نزار حنا الديراني
نحاول في قراءتنا لهذه الرواية إبراز الرؤية الذهنية للروائية دينا سليم ، داخل التعالق الذي رسمته بين القلوب والمدن من خلال البناء المشهدي وقصدية التعبير على المستويين التاريخي والحاضر ، من خلال سردها لمشاهدها بأفعال من أجل تحقيق الذات، بموجب منظور إيديولوجي تعتمده الكاتبة متكئة على ثلاثة مكونات تتشكل من خلالها الأحداث وهي «الشخوص ، والفضاء الزمكاني والحوار.
تبدأ الرواية بتعرض عائلة داليا الى مضايقات من خلال سجن الاب المسلم والام اليهودية بسبب التفجير الذي حصل لباص إسرائيلي وحيث راح ضحيته مجموعة من العمال . وبعد خروج الام من السجن تهاجر مع ولديها الى كندا ، وبعد وفاة الام تحن داليا ( بعد ان تطلقت من زوجها اليهودي) الى مدينتها القدس لاعادة بناء التواصل مع الزمن الذي انقطع ولتلتحق بشقيقها المقاتل بالجيش الاسرائيلي كما تقول في ص125 :
( ضيعنا البلاد عندما كانت تفترشنا بزهر الياسمين ، ولم نعد نجد خطانا بل ظلت خطايانا تلاحقنا ، سنوات طويلة من الغربة والتعاسة ).
إلا أنها وجدت نفسها وكأنها غريبة في وطنها فتعود من جديد الى وطنها الثاني (كندا) . وتكون بهذا قد نجحت الكاتبة للتعبير عن ذوات كل مهاجر يعيش القلق والحيرة بين البقاء والعودة الى الوطن (الأم) وهو يعرف إن الوطن (الأم) لم يتخلص بعد من تلك العقد التي جعلته يتخلى عنه وهذا ما دعاها للعودة الى كندا.
في روايتها هذه تسلط الكاتبة عدستها الكبيرة كي تسجل مجرى الأحداث على الأرض ، سواء كانت في موطنها الثاني كندا أو في مسقط رأسها فلسطين . لتتأكد جميع المدن سواسية فيما يخص قلق الإنسان .
أرادت الكاتبة أن تقول لنا المجتمع البسيط يكون دائماً خالي من التطرف من خلال عينة من بلدتها القدس وحيث يجتمعن الجارات من مختلف الأديان والأثنيات ، تدردشن بصفاء القلب تارة وفي الأخرى يقترب النقاش من التطرف الا أن الكاتبة لم تجعله يستمر فسرعان ما تعود المياه الى مجاريها الطبيعية لتستمر السهرة بالمحبة إلا أن الكاتبة في ص244-245 لم تكن بطلتها (داليا) (والتي من خلالها تعبر عن ذاتها – أعني الكاتبة ) موفقة في إخماد نار التطرف وكأنها كانت غائبة حين حاولت الجارات الفلسطينيات طرد الجارة اليهودية التي دعتها داليا بالدخول فاكتفت بالتفرج ، لذا فالسكوت أو قول نعم ليس حلا لوأد الفتنة والتطرف .
من هنا نرى أن دلالة العنوان بوصفه عتبة نصية دالة ومؤثرة جاء بمثابة مرآة كاشفة لما يدور في القلب من جهة وفي المدن التي لا تخلوا من الصراع من جهة أخرى .
جاء العنوان بمثابة الألكترون المتحرك الذي يعكس صورة النواة ( المتن ) والتي بحد ذاتها هي ذات وفكر الكاتبة .
يتكون العنوان من نصين متناقضين فعتبة النص الأولى هو عنوان تناقضي للنص الثاني وهما يحملان هموم وآلام سكان هذه المدن ومن خلاله يفتح الباب للصراع بين متناقضين كمدخل للقراءة …
فمنذ الوهلة الأولى ( العتبة ) تجد نفسك أمام متناقضين ( قلب / الحب ) و (المدن / قلق – والفكر المضطرب ) . فالقلب هو مصدر الحب ، بمعنى الحياة ، والقلق هو نتاج الفكر وحتى لو قلبنا المعادلة وكما قال الاستاذ توفيق أبو شومر ( مدن لقلوب قلقة ) على أعتبار المدن هي من الثوابت والسكان هم القلوب أي المتغيرات .. لذا سنكون أمام أول سؤال هل دائما الفكر والحب (القلب) متناقضان وللاجابة عليه يلزمنا الغوص في متن الكتاب ومسايرة الاحداث والصراع النفسي أو القلق الفكري الذي يلازمنا دوما بسبب مجموعة عقد ( مفاهيم دينية واجتماعية وأيدلوجية ) تقف دائما بالضد من ايماننا … وجاءت لوحة الغلاف معبرة للعنوان من خلال تشظيات القلب بسبب القلق النفسي من خلال بطلتها (داليا) والتي سجن والداها ، فحال تحرر والدتها سافرت الى كندا فمخيلة (داليا/ الروائية دينا سليم ) تعج بأمكنة وذكريات جميلة والتي ستحاول بين حين لآخر عكسها في نصها للمتلقي لأهميتها ودورها في احتضان بعض المكوناته السردية كي تفتح الطريق للمتلقي لتتبع مسار النص من بدايته وحتى نهايته من خلال المواقف والأحداث التي تزخر بها الرواية .
تستهل الروائية دينا سليم روايتها « قلوب لمدن قلقة» من خلال سرد ذاتي عبر بطلتها ( داليا) وهي تسير على خطين متوازيين ، قلبها المفعم بالحب ومدنها التي تعج بالقلق فأجادت فيه الكاتبة منذ الخطوة الأولى في رسم الصورة التي تربط المتناقضين من خلال تحرك الرواية بين مستويين زمنيين: مستوى الحاضر الذي يمثله سرد حياة بطلة الراوية (داليا) والزمن التاريخي والذي يمتد من فترة الاحتلال، ويتحرك هذان العالمان بتعالق داخلي من خلال الاتكاء على إستنطاق الصراع القائم بين إرث الماضي التاريخي بتداعياته والحاضر المشتت بقلقه . ومن أجل ذلك وظفت الكاتبة المكان والحوار لخلق التشوق في القراءة، وحيث تبوأ المكان منزلة مهمة لدى الروائية كونه يحمل دلالات وعلاقات مختلفة تربطها بوطنها الأم فمن خلاله تتنفس طفولتها الفلسطينية لذا فحضوره مرهون باحساسها وصراعاتها في العالم الجديد فتسلط عدستها في ص199 لتصف لنا المكان :
( .. دخلت من البوابة العملاقة المقوسة ، المدعومة ببرجين عملاقين . المشهد القديم يتكرر . في الواجهة محل صرافة ، ونساء يتربعن على الأرض يعرضن بضائعهن ، أوراق العنب ، وأوراق اللسان والتين ، والجبن … ).
وفي ص 37 تقول :
(… لا أزال أحتفظ بصورة لـ (وادي الباذان) وصورة أخرى لمقهى قد بني على مرتفع ما في الطريق ، يشرف على وادي عميق ، وهذا الوادي قريب من نابلس . أذكر المدينة جيداً بنيت على عدة مرتفعات ، وأذكر مركز المدينة والاسواق الجميلة … حيث زرت قريتكم التي اشتهرت بكثرة المناشير ، حيث زاول أهلها مهمة دق الحجر وتحضيره للبناء …) .
ولأن المكان مرتبط بالأحداث التي تولد القلق للانسان لذا تراها في ص63 تكشف لنا ما يجعل هذا المكان متحرك بأحداثه وانعكاساته لولادة القلق لأصحاب القلوب المفعمة بالحب وكما في الاعمال الفدائية من خلال قولها :
(ألقي القبض على والدي وأصدقاء له بعد أن خططوا ونفذوا معاً عملية تفجير حافلة في إحدى المدن الرئيسية … أعتقل بسببها الكثير من الشباب المتورطين وغير المتورطين ، وحكم عليه حينها بالسجن المؤيد ، كما حكم علينا نحن بالنفي المؤبد…).
في روايتها هذه نجحت الروائية في خلق العديد من الشخصيات الرئيسية والثانوية كي تجسد إتجاهات وشرائح المجتمع الذي تعيش فيه ، وقد ساعدها على ذلك منصة التواصل الاجتماعي والتي من خلاله تتكون العلاقات الاجتماعية والعاطفية خلال الفترة الخصبة التي اختارتها ، وهي في الغالب تترابط عضوياً أي لا تبدو زائدة أو مقحمة .
تحشد الروائية دينا روايتها بالعديد من الحبكات والثيمات المترابطة والمتشابكة مثلما تحشدها بالعديد من الشخصيات والتي من خلالهم تدعم الحبكة الرئيسة للرواية وهي الصراع الذاتي (الذي يوَلِد القلق) كي تجعل الذاكرة متوهجة بأنماط الشخصيات الانسانية الموجودة في المجتمع وهي تترابط عضوياً من أجل كسر الرتابة في السرد وحيث الرواية تتكون من 375 صفحة .
وتسرد الكاتبة مسيرتها الى ان تصل ص56 النقطة التي سترتكز عليها لتتسلق خطها البياني لتضرب على الوتر الحساس الذي يكون من بين الأسباب لولادة القلق ، فهي تقول :
(دارت داخلي أفكار صاخبة ، البعد الجعرافي ، أنا في قارة وهو في قارة أخرى بعيدة ومن المستحيلات اللقاء ، ثم المعتقد الديني ، والطائفي والمذهبي فقد كانت المعوقات أكثر ما يتحمله عقل أو أي تفسير …) .
وفي ص58 تكشف الستار عن هذه المعتقدات فتقول :
( الحب مقابل الاستقرار في بيت الزوجية ، الحب الاول وهو الثبات، الحب معناه الالتزام ، الحب هو اقامة عائلة ، وزفة عريس ، وفرح ، وطعام وأهل … ومهر وكتب كتاب ؟ هذا هو الحب الفاني )
وتكون بهذا قد شخصت الكاتبة بعض أسباب التناقض بين القلب والقلق ..
وفي ص76 تقتحم الكاتبة المسافة التي تفصل بين القلوب والمدن القلقة لتكشف لنا من خلال رفع الغطاء الذي يلف الصراع لتقول ان السبب يكمن في التطرف الديني :
(حرب مستمرة لا نهاية لها . حرب وعرب . عرب وحرب . الكبار يخدمون العقيدة وشبابهم يتأهلون للصلاة ، والآخرون يقاتلون ، صلاة وقتل . قتل وصلاة . لا شئ آخر . صراعات لا تنتهي يا لغباوة البشرية!) .
استطاعت الكاتبة من عرض عدة صور للقلق الذي ينتاب الانسان في روايتها هذه منها ، قلق المرأة التي تتخذ قراراتها بغير ارادتها الحقيقية وبالنتيجة تندم وتقلق وتدفع ثمناً باهضا كقولها في ص80:
( خلقنا نحن النساء كي نعيش التعاسة ، فنملك أدوات نعي أنفسنا فتبدو دموعنا أحياناً كدموع التماسيح) .
وتسير العبثية بخط متوازي مع المحور الأفقي للرواية (القلق) ، فمثلا بطلتها داليا اختارت بملئ ارادتها زوجها اليهودي إلا أنها سرعان ما أرادت التخلص منه ، أحبت محمد بكل جوارحها إلا أنها
سكرت الباب في وجهه وحين تركها انتابها القلق ، كانت تشعر بحب مخفي تجاه حبيب إلا أنها لم تفسح المجال له و….
كقولها في ص113:
( … بحثت عن أسمه ، وكبست على كبسة تمنعه من التواصل معي ، كبسة جديرة بأن تعيق اتصاله بي فهكذا أتخلص منه نهائيا ، … لكن تمردي لم يطل . دخلت مجدداً . بحثت عن اسمه ، وأزلت إشارة المنع.)
لذا تراها دائما تضع إشارة المنع الى الدخول الى صفحتها ولكن سرعان ما تعود لإلغاءه … وكذلك جارتها (أم أنوار ) التي دخلت عليها لتؤنبها وتدعوها لترك الحي كونها لم تكشف لهم عن كونها يهودية إلا أنها حين وصلت باب الخروج قالت في ص292 :
( داليا ابنتي أراك بخير …)
وفي ص175 تفصح الكاتبة عن حقيقة عبثيتنا وقلقنا كوننا تائهين ولا نعرف من أي إتجاه نبدأ كما في حوارها مع العازف الضرير :
( – كم أنت جميلة يا مارلين مونرو ؟
– كيف تراني وأنت لا ترى ؟ هل تسخر منا فتتقمص شخصية الضرير؟
– إننا متشابهين!
– كيف ؟ أنا لا أفهمكَ .
– لأننا نحن الأثنين تائهين !)
وفي مكان آخر من الصفحة تقول :
( بدأت عين الحاضر تدوي وتعوي داخلي . تجردت مما أعرفه ، وتناسيت لقاء والدتي . أفرغت ذهني من تذكر الاشخاص ، لا أريد أن أتذكر أحد أعرفه . لا أحد يهمني . لن يهمني أحد بعد اليوم) .
وفي الختام : لا بد لنا ان نتساءل من جديد هل المدن هي قلقة أم القلوب ؟ فجميع شخوصها ينتابهم القلق لذا تراها تقول في ص304 :
( … جميعهم يريدون تهريب وتسريب أحلامهم الى الآخر ، اقتصدوا بأحلامهم ، جمدوا طموحاتهم، وبدؤوا يسلمونها الى الطرف البعيد ، لأنهم انتظروا كثيراً ، وانتظارهم يطول ….
وبهذا نقول تمتلك الروائية دينا سليم رؤية ناضجة في الصياغة الفنية ومنصات التعبير في الرؤية الفكرية، التي تستخلصها من خلال استدعاء الواقع الاجتماعي، وصياغته ، من خلال تجربتها في الممارسة الأدبية التي أكسبتها خبرة ومهارة في كيفية اِستخدام الأشكال السّرديّة وتقنياتها، التي تعطي القوة التّعبيريّة في طرحها وتشخيصها. كي تضفى على القارئ عمقاً إنسانياً من خلال كشف فداحة القهر الداخليّ والخارجيّ معاً والذى يعاني منه أبناء هذا الجيل الذى أُهدرت أحلامه، وتعمّق إحساسه بالخيبة والاغتراب كونه لا يزال يعيش ماضيه .