عبدالوهاب طالباني-سدني
منذ البداية كان الشعر عندها سربا من الفراشات الملونة ترفرف حول الاضواء البهية لكلماتها وصورها المشحونة برائحة الغيوم و المطر وندف الثلج ،وعذوبة الاغاني الجبلية ، وزغاريد رصاص كان يدوي في أعماق الوديان وأينما نعق غراب غريب تاه في شعاب الجبل الاشم ، في مرآة شعرها الصافية تكتشف القهر الذي عانى منه الكوردي نتيجة مظالم لاحدود لسوداويتها ، وتكتشف أيضا انتماء روحيا الى دفىء القرى الكوردية والتي تراها كأنها نجوم معلّقة على أكتاف جبال هي الاجمل والاكثر بهاء في مخيلة الشاعرة كزال إبراهيم خدر، بنت قلعة دزة التي عاشت ذاكرة القصف والتدمير و صرخات الناس تحت وابل قنابل الحقد العنصري ، وكأن « اللعنات» لا مهمّة لها الا ملاحقة الكورد الطيبين المحاصرين بين جبالهم وأشعارهم وآمالهم وأحلامهم ودبكاتهم وتجليات قصص الحب ، وعندما تعزف الشاعرة على وتر نشيد الروح ، تسمعها كأنها استعارت خرير الشلال ، أو كأنها تحولت إلى عيون زلال تتدفق من مسارب صخور زاكروس.
أنا أدّعي كوني شاهدا على ميلاد الكلمات الشعرية الاولى في مهاد مخيلة كه زال ابراهيم خدر المصمّمة كي تكون بيتا للكلام المضيْ والجميل ، وذلك عندما حدث اللقاء الاول لي مع بواكير قصائدها قبل حوالي ثلاثين عاما، منذ تلك الايام كانت كه زال تغازل الكلمة المفعمة بالحياة والنور أو ربما كانت تلك الكلمات هي التي تغازل أحاسيسها الداخلية…
تنتمي كه زال إلى مرحلة من الشعر الكوردي تعتبر أكثرها خصبا في التخلص من الاشكال القديمة وحرية البوح والبناء وتكثيف الصورة ، فعكس شعرها لاجواء مرحلة صعبة ومعقدة تاريخيا وسياسيا واجتماعيا ، هي مرحلة التراجيديا الكوردية ، ومن ثم الانتقال إلى فترة الانتعاش بعد الانتفاضة و الهجرة المليونية، وكه زال تنتمي أيضا إلى جمهرة الشاعرات الكورديات اللواتي يمدن جذورهن في عمق الحس الانساني وأرض الابداع ، كنبتة البلوط التي يمكن أن تحترق اوراقها وأغصانها كلها، ولكن في كل ربيع تُخرِج رأسها من تحت الهشيم وتطلق براعمها الندية من جديد ..إنها بنت الفواجع الكوردستانية ، كما هي بنت النيران النوروزية فرحا وعشقا وتمردا.
في شِعرها لا حدود لتشبثها بالحياة والجمال ، وهي تتبع فلسفتها الخاصة في هذا المضمار ، وتحسّ الحياة جميلة ،وهذه المعرفة هي التي تشغلها في وجدانها ، فتطلق مشاعرها شعرا في هودج من الفرح ، والعشق ، والاعتزاز بكل مفردات الوطن.
كه زال ابراهيم خدر شغوفة بالوجود و بالعالم الجميل الذي تخلقه شعرا، وترفض تماما الذاكرة التي تحوّل الحياة جحيما..
وفي رؤيتها لاحتراق شجرة أولإستشهاد البيشمركة تقول :
عندما تحترق شجرة
فان قلمي يكتب قصيدة باكية
وعندما يستشهد البيشمركة
يكتب قصة حزينة للجبل
فالشجرة والبيشمركة هما اللذان يعيشان في وجدان الشاعرة ، وفي احتراقهما يشتعل حزنها الذي ما بعده حزن ، هي تحزن لانهما فقدا الحياة ، وحزنها عليهما تجسده عالمها الشعري المنفتح على تأملاتها في المحيط المزخرف الذي عاشته ، والبيئة الكوردستانية البيضاء التي احتضنتها.
إنها تتحدث بلغة الناس ، وتنشد مواويلهم ، وتفتح أفواه جروحهم ، ولكنها ، تبعث الامل الجميل ، شعرا ، وصورا ، وبلغة كوردية سلسة ، سهلة ، تصل قلوبهم قبل مسامعهم ، انها كطائر الفينيق الذي ينبعث من الهشيم ، ومن رماد عاديات الايام ، لتقول:
“ منذ ان بدأت بكتابة الشعر ، ليالي السكين بترت جوانحي الاف المرات ، وايادي الظالمين قطبوا شفاهي لآلاف الايام ، وفي توابيت احقادهم جرجروني الى المقابر ، ولكن حين أصبحت مساء وسماء تحولتُ الى قصيدة جديدة و نشيدا للوطن”.
لشعر كه زال إبراهيم خدر في العشق صناجات شجية متفردة ، لها شجنها وبوحها الخاص ، انا لا أؤمن بالشعر الرجالي أو الشعر النسائي ، ولكن قطعا في شعر كه زال تشعر بنسمة حريرية لها نكهة أنثوية تأخذك إلى عالم مليْ بالاقمار والاضواء وترانيم كوردية تناجي ارواح «شيرين وفرهاد» و»مه م وزين» ، تقول كه زال في أحد نصوصها:
“على محراب قامتك أقيم صلاة الشعر، واقبلك ، رقبتي طويلة ورأسي محنية ابدا لقبلتك فأنا أعلم إنني من دون حبك أضيّع روحي مئة مرة في كل يوم..
وتتحول اليد التي تلمّح بالرّحيل إلى قافلة عابرة في رؤى الشاعرة لتناجي روحها ولتقيم صلاة الشعر لحالة الاشتياق.
وكم جميلة هذه التأملات حتى وإن جاءت مباشرة بعض الشيْ في بعض إرهاصاتها :
“لم اكن أعلم بأن يديك قافلة عابرة وسوف تهجرني وتلميحاتك عابر سبيل ، وسوف تتركني يوما ما في دروب حبي الناصع فانا اريد ان نكون قلبا واحدا ويدا واحدة وعينا واحدة كي لا نبقى لوحدنا في عالم حبنا.
شعر كه زال إبراهيم خدر المترجم إلى العربية سِفرٌ رائع من جواهر الشعر الكوردي الحديث إلى الناطقين بلغة الضاد ..شعرها هو السفير المعتمد للابلاغ عن جانب إبداعي بليغ ومضيْ من جوانب الأدب الكوردي ، إنه تاريخ من الأحاسيس والالام والافراح الكوردية ترنّمت بها كه زال بلغة الشعر الجميل لتضيف دنيا من الجمال والصميمية إلى الديوان الابداعي الكوردي المعاصر.