دينا سليم حنحن
– بريزبن
قبل النكبة، والأحداث في حيّ المحطة اللد.
أقام زكي في مدينة يافا، برفقة شقيقه الأرمل وشقيقته الوحيدة التي أشرفت على تربية ابن أخيها يتيم الأم، التحق بركب الموظفين في سكّة الحديد، ثم ارتقى إلى رتبة مدير واستقر في الحيّ الغربي، عندما لمس العشق شغاف قلبه، تشبّثَ بوظيفته رافضًا الانتقال إلى مدينة يافا حتى لا يبتعد عن حبيبته، لكنه واظب على إرسال راتبٍ شهريّ إلى عائلته.
عشق «مازل»، سأطلق عليها محظوظة، امرأة يهودية من جذور فلسطينية، كانت مرتبطة برجل يهودي متدين، وأنجبت منه فيوليت وليلي، عندما تعرّفت محظوظة على زكي بالصّدفة، أحبته وبدأت تخطّط لنيل حريتها من زوجها، لكن كان الرّفض التّام حليفها، فهربت واختبأت داخل بئر ومكثت داخله عدة أيام، ضاربة عرض الحائط بالرجال الذين كابدوا مشاقّ جمّة في البحث عنها، وعندما عثروا عليها، أعادوها إلى المدينة منهكة القوى ومحمولة على فرس، فرحت عائلتها بوجودها بين الأحياء، سجدوا أرضا شاكرين الله، وتعهدوا لها بمنحها الأمان.
استغلّـت مازل الفرصة لتملي شروطها، طالبت وبكل جرأة بحقها في العشق والزّواج من رجل آخر، وهجر دينها واختيار دينٍ آخر تعتنقه بإرادتها، وضعت الجميع تحت الأمر الواقع متوعدة إن حصلَ، ولم تُنَفَّذ طلباتها جميعها فستهرب إلى بلاد الشّام، وافق إخوتها على مطالبها، ووعدوا بمساندتها شريطة ألا تؤذي نفسها، وألا تهرب بعيدا، عندها ازدادت إصرارًا واستطاعت الوقوف، وبكل حزم في وجه زوجها وطالبته بالطلاق. امتنع زوجها عن تلبية طلبها، وعاملها بفظاظة وبفوقيّة، وحرّض رجال الدين، لكنها تحدّتهُ ونالت مبتغاها بمشقّة وبعد طول انتظار.
عندما بدأت محظوظة باستعدادات الزواج، صدمت بمعيقات جديدة وشروط ألزمها بها الكاهن المسؤول، طالبها بدراسة الإنجيل وعلى يديه، والاطلاع على أسس المسيحية عن قناعة وإيمان، واجتياز امتحان في مادّة اللاهوت.
حصل وانتقل زكي إلى مدينة القنطرة مصر، في مأمورية خاصة، فاضطرت مازل إلى دراسة اللغة العربية حتى تستطيع التواصل معه، أحبّت اللغة، وتبادلا رسائل الشّوق، لم يتقن زكي العبرية ورفضها، لكنه ساعدها على إتقان العربية قارئًا لها قصائد أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ثم اضطر بعد النكبة إلى دراسة العبرية كشرط أساسي للاستمرار في عمله، مدير محطة قطار اللد، في عهدة اليهود.
يقال، إنهما تبادلا الرسائل عبر الحمام الزّاجل. مع العلم، أنّ بإمكان الزّاجل ذي الفصائل الجيدة قطع مسافة ألف وخمسمائة كيلومترا.
اشترطت محظوظة على زكي قبل عقد القران، أن يتبنّى ابنتيها، وأن يعاملهما وكأنهما ابنتاه، فوافق بصدر رحب. تنقّلت البنتان بين بيتين، بيت أبيهما اليهودي وبيت زكي المسيحي، لم تنجب محظوظة أبناء من زكي، رغم أنه غلب عليه لقب ( أبو رفول )، ومع مرور الزّمن، نسيَ الناس اسمه الحقيقي.
اعتبر المحليون بيت زكي غطاس بيتًا مختلفًا، ومن الجرأة دوس عتبته، في البداية، عاصر عشقًا جريئًا، ممنوعًا وخارج نطاق الزواج، بين رجل أعزب معتنق المسيحية، وامرأة يهودية متزوجة وأمّ، ثمّ ضمّت عتبة البيت زواجًا مختلطًا، حالة غير مألوفة وخيانة وطنية لا تغتفر.
نظر العامة إلى قصة العشق نظرة ممسوسة بالاستهجان، ودربًا من دروب الخطيئة، عقلية أهل اللد محافظة جدا، وتختلف تمامًا عن عقليات سكان المدن الأخرى، في المقابل، يعد زكي من الشخصيات المحترمة جدا، رجل مثقف وشهم، خلوق وثريّ، ويتمتع بصفات مثالية ونادرة في الرجال، منها الوفاء والتضحية والاخلاص.
من وجهة نظر اليهود، اعتبرت محظوظة امرأة خائنة، خانت زوجها وأسرتها ووطنها، أقامت علاقة حميمية وغير شرعية مع رجل عربي، متناسية هويتها ووطنيتها وقوميتها، ولم تأخذ بعين الاعتبار، الصّراع القائم بين القوميتين، حتى أنها لم تساهم في تحقيق الحلم الكبير في قيام الدولة اليهودية، أمّا الرجل الذي عشقته، في أعينهم، عربيّ وعدوّ، وماكر، وقد استطاع إغواء امرأة متزوجة.
حاول والدها إقناعها بشتى الطرق، بالتراجع، وعدم المضيّ في طريق مسدودة، لكنها ضربت بالمفاهيم جميعها عرض الحائط، حين تمسكت بحبيبها وواجهت والدها وأخاها الأكبر قائلة:
– أولا، أنا أعشق هذا الرجل وأكره العيش مع زوجي، ثانيا، هذه الأرض تتسع لنا ولهم، فلماذا ترفضون هذه الفكرة؟
– حتى لو وافقنا، الوكالة اليهودية لن توافق، تضعنا على رأس القائمة السوداء! قال والدها.
– الوكالة ملتهية بقتالها ضد الإنجليز، ولن تفكر بكَ إطلاقا! أجابت.
– تضعين رؤوسنا في الوحل، وبين المطرقة والسندان، ارحمينا يا بنتي!
– هل تقصد مطرقة العصابات التي بدأت تقاتل الإنجليز حتى يخرجوا سريعا من فلسطين، أم سندان الرّبانوت والحاخمات؟ كلهم عصابات، عليكم احترام عشقي لهذا الرجل، فعشقي له يساوي عشق العالم كله!
بعد رحيل زكي، نهشت الوحدة محظوظة، وعاشت عزلة قاتلة، ولم يعد بإمكانها الصعود إلى برج الحمام والاعتناء بالطيور، طار الحمام الزاجل إلى عنوان آخر باحثًا عن قصة عشق أخرى!
آلمتها قطيعة أهل الحيّ لها، لم يطرق باب دارها أحد، تحدثت مع الدجاجات حتى تسمع صوتها الذي نسيته، واعتنت بالزّهور، وقلّمت الورد الجوري، طرق بابها الجيران في أعياد الشّعانين فقط، وتزوّدوا بالورد الجوري وخصال الريحان لتزيين الشّعانين.
ردّدت قائلة:
-ليت عيد الشعانين يأتي كل شهر حتى أرى وجوه الناس، أشتاق للنّاس، وأشتاق لزكي الذي تركني وحيدة.
تاقت محظوظة إلى لمّة أصدقاء الماضي الجميل الذين اعتادوا الاجتماع في بيتها في حياة زوجها، أمثال قريبها مسعود اليهودي، وعمل سائق قطار، وأليكس زوج أخته، أبي أسامة وأصوله من عكا، والمصري، اليافاوي وغيرهم، رتّبوا معا جلسات تسلية في الحديقة، تسلوا بلعب الورق، راهنوا على حبّات القضامة.
سافرت إلى أمريكا وأقامت مع ابنتها فيوليت، لكنها لم تطق البعاد عن المكان الذي عاشت فيه أجمل أيام حياتها، عادت عندما لجّ الشّوق قلبها، مكثت وحيدة في بيت هادئ سكنه الفراغ القاتل.
ترك شقيقها مسعود الحيّ وانتقل للمعيش في مستعمرة يهودية، منذ انتقاله إليها، تبدّلت أطباعه وتغيّرت آراؤه بالنسبة للقضية الفلسطينية، نسيَ الصحبة واللمة وساعات المؤانسة والصداقة، تشاجرت محظوظة معه ولامته على مواقفه العنصرية، فتنكّر لها نهائيا. بعد سنوات، انتقلت ابنتها ليلي مع أسرتها أيضا من حيّ المحطة أسوة بالآخرين.
بعد وفاة والدها وإخوتها وجدت محظوظة نفسها وحيدة تماما، كانت تنتظر ساعات المساء بشوق، وكالعادة تصغي إلى الموسيقى المتسربة من بيت الجيران، جارتها ليلى كانت تعيد إليها الحياة كلما عزفت على البيانو، ابنة جورج ونجلاء الأسمر، شقيقة الدكتور فوزي الأسمر، محظوظة كانت تؤنسها موسيقى المساء، الشيء الوحيد الذي يربطها بالعالم الخارجي، وكلما رافقها الحزن وتوغّل بها الشّجن، بكت وهي تُقلّب ألبوم الصور القديم.
بين الحين والآخر، تفقدتها الجارة اليهودية، يردينا وابنتاها، عانات وسارة، نزحت الأخيرة من مصر في الثلاثينات، عمل زوجها في سكّة الحديد ثم توفي بعد النكبة مباشرة، تفقدت يردينا أيضا، جارتها المسنة أم يوسف القبطية، نزحت الأخيرة من مصر مع زوجها الذي عمل في بوفيه القطارات السّريعة، بعد النكبة ووفاة زوجها، باعت أم يوسف البليلة والترمس في فتحة دارها لأطفال الحيّ.
توفيت محظوظة بعد رحيل زوجها بسبع سنوات أمضتها بالتحسّر على أيام جميلة قضتها في الحيّ الرّاقي، المتشكل من فيلات كبيرة بحدائق مشجرة وأسوار خشبية منمقة.
فصل من كتابي ( ما دوّنه الغبار) إصدار مكتبة كل شيء 2021