلبوه هويته. ولاستعادة هذا الحق عليه أن يحمل السلاح ويقاوم. وتمهد القصيدة لغايتها بوصف المشهد الفلسطيني قبيل حرب 1948 مختلفة في أدائها عمـّا كان شائعاً في زمانها، معتمدة لغة خفيضة مقتصدة، لا تُغرِق الحدث بالتفاصيل، ولا تجعل منه أحجية مستعصية. كما أن الشاعر استخدم من التعابير والألفاظ أكثرها قرباً من ذوق العامة، فعفّ عن الالفاظ القديمة التي يـمّجها الذوق العصري الحديث، واستخدم ما هو قريب من ذوق العامة. كما أنه (أي الشاعر) شحن الرموز الدينية من مسيحية وإسلامية، وحوّرها إلى ما يناسب النص. وزاد باستنهاض أحداث وشخصيات تاريخية قديمة، لدعم موقفه المؤيد لشعلة الكفاح المسلح الفلسطيني طريقاً لتحرير فلسطين:
«أمس لونت مساكب الهديل أجنحة المسافات
بارك السيد آخر تينة عاقر
والتهم العطاش آخر دوارة في الغور
أمس خرج يوسف من البئر، لفّ قوس قزح
زوادةَ إخوته، عصاه، تسأل الدروب عن نجار الناصرة الذي رحل
أمس في ساحة الغجر، راقص نيرون نادلةً
صماء، فأبرقت وأرعدت وطاب الجنون
أمس حملت أختامهم بصمات حبلى وتواقيع سافرة
نزفت أحقادهم خبزأً يابساً
مرّ السامريّ ولم يلتفت. (ص 87)
* * * * *
ليس ما يميز ديوان رذاذ صيفي جماليات الصورة الشعرية فقط، بل تنوع نزعاته وأغراضه: فمن القصائد التي تمتاز بنزعة وجدانية ذاتية «دمعة حمراء»، «قصيدة الهروب»، زهرة الضباب»، «للصمت كل القبور»، وغيرها.. يخاطب فيها حبيبة مجهولة، يأسى على ذكريات لن تعود، ويصف الحياة بأنها سراب لا تستحق أن تعاش لأنها محض انتظار وغربة وانتظار عبثي:
«دمعتي الحمراء
ترسم الحلم
وعداً للأفول
وصدر الخابية
صبح بخيل
دعيني ألملم الأوتار
انا المأسور
في أمس الفراشات
أسير الآه
أضم الحياء.
فبيني وبين الجرح
عشق مريب
وبيني وبين الندى
صيفٌ عاقر». (11-13)
دعيني أغافل الخوابي
إلى كرم أمي
أسرق الوجع
إلى مهجة عتيقة
دعيني ألون الوجوه
أسقيها
فأغرق مع اليراع
في قصيدة الغروب». (21)
* * * * *
وتتنوع أغراض الديوان بين القومي، والوطني، والاجتماعي، والعائلي. ومن أسلسها عبارة وأعذبها مشاعر، قصيدة «إلى أمي» التي معها لن تشفّ الروح إلا بالفرح، ولن يرود الطفل إلا رائحة فستانها، ولن يعيش إلا إذا غمرها. ولعل ما يميزها هو أنها ترفل بالفرح وبالمشاعر الرقيقة والالفاظ السهلة التي تخرج على سجيتها لا زخرف فيها ولا تكثيف رموز:
«يا سنا الأقباس في صبح العنادل
تنثرين الومض ريان العيون
تأسرين البال لوناً للرجاء
يا عناق الضوء على خد الغسق
دعيني أغربل الشموس
سواراً ليديك
أنسج الأشرعة منديلاً لمرفقيك
لن يكبر الطفل يا أمي
لن تضيع «الشيطنة» في مسارب الدروب
ستبقى ارجوحتي
خصلة الزمن البريء
سأختبئ، خلف ريحانة سكرى
أخبئ أصابعي
في سجادة الحلم العتيق
سأهزم الثلج في صقيعه الحارق
. . . .
دعيني أدخل
أصلي في هيكل أسرارك
دعيني أغمرك كي أعيش». (50-52)
ومن القصائد الوطنية التي تستنهض التاريخ قصيدة «لبيكِ بغداد»، «من نينوى إلى أربيل»، متى يا شام وغيرها، وتمتاز القصيدة الأولى من هذه الكوكبة في أنها تهزج بالفرح وتفاخر بأمجاد بغداد على مر العصور. ولعلها القصيدة الوحيدة من كوكبة القصائد العراقية التي خرجت من دائرة الحزن ولم تتظلَّم. استنهضت قصيدة «من نينوى إلى أربيل» ما في ذاكرة التاريخ العراقي من مآسٍ امتدت من جنوب العراق حتى شماله، من مأساة كربلاء حتى مأساة حلبجة. أما قصيدة «متى يا شام»، فلا تحتاج إلى تعليق، فهي كفيلة بأن تحكي عن نفسها:
«متى يا شام
ترفل عقود الياسمين
بوابة حاراتك القمرية
متى الضوء يغزو بساتينك الصابرة
متى يا شام تدلف الأحلام في دروبك
ولا تخاف سطوة العسس
. . .
متى يا شام تولم العجائز موائد القصص
ويفيء زوار الليل إلى شجون الرحمة
وتشنف آذانهم لأصوات المقهورين
وترق مواجدهم لصراخ الثكالى
. . . .
متى تعود قصيدة نزار
أرجوحة المنابر
ومتى يعود أبو ريشة
يقهر بالشعر عروش العهر
. . . .
متى تعودين
أماً للعروبة
تغادرين صفحات الجنون
تلملمين بقايا الندم
متى يفرح ريفك في عناق المدينة
متى تتصالحين مع آمال أطفالك
وتنهدات نسائك
وسواعد رجالك
متى يا شام؟؟.!» (73)
تستوقف الشاعر المآسي الإنسانية فتشف مشاعره إزاء ما تتعرض له البشرية من كوارث طبيعية، وحدث أنه في عام 2004 ضرب إعصار قوي الشواطئ الأندونيسية قبالة جزيرة سومطرة قيل أنه أكبر زلزال في القرن العشرين، ذهب ضحيته مئات الآلآف من الضحايا، وتسبب بدمار كبير ليس لأندونيسيا فقط، بل لسيرلانكا، والهند، وجزر المالديف وتايلاند أيضاً. أثار الحدث شجون الشاعر فكتب قصيدة مؤثرة بعنوان: «تسونامي.. يحرق بالماء»، يصف فيها غضب الزلزال متسائلاً باستهجان:
«ما للحفافي تدحرج الصخور/ والمراسي تنازل الرمال/ والمد شمشون جديد/ آهة القبطان تكسر المجاذيف/ وأباريق الليل تلعق الدماء»
وبلوعة وبكاء مرير، يرثي ضحايا الزلزال من بشر وشجر وعمران:
«ما للمسافة تحصد ناظريك
تلملم أوتار الغروب دمع مقلتيك
ما للأرغن الموجوع يرصد غمام الرحيل يرسم في الجذوع أسفار المطر
. . . .
قل لشربينة الدوح مات الهزيع
وأغنية حبلى تسائل الشفاه عن خوابي الغجر
قل للصقيع أينعت مواقد الوداع
خلف الأفق جمر غريق (60)
. . . .
وحده تسونامي عاد
بلا أقلام ولا أوراق
لا وقت للكلام ولا حبر للوصايا
إنه تسونامي
يحرق المسافة بالماء
يحرق القلوب بالماء
ويحرق التاريخ بالماء
«تسونامي».. يحرق كل شيء كل شيء بالماء»!؟ (64)
يمثل ديوان رذاذ صيفي للشاعر أنطوان قزي بستاناً فاض بكل أنواع الفاكهة الغضة الطرية. ففيه القصائد الوجدانية الذاتية التي عبّر فيها عن تجربته الحياتية، وما عاناه من ألم الاغتراب والبعد عن الوطن. وفيه القصيدة الوطنية التي تستنهض التاريخ بمآثره ومآسيه. والقصيدة السياسية التي تكشف تسلط الحكام ودكتاتوريتهم. وقصيدة القضية كما في قصيدة «لن يعود السومري»، و»مرّ السامري ولم يتوقف»، وقصيد الرثاء التي لا ترثي أشخاصاً بل ضحايا الكوارث الطبيعية ومواضيع أخرى.
كما امتازت قصائد الديوان بصدق العاصفة وبوحدتها العضوية وبالصور الشعرية التي على كثافتها لا تغرق في الغموض ولا تنحدر الإسفاف والركاكة.
نجمة خليل حبيب
سدني أستراليا
4/4/2023
«رذاذ صيفي» كتاب جديد للكاتب والإعلامي أنطوان القزي صدر عن مؤسسة الجذور الثقافية في ملبورن