جبريل سعيد رينولدز اسم لامع بين مؤرخي الأديان ومن ابرز الكتّاب والمتخصصين الأمريكيين في الدراسات القرآنية ، وهو أستاذ قسم اللاهوت في جامعة نوتردام ،وكان قد حاضر في اكثر من جامعة في اوربا والشرق الأوسط وشمال افريقيا …
يتحدث في كتابه « الله في القرآن» عن الله الذي هو محور القرآن ، وعلاقته مع البشرية من المؤمنين وجاحدين دفاعاً او ادانة ، رحمة او انتقاماً ، من خلال الخصائص البلاغية واللغوية والسياقات القرآنية ؛ في محاولة لفهم الله في القرآن ضمن النسق التاريخي الذي كُتِبَ فيه النص ، مقارنةً بالسياقات التوراتية للعديد من الروايات القرآنية او القصص القرآني بالتحديد لتوظيفها وإعادة تشكيلها وفق متطلبات البيئة العربية في الجزيرة في القرن السابع الميلادي
وقراءة سريعة لهذا الكتاب قد تساعد في رسم تصور عن اله القرآن بأفق ابعد يتعدى نصوص القرآن ليصل الى اله الأديان الكبرى يهودية ومسيحية واسلامية والنظر اليه من خلال نصوص الكتاب المقدس بشقيه اليهودي والمسيحي ومن خلال القرآن ايضاَ، لتكون الرؤية واضحة لصورة كبيرة للإله من خارج القرآن .
الإشكالية الكبيرة التي يواجهها رينولدز في دراسته لإله القرآن والتي اخذت حيزاً كبيراَ من كتابه هي جدلية العلاقة الكامنة بين الرحمة والانتقام والتي لا يمكن حلّها على ضوء القرآن ، والاستعانة بالتفاسير يزيد الطين بله، فهناك انتصار لطرف على آخر ، وهناك من يرجح الله الرحيم العطوف على المنتقم وبالعكس كما هو الحال في بقية الموضوعات المطروحة في القرآن ، وباب التأويل مفتوح على مصراعيه لإثبات أحقيّة ما جاء في القرآن ولو على حساب التصوّر العقلي للإله ، وهنا تثار مجموعة من الأسئلة والمناقشات المتأرجحة دون جواب يُذكر حول علاقة الله مع البشر ، برحمة وانتقام وبجنة وجحيم ابديين ، ثم هذه الجنة موقوفة على المسلمين خاصة ام مباحة لغيرهم … أسئلة مطروحة على القرآن تشترك بذات المضمون مع اللاهوت المسيحي .
وقبل استخلاص النتيجة يعرض رينولدز جملة من آراء المتكلمين واجاباتهم حول تلك الأسئلة التي هي مثال للجدل اصلاً في الدائرة الإسلامية كأبي حامد الغزالي القائل بأن « أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة».
مسالة الانتقام في آيات القرآن ترسم تصوراً لدى المؤلف بأن اله القرآن لم يكن قاض محايد او مخلًص ، وانما يعمل بالضد من بعض البشر في هذه الحياة لصدهم عن الهداية ومنعهم انقاد انفسهم ، هذه الفكرة يدعمها بسرد نصوص من القرآن تصوًر الله وكانه يحتال على الناس ويتآمر للوقيعة بهم ولإبعادهم عن الهداية وايقاعهم في الضلال ، مثال ذلك الآية :
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
يُستخلص من مجموع الآيات ونصوص الكتاب المقدس يهودياُ ومسيحياً « ان الله هو الله في تلك النصوص قاض دون رحمة ذي انتقام « ، مع اختلاف وتمايز بين تلك النصوص ؛ باعتبار ان تلك الاوصاف تشكّل جزء صفات الله في الكتاب المقدس ، وكونها صفات ذات معنى مركزي في فهم الله في القرآن .
يقول رينولدز : الله في القرآن – ان اردنا تلخيصه في جملة واحدة – مجسّم للغاية في استجابته لسلوك متباين .
مناقشة وأثارة :
الله بصفاته الإنسانية هل هو مجسم للغاية في استجابته لسلوك متباين بين الرحمة والانتقام كما يصفه رينولدز وكما هي صفاته الفعلية في عديد من آي القرآن ؟
او ان الصفات الإنسانية ماهي الا إشارات تسامحية مجازية الى الله الذي ليس كمثله شيء ؟
ثم الصراع الكلامي حول صفات الله واثباتها كما هي، او تأويلها بما يتناسب والاحكام العقلية هل المراد به الانتصار لاله القرآن كيفما كان ومهما كلف الامر ؟
او ان اثباتها يؤسس للحقيقة الدينية والتشريعات الإسلامية ؟
الجواب قد يتجاوز البحث الاستقرائي بحثاَ عن الله في منطوق القرآن ، وقد يتجاوز البحث الكلامي والجدل العقيم ، بل يتجاوز الظرف المكاني والزماني وبيئة النزول برمتها، هناك تُشاهد صورة لله مغايرة تماما عما هي مرسومة في المتون الدينية ، هي صورة ناصعة يراها من خَبُر التجارب الدينية وتجاوز القراءة الرسمية للدين اشعرية و عدلية .
بلحاظ الظهور الزماني قد يبدوا الله مجسما ومتشخصاَ بحسب الظروف والاحوال لكن بحسب القراءة التي تصور متن القرآن بمثابة فهم روائي ، وتجربة رائدة للفهم الديني هنا يبدو فيها الله محددا في البدء لكن وبالتدريج وعند فهم القرآن كتجربة وفهم للمرويات يختفي معها الله من افق المحدودية وتعم انواره غير المحدودة وتحل محل الله المحدود . في هذه الحالة وفي مرحلة الانتقال من موقع الراوي الى موقع فهم المرويات يختفي الزمان بالتدريج ، وتصبح رواية الراوي في ماضي الخلود وتتحول الى رواية كل انسان وفي كل العصور
في بدء الفهم الروائي للقرآن قارئ القرآن بحاجة الى الله المتشخص ، لكن بتطور هذا الفهم يتحول الله المتشخص الى اله غير متشخص يأخذ محله ويقوم مقامه ؛ لان القرآن يشتمل على افق مفهومي للإله ارفع من كونه الها محدوداَ . اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ
لكن هذه لغة سامية قد لا تتسنى لمستقرئ القرآن وهو يكتب عن اله القرآن للمتلقي الغربي كالبرفسور رينولدز .
لكن في مجمل مخرجات رينولدز عن اله القرآن بلحاظ صفاته البشرية التي تلوَن لوحة الله في التصوير القرآني ، هي مشاهداته للوحة لا تخفي الوان الله كما يراها رينولدز ونراها نحن ايضاً، وهي ذات الألوان التي ابهرت المسلمون في القرون الأولى قبل غيرهم وجعلتهم في حيرة من امرهم ، وفي نهاية الامر كانت سبباَ في شحذ عقول بعض واتقادها لإيجاد تأويل يتناسب مع جلالة اسم الله ، في قبال من سلّم الامر لظاهر تلك الصفات تاركاَ عقله وراء ظهره ، و الغلبة كانت من نصيبه في أجواء غياب العقل وهيمنة السلطة
لا فاعل في الوجود الا الله ولا تأثير في الكون سوى تأثيره ولا فعل إنساني يقع في الواقع الا بإرادته ومشيئته وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ، أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ. أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ .
اذن اين قوانين العلّية والسببية ؟
اله القرآن هو السبب للمسببات وهو علة العلل ، ولا وجود لقانون العلّية ولا السببية ولاهم يحزنون ، وعليه بنى المتكلمون الاشاعرة اعتقاداتهم ونفوا شيئاً اسمه العلية ، ومن يقول بالعلّية يوصف بالشناعة كما ينقل ابن ميمون ويكتفي بالوصف ولم يذكر من هو القائل بالعلية المرتكب عملا شنيعا منحرفاً عن الخط القرآني .
وما يقال عن السببية والعلية ما هي الا مجرد أوهام لا تصمد امام التأثير الإلهي في الحوادث ، وكما يقول أبو حامد الغزالي :
« الإقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً ليس ضرورياً عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمناً لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر.
ولا شيْ في الوجود الا وهو خاضع لارادة الله ، والانسان بحسب المفهوم القرآني والاستدلال الكلامي تابع للإرادة الإلهية حتى افعاله التي تصدر عنه متوقفة على ما يحدثه الله فيه من دواع للافعال …
هكذا يتحدث مفسري القرآن والكلاميين ممن اعلنوا الوفاء لاله القرآن كما هو هو ، وكما وصف نفسه في كتابه دون مدخلية من قوى خارجة عن الكتاب من عقل او نقل ؛ ولو اٌستعين بهما احياناً فهو لإثبات ما جاء في الكتاب بكل الأحوال ، كما هو منهج ابن تيمية في الاستدلال العقلي على صفات الله ودورانها بين الاثبات والعدم ؛ فأن لم تقل بإثبات تلك الصفات له فهو فاقد لها، والنافون للصفات بنظر ابن تيمية مشككون بقدرة الله .
والخط الاشعري بقول مطلق متمسكين بمحورية الله كأساس للتفسير القرآني للكون ، ولا يوجد تفسير آخر من سببية او علّية ، بل يهربون من تسمية العلة والسبب ويفضلون تسمية الفاعل ، ويظنون ان فرقاً عظيما بين مقولة سبب وعلة ومقولة فاعل … يقولها ابن ميمون تهكماً بهم .
الانسان بعين الاشعري مجرد أداة بين أصابع الرحمان عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَىْءٍۢ ان شاء ادخله الجنة وان شاء رماه في الدرك الأسفل من الجحيم اساء ام احسن ؛ لان افعاله مرهونة بإرادة الله المالك الحقيقي ، وله حق التصرف المطلق بملكه ، بالضبط كالمولى العرفي المالك لعبده ان شاء اكرمه ونعّمه وان شاء اهانه.
في الضفة الأخرى حيث الفلاسفة والمتكلمون العقلانيون كابن رشد وابن ميمون يرون ان انكار مبدأ العلًية مساو لإنكار ان يكون للأشياء طبيعة ، وان الاشعري بمقولته هذه ينكر فعل القوى الطبيعية التي اودعها الله في المخلوقات ، وابن خلدون ايضاً يرى انهم بمقولتهم ينسفون الطبيعة برمتها .
بحسب المرتكزات الفكرية الناتجة من تراكم معطيات العلوم الطبيعية قد ترمي الخط الاشعري في سلّة السذاجة بل حتى الميل العقلي نحو الأسباب والمسببات قد يًنظر اليه وكأنه بديهي وضروري ومن نوافل القول النقاش في البديهيات ، وهو كذلك ، الا ان مقتضى الانصاف في ميزان حكومة العقل ان نعطي الامتياز لابي حامد الغزالي والخط الاشعري بعمومه على حساب ابن رشد وابن
ميمون والنظّام والخط الإعتزالي ككل ، لان الغزالي ورهطه اكثر وفاءاً لإله القرآن من العقلانيين فلاسفة ومتكلمين ؛ اذا ما قصرنا النظر على الرؤية الكونية القرآنية وكيفية تسيير الكون من قبل قوة مهيمنة واحدة وهي الله ، من دون الدخول في مقدمات فلسفية وتأويلات عقلية .
كيف لهؤلاء العقلانيين ان يقرأوا آية انشقاق القمر ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ ، او رمي إبراهيم في النار قُلْنَا يَٰانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ ، وكل المعجزات الخارقة للطبيعة التي اثبتها القرآن لأنبيائه من احياء الموتي وقلب العصا ثعبان وما الى ذلك … سوى التأويل او النفي لمن يمتلك الجرأة على النفي كالنظّام مثلا . .
وكيف يقرأون آيات سبق التقدير الإلهي والمدانَين المصرح والمشار بأسمائهما كأبي لهب و الوليد بن المغيرة ، وآية الآجال كقوله وقَضَىٰٓ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ، وبقية آيات تقدير الآجال والارزاق