عقل العويط
غاب الشاعر محمد علي شمس الدين أمس الأحد (1942 – 2022)، مجلَّلًا بموكب دواوينه ومضفورًا بقصائده. مشوارُ عودة التلميذ الوفيّ لحافظ الشيرازيّ هذا، إلى بيت ياحون، إلى جبل عامل، يصعب أنْ يكون بلا أثر، بل يصعب أنْ يُطوى على استعجال. سيمضي وقتُ طويلٌ قبل أنْ تفكّ الأشعار والأغاني حدادها عليه. هي لن تنساه، ولن تُحِلّ أحدًا محلّه. على كلّ حال، لا أحد يلغي أحدًا، ولا أحد يأخذ مكان أحد، أو يأخذ من درب أحد. للآخرين أمكنتهم، ولمحمد علي مكانه، ولن يُخشى على المكانة، ولا على المكان.
في بيروت، وفي سواها من عواصم العرب، ينبغي لغنائه الشجيّ أنْ يطلّ ليلاقيه، ويحتفي به، كما ينبغي له أنْ يتبارى، أنْ يصدح، وأنْ تتردّد أنغامه وقوافيه، لتُوافي المآذنَ وزغردات النساء وموسيقات الحفيف والرفيف وتأوّهات الشجر والنسيم والينابيع والغيوم والنجوم، في أوركسترا الرثاء والمهابة، تحيّةً للشاعر، وتكريمًا للغياب.
يعود أميرال الطيور، يعود محمد علي إلى بيته، إلى بيت ياحون، شاعرًا للجنوب، لشعبه، لأرضه، لشتلة التبغ، للجبل العامليّ الأثير، وللعامليّين، مؤثرًا الانضمام إلى قصائده المهرّبة إلى حبيبته آسيا، إلى الغيوم المهداة إلى أحلام ملكه المخلوع، إلى حيث ينادي ملكه وحبيبه، إلى شوكته النفسجيّة، إلى منازل النرد، حيث ممالكه العالية، حيث رياحه الحجريّة، وحيث كتاب الطواف، وحيث الشيرازيّات، وحيث حيث، تلك الغيوم التي في الضواحي، وحيث الغرباء قي مكانهم، وحيث اليأس، اليأس من الوردة، وما يلي اليأس، وخصوصًا عندما يحين الوقت، فينزل النازلون على الريح، ويتوقّف الراقص قسرًا عن الرقص، وعلى مضض، إيذانًا بالوصول إلى المجموعة الكاملة، تمهيدًا لسدل الستار، لمعانقة التراب، حيث تنتظره وحيدةً شمسُهُ المرّةُ التي لن يكحّل عينيه الخضراوَين الزرقاوَين البهيّتَين برؤيتها للمرّة الأخيرة.
محمد علي شمس الدين هو شاعر الجنوب إسمًا على مسمّى، وحقًّا، وعن جدارة. لكنّه أكثر. فهو شاعرٌ شاعرٌ، وبالنرجسيّة العالية من غير مواربةٍ أو تواضع، وبالمناحات الكربلائيّة، وبالموهبة والسجيّة، وبالقدرة على الخلق والرؤية والرؤيا والترميز والمؤانسة والتعشيق والتهجين والمؤالفة والمزاوجة. وهو متمكّنٌ من التراث، من الدين، من الإيمان، من الحسّ الفجائعيّ، من رمزيّة الشهادة والاستشهاد. وهو متضلّعٌ من الإيقاع، من الموسيقى، من الشجو، من النبر، وهو حافظٌ للإرث، ومُحَدِّثٌ له، ومُلَيِّنٌ، ومُمَوسِقٌ، ومُعتنٍ بالصوَر، بالجماليّة، بالبناء، بالعمارة، بالتشييد، ومتمسّكٌ بالأصول، لكنْ عاكفًا على فكّ أسرها، ومُطلِقًا إيّاها في الفضاء، في التنويع، في التجويد، في الغناء، في الاغتناء، في الحرّيّة. وهو نحّاتٌ وصقّالٌ وحرّيفٌ ومحترفٌ، وعارفٌ بالترهيف الأهيف الممشوق، غاسلٌ #شعرَه بالماء الفجريّ السلسبيل، ومُلوِّنٌ إيّاه بالتجارب بالأخرى، بالحداثات، ومطلٌّ عليها، ومؤاخيًا إيّاها، وشاعرٌ بالثقافات الأجنبيّة ولا سيّما الفرنسيّة، لكنْ من دون أنْ يضطرّ إلى التخلّي، إلى الاستقالة، إلى الاغتراب، إلى التغريب، أو إلى أنْ يزيح بوصةً واحدةً عن ملعبه الشعريّ الجمّ، عن الصوفيّة، عن الغزل الصوفيّ، عن معين الشعر العربيّ والإسلاميّ، الذي صال فيه وجال، مرارًا وتكرارًا، باحثًا، ومجرِّبًا، ومختبرًا، لعوبًا ملاعِبًا ومتلاعبًا، غارفًا على وجه الخصوص من إرثه الشيعيّ، ومهجوسًا به على الدوام، مناديًا به (وبالشيعيّة السياسيّة) من على المنابر، وحيث يجد ذلك مناسبًا، من دون أنْ يشعر بكللٍ أو بمللٍ، ولا بمراوحة.
«الحبر ليس أعمى»، يا محمد علي. أنتَ، ولا بدّ، تذكر هذه القصيدة جيّدًا. تقول فيها: «سألتُ صاحبي/ وكان مثلي ينحني على الورق/ أما سئمتَ الانحناء؟/ فقال: في انحناءتي أرى السماء».
الآن تنحني هامتكَ، أيّها الشاعر الكبير، يا أخي، وفي انحناءتها ترى السماء!