كتب غسان نخول
في هاريس بارك ضجة، قلقٌ عارم وأعصاب مشدودة. والمشكلة مشروع بناء ضخم لا يشبه تلك الناحية الوادعة والتاريخية من مدينة باراماتا المترامية الأطراف والمتجددة. والأمور مفتوحة على احتمالات عدة، فيما كُشف النقاب عن انتهاء صلاحية شهادة استيفاء الشروط البيئية اللازمة للبناء.
وتتوالى ردود الفعل الشعبية والرسمية على المشروع الذي يهدف إلى بناء مئات الشقق السكنية مكان معمل قديم ومهجور لصنع الأدوية. ويقع المشروع بالقرب من كاتدرائية سيدة لبنان، وفي قلب منطقة تضم ثلاثة معالم تراثية من أبرز ما بقي من تاريخ الاستيطان الأبيض في أستراليا.
ويبلغ عدد الشقق السكنية المقترح بناؤها في هذا المشروع 483 شقة، فيما يتألف البناء من أجزاء عدة ومختلفة الارتفاع يصل الجزء الأعلى منها إلى ثمانية طوابق. وبلغة الأمتار، يناهز ارتفاع البناء المؤلف من ثمانية طوابق الـ 28 متراً، وهو خرق فاضح لقوانين ارتفاع الأبنية في منطقة بلدية باراماتا والذي يصل إلى 9 أمتار. والملاحظ أن الجزء الأعلى من المشروع يقع في جهة الكاتدرائية التي تبدو بحسب المجسمات وكأنها ستكون ملاصقة للطوابق العليا للبناء المقترح.
وقد تداعى سكّان المنازل المحاذية للمشروع الى لقاء عقد في قاعة رعيّة سيدة لبنان، شارك فيه راعي الأبرشية المارونية في أستراليا ونيوزيلندا وأوقيانيا المطران أنطوان-شربل طربيه، ورئيسة بلدية باراماتا دونا ديفيز، وعدد من أعضاء المجلس البلدي، ومسؤولون عن منظمات وجهات أسترالية تعنى بالتراث، بالإضافة إلى حشد كبير من الساكنين في المنطقة. هدف الندوة مناقشة المشروع بختلف جوانبه وكُتب الاعتراض المرفوعة ضده والخطوات المطلوبة لإسقاطه.
خلال الندوة، أعرب المطران طربيه عن قلقه من المشروع لا سيما لجهة تسببه باكتظاظ المحلة وتأثيره على معالمها. وأوضح أن رعية سيدة لبنان تخدم نحو 40 ألف نسمة، منهم أكثر من 10 آلاف يواظبون أسبوعياً على القداسات التي يبلغ عددها 22 قداساً في الأسبوع، عدا عن مراسم الأعراس والعمادات والدفن والجنازات والأعياد والمناسبات الكبرى. يضاف إلى ذلك، وجود مدرسة في المحلة لراهبات العائلة المقدسة المارونيات، ودار لرعاية الأطفال في القاعة السفلى للكاتدرائية، ومركز جديد لرعاية المسنين تم بناؤه حديثاً.
من جهتها أشارت رئيسة بلدية باراماتا دونا ديفيز في كلمة لها خلال الندوة إلى أن معظم القلق يدور حول عدم وجود علاقة بين المشروع ومحيطه، مؤكدة أن المسألة ستكون طويلة وأن الحلول لن تكون سريعة. لكنها أعلنت أن البلدية لن تسكت عن محاولات تغيير الطابع التراثي لهاريس بارك.
وقد سجلت البلدية اعتراضها الشديد على المشروع في كتاب رفعته إلى دائرة التخطيط التابعة لحكومة نيو ساوث ويلز، المسؤولة عن منح الرخصة لأعمال البناء. وبحسب قوانين الولاية، يمكن لمقاولي الأبنية الكبيرة تجاوز البلدية وتقديم طلب الرخصة لمشاريعهم إلى دائرة التخطيط مباشرة بدلاً من البلدية.
نصف الشقق المقترح بناؤها في المشروع الجديد يدخل ضمن خطة حكومة نيو ساوث ويلز لتوفير مساكن بإيجارات ميسّرة. وهذه الخطة الحكومية تشبه خطة المساكن الشعبية لكن قاعدة المستفيدين منها أوسع إذ تشمل مجموعة كبيرة من أصحاب المداخيل التي تترواح بين المنخفضة والمتوسطة. من أهم التسهيلات التي توفرها هذه الخطة الحكومية تأمين مساكن بإيجارات طويلة الأمد لا تتعدى دفعتها ثلاثين في المئة من دخل العائلة.
لكنّ السيدة ديفيز أشارت إلى أن باراماتا ليست مقصرة في توفير مثل هذه المساكن، لا بل أن بلديتها تخطت المعدل المطلوب منها وهي في رأس قائمة بلديات نيو ساوث ويلز التي تقدم مثل هذه التسهيلات لسكانها.
من جهته، أكد المطران طربيه أنه ليس ضد توفير مساكن بإيجارات ميسّرة، لا بل هو يدعم اي مشروع لاقامة هذا النوع من المساكن، لكنَّ حلَّ مشكلة ما، لا يكون بخلق مشكلات جديدة. وأعرب عن قلقه الكبير من التداعيات الاجتماعية والبيئية السلبية للمشروع على المحلة، مطالباً بتخطيط أكثر انسجاماً مع المنطقة.
وبالإضافة إلى كاتدرائية سيدة لبنان، يقع المشروع المقترح بناؤه في شارع غريغوري وسط ثلاثة من أبرز المعالم التراثية والتاريخية في أستراليا وهي: إليزابث فارم (Elizabeth Fam) الذي شُيّد في العام 1793، هامبلدن كوتدج (Hambledon Cottage) الذي انتهت أعمال بنائه في العام 1825، وأكسبيريمنت فارم (Experiment Farm) الذي بُني في العام 1834.
إليزابث فارم هو أقدم منزل لا يزال قائماً في أستراليا منذ الأيام الأولى للاستيطان الأوروبي في هذه البلاد. وكان المنزل مزرعة لتربية الأغنام ويُعتبر منشأ قطاع الصوف في أستراليا. أما هامبلدن كوتدج فقد بُني لدعم حاجات إليزابث فارم الذي كان يسكنه جون وإليزابث ماكارثر، رائدا صناعة الصوف في أستراليا. وأكسبيريمنت فارم شُيّد لاختبار مدى القدرة على الاكتفاء الذاتي بانتاج محلي لحاجات سكان المستوطنة الأوروبية الناشئة في أستراليا آنذاك، وتخفيف الاعتماد على التموين البريطاني والذي كان يتم عبر سفن تستغرق رحلاتها بضعة أشهر قبل الوصول إلى أستراليا.
السيدة ديفيز كشفت أن شدة الاعتراض الذي قدمته البلدية نادر لأنه يشمل المشروع برمته وليس نقاطاً منه فقط، فيما أكد المطران طربيه أن المشروع المقترح، بصيغته الحالية، «غير متجانس مع مجتمعنا الكنسي، وغير متجانس مع التراث الوطني، وغير متجانس مع مجتمع المدرسة ومركز رعاية المسنين».
وقد بلغ عدد كتب الاعتراض المرفوعة إلى دائرة التخطيط 104. فبالإضافة إلى بلدية باراماتا، اعترضت أيضاً الهيئات الثلاث المسؤولة عن إدارة وصيانة المواقع الأثرية الثلاثة على المشروع وهي: هيئة المتاحف الحية في سيدني
(Sydney Living Museums)
التي تدير إليزابث فارم، وجمعية باراماتا والمنطقة التاريخية
(Parramatta and District Historical Society)
التي تدير هامبلدن كوتدج، والوصي الوطني
(National Trust) المسؤول عن أكسبيريمنت فارم.
بالإضافة إلى كل هذه الجهات، والجهات المئة الأخرى المعترضة، رفعت أيضاً كاتدرائية سيدة لبنان اعتراضها الخاص إلى الدائرة. ومما جاء في اعتراض الكاتدرائية، قلق فعلي من انتهاك الخصوصية على كل الأصعدة، تأثير البناء المقترح على حرية العبادة، حركة السير الكبيرة التي ستؤثر على الكاتدرائية والمدرسة، ومخاوف على سلامة أطفال المدرسة ودار الرعاية.
أما بلدية باراماتا فقد نظّمت اعتراضها ضمن تسع نقاط منها عدم التزام المشروع بسياسة البلدية الخاصة بالمناطق المعرّضة للفيضان، عدم انسجام المشروع مع بيئته التراثية والتاريخية، تجاهل الأبعاد الأثرية للموقع، عدم التزام المشروع بسياسة ارتفاع الأبنية المحددة من قبل البلدية، المواقف المقترحة للسيّارات لسكان البناء، المخاطر على حركة السير، وعدم تراجع البناء بما فيه الكفاية عن الحدود.
وبالإضافة إلى الآثار السلبية على المرافق التراثية والبنى التحتية التي فنّدتها البلدية، أثارت جمعية باراماتا والمنطقة التاريخية في كتاب اعتراضها الرسمي على المشروع قضية الأمن المطلوب لسكان الشقق الذين سيتجاوز عددهم الألف، خصوصاً الأطفال منهم، وأمن الزوار. وأعربت الجمعية عن مخاوفها على السكان المحليين أيضاً خلال عملية هدم المصانع القديمة والتلوث الذي ستسببه مادة الأسبستوس المحظورة والتي كانت مستخدمة بشكل واسع في الأبنية القديمة.
الرئيس الأسبق لبلدية باراماتا طوني عيسى الذي شارك في الندوة اقترح على رئيسة البلدية السيدة ديفيز الطلب من حكومة نيو ساوث ويلز أن تضع يدها على الموقع بحكم أهميته التاريخية والبيئية من خلال تدبير قانوني يُعرف بالاستحواذا الإلزامي للأراضي
(Compulsory Acquisition)،
على أن يتم بعد ذلك إعداد مشروع أكثر انسجاماً مع النسيج التراثي للمنطقة ليحل مكان مصنع الأدوية القديم.
ومن المقرر أن تلتقي رئيسة البلدية وزير التخطيط في حكومة نيو ساوث ويلز أنتوني روبرتس قريباً. لكنها أشارت، في دردشة معها على هامش الندوة، إلى أنها غير متأكدة من إمكانية إثارة هذا الموضوع معه لأن اجتماعها بالوزير مخصص لقضايا أخرى. في أيّ حال، طلبت البلدية عقد اجتماع رسمي بين المسؤول عن التخطيط في الدائرة ورئيسة قسم التخطيط في البلدية جنيفر كوكاتو التي شاركت في ندوة سيدة لبنان. وحتى تاريخ الندوة، لم تكن السيدة كوكاتو قد تلقت جواباً من الدائرة.
ونظراً إلى حجم الاحتجاجات وشدتها، لم يعد القرار بيد دائرة التخطيط، بل بيد الهيئة المستقلة للتخطيط التي تبحث حالياً في كل الاعتراضات الواردة ضد المشروع، على أن تطلب من الشركة التي تقدمت بالمشروع الرد على النقاط المثارة من قبل المعترضين.
وخلال الندوة كُشف النقاب عن أن شهادة استيفاء الشروط البيئية اللازمة من قبل المشروع والمعروفة باسم
Certificate of Site Compatibility،
منتهية الصلاحية. مدة صلاحية هذه الشهادة خمس سنوات وقد انتهت في25 كانون الثاني الماضي. وأوضحت خبيرة في الشؤون البلدية طلبت عدم ذكر اسمها أن انتهاء صلاحية الشهادة يعني حكماً سقوط المشروع بفعل مرور الزمن. وعندما استفسرنا منها عمّا إذا كان عامل مرور الزمن يُعتبر قائماً طالما أن المشروع قُدّم خلال صلاحية الشهادة، أوضحت الخبيرة أن فترة السنوات الخمس هي فترة طويلة وسخية وتُمنح على أساس أن يكون المشروع قد اجتاز كل المراحل المثيرة للجدل وبدأ تنفيذه على الأرض قبل انتهاء صلاحية الشهادة.
ويبدو أن بلدية باراماتا لم تكن منتبهة إلى هذه النقطة، أي نفاد صلاحية الشهادة. وقد أثرنا الأمر مع رئيسة البلدية في دردشتنا الجانبية معها، فقالت إن بلديتها ستطلب استشارة قانونية بشأن هذه النقطة بالذات وتتصرف بمقتضى النصيحة التي تتلقاها.
والمشروع تابع لشركة مقاولات وبناء تحمل اسم الشارع الذي يقع فيه البناء المقترح وهو تو آي غريغوري بلايس بي تي واي ليمتد
(2a Gregory Place Pty Ltd)،
وهي شركة قابضة تضم عدداً من الشركات المحلية منها هولمارك للبناء (Hallmark Construction) ورعد كورب (Raadcorp). والشركة المسؤولة عن تقديم المساكن الميسّرة للمستأجرين من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط هي شركة باسيفيك للإسكان المجتمعي (Pacific Community Housing) والتي يديرها ماثيو دانيال.
وقد اتصلنا هاتفياً وعبر البريد الإلكتروني بمكتب السيد دانيال للوقوف على رأيه من هذه القضية لكننا لم نتلقّ جواباً منه.