رغيد النحّاس

تُقاطع الناظرة صفّ السنة الأولى ابتدائي، وتطلب إلى المعلّمة أن تسمح للطالب شامي مغادرة الصفّ لمدّة ربع ساعة.
​شامي، الذي سيبلغ السابعة بعد أسبوعين، يقف حين تناديه المعلّمة، ويتبع الناظرة التي تمسك يده. تأخذه خارج الصفّ، وعبر ممرّ في الطبقة الأولى، إلى درج من الحجر الأسود، نزولًا إلى باحّة المدرسة حيث يقفان أخيرًا أمام غرفة الحضانة. الأطفال في هذه الغرفة هم في سنّ السادسة عمومًا. وبعضهم من الأصدقاء المقرّبين إلى شامي، أو على الأقل أهلهم أصدقاء أهله.
​قبل دخول الغرفة، تشرح الناظرة لشامي أنّه الآن سيختار من بين الأطفال من يريد دعوتهم لحفل عيد ميلاده. لم تكن لشامي أيّ فكرة كيف سيقوم بهذه المهمّة. ولم يفكّر أبدًا بأيّ إجراء مناسب، مثلًا كأن يعطي الناظرة الأسماء التي يريد. الذي حدث فعلًا جاء صدمة قويّة بقي تأثيرها على شامي مدى الحياة. وهو من الأمور النادرة التي يتذكّرها بوضوح من أيّام طفولته، بل لعلّها من أهمّ الحوادث التي ساهمت في تكوين شخصيّته والقيم التي يحملها. والآن يعتزّ شامي بأنّ ردّة فعله تجاه هذا الأمر كانت كيف كانت، وهو في ذلك العمر الغضّ.
​يدخلان الغرفة. مجموعة من حوالي دزّينة من الأطفال تجلس حول طاولة خشبيّة، بيضويّة، بنّية اللون وسط الغرفة. مجموعتان أخريان من الأطفال، أقلّ عددًا، جلست كلّ واحدة حول طاولة مستديرة، في زاوية من زوايا الغرفة. المعلّمة تأمر الأطفال بالوقوف تحيّة للناظرة. «صباح الخير آنستي»، يردّد الأطفال، ليس تمامًا بصوت واحد.
​عندما يعود الأطفال إلى الجلوس من جديد، تحمل الناظرة شامي، وتضعه فوق الطاولة المركزيّة، ثم تسأله بصوت مرتفع أن يقوم باختيار من يريد دعوتهم إلى بيته. يصاب شامي بهلع شديد، وحرج مديد. يتمنّى شامي أن تنشقّ الأرض فتبتلعه خجلًا من أولئك الذين لن يدعوهم. يعرف تمامًا أنّ هذا الأسلوب مغلوط، وأن الدعوة كان يجب أن تتمّ بطريقة أخرى. كان مدركًا لذلك تمامًا رغم صغر سنّه. يشعر بالعجز. يشير بيده إلى طفل ويلفظ اسمه، كما أتته أوامر الناظرة. يختار بعض الأطفال متجنّبًا النظر في وجوه الآخرين. يهرع للقفز من الطاولة، والركض نحو الباب. يريد الاختباء من عيون الأطفال الذين جرح مشاعرهم.
حفل عيد ميلاده السابع سيكون أوّل وآخر حفل يقيمه له والداه. عندما يفكّر الآن بالسبب، لا يجد الجواب. طبعًا الرقم سبعة مميّز تقليديًّا: سبعة أيّام الخلق، عجائب الدنيا السبع، سبع سموات … وهو أيضًا العمر الذي يبدأ الأطفال فيه الدراسة الابتدائيّة.
​يتذكّر ذلك الحفل بأدقّ تفاصيله، أكثر من أيّ بهجة أخرى من أيّام طفولته. هذه الذكريات تأتيه واضحة كمشاهد من صور ساكنة، لا كتسجيلات فيديو متحرّكة. هل هذا سببٌ في تفضيله، الآن، تصوير اللقطات الساكنة عن تسجيلات الفيديو؟
​واحد من تلك المشاهد الملحّة هو مديرة المدرسة تجلس في صدر غرفة الاستقبال في منزل شامي أثناء الحفل. المديرة عانس، بدينة، وقصيرة القامة. ملامح وجهها حادّة، بعينين زرقاوين ثاقبتين، رغم نظّاراتها السميكة. ولربّما كانت الآن في أكثر حالات مزاجها استرخاءً، بيد أنّ مظهرها الصارم لا زال يحافظ على كلّ مقوّماته. حين يخاطبها الحضور، هي «وداد خانم». حتّى حين يخاطبها أقرب الأصدقاء إليها. مع العلم أنّه في ذلك الوقت كان الناس يتخاطبون بطريقة شبه رسميّة، و»ست» تسبق الاسم المخاطب حتّى بين الصديقات. أمّا حين تُخاطب المديرة وداد، يرتفع المصطلح إلى مراتب أعلى! سلطتها تتجاوز تلاميذاتها إلى أهلهن، خصوصًا أمّهاتهن.
​صوت وداد خانم قويّ، ولكن لا يمكن وصفه على أنّه مدوٍّ. وهو صوت مميّز، لا يمكن خلطه مع أيّ صوت آخر. أولئك اللاتي يصلن إلى الحفل، ولا يعلمن أنّها وصلت، يخفضن من أصواتهن لمجرد سماعهن صوتها، حتّى لو كنّ في غرفة أخرى. كلّ الحضور في خشوع من حضرتها. تحاول كلّ أمّ أن تسأل المديرة سؤالًا ما حول تدبير شؤون الأطفال، أو حتّى الحياة. قد تكون الأجوبة معلومة للسائلات، لكنّ المقصد منها إظهار المحبّة والولاء لأفضل العقول المتوفّرة بينهن: أوليست هي وداد خانم؟
​وداد خانم لا تخيف شامي، ولا تسلّيه. يبدو أنّه كان غير مكترث بتلك الضجّة حولها أو بها، مع أنّ معظم تفاصيل ما يجري منها وبشأنها كانت تتسجلّ راسخة في ذاكرته. كان يحتار دائمًا في ضعف كلّ الذين حوله، بما في ذلك والدته وعمّاته، تجاه وداد خانم.
​لم يكن يعلم في ذلك الوقت إن كان صموده هذا نتيجة لعزمه، أم أنّه بسبب مكانة عائلته. عائلته من داعمي المدرسة الخاصّة التي كانت وداد خانم مديرتها. أحد أعمامه عضو في مجلس إدارتها، والخازن، والمشرف المباشر على المدرسة. عمليًّا هو رئيس وداد خانم، الذي لا رئيس غيره. ولمّا كانت المدرسة مدرسة بنات بشكل رئيس، ما كان يسمح لأيّ رجل أن تطأ قدمه أرض المدرسة وقت الدوام الرسميّ. الاستثناء الوحيد كان الحاجّ عليّ، المشرف، الذي كان يمكن رؤيته في مكتب المديرة في كثير من أيّام الأسبوع. الحاجّ عليّ أعْزب مزمن!
​الاستثناءات الوحيدة لقبول الصبيان مع البنات، كانت صفوف الحضانة. واستثناءان، لا ثالث لهما، في الصفّ الأوّل الابتدائيّ، ألا وهما شامي وفاروق. فاروق ينتمي أيضًا إلى عائلة ثقيلة الوزن لها علاقة بالمدرسة. الصبيان في الحضانة عادة ينتقلون إلى مدرسة للصبيان حين يصلون إلى الصفّ الأوّل.
​وداد خانم تستعرض حبّها وولاءها للعائلات المسؤولة عن دوام وظيفتها. وإنّه لمن أسباب خبرتها، وبدواعي حكمتها، أنّ الصبيّين المهذبين الرقيقين شامي وفاروق، لا يستحقّان التعرّض لقسوة الصبيان بعد، وأنّ بقاءهما سنة إضافيّة في مدرسة البنات يصبّ في مصلحتهما. سنة إضافيّة مع «الجنس اللطيف»، تحت رعايتها، وإشراف المعلّمات، هو لا شكّ من صالح الطفلين برأيها. ويبدو أنّ عائلتي الطفلين لم يكن لديهما غضاضة في ذلك. لا أحد يعلم ما كان التفكير، أو حتّى الجرأة على التفكير، لدى العائلات الأخرى ممّن كان لها صِبيان لم تتلق الالتفاتة نفسها.
تشغل المدرسة مبنى بيت دمشقيّ تقليديّ الطراز العربيّ، بباحّة رئيسة في الوسط محاطة بقاعات وغرف تنتشر على طابقين. وفي زاوية من زوايا الباحّة هناك ممرّ يقود إلى باحّة أخرى متواضعة الحجم، فيها قاعة واحدة، ومدخل ثانويّ للمدرسة يستعمل لتسلّم البضائع ودخول عمّال الصيانة، ودرج يقود إلى الطابق الثاني من جهةِ مشغلٍ للخياطة والتطريز، يعتبر علامة المدرسة المميّزة بما يخرّجه من شابّات ضليعات من هذا المجال.
​تحت الدرج، في هذه الباحّة الصغيرة، يوجد مرحاض «عربيّ» يمكن الوصول إليه بالصعود درجة واحدة. ليس للمرحاض نوافذ. بابه الخشبيّ سماويّ اللون، وله قسم زجاجيّ مصنفر، ومقفول دائمًا. إن كان الزجاج يكشف لنا ضوء المصباح، فهذا يعني أنّ المُستَخدِمة الوحيدة للمرحاض في داخله. وداد خانم هي الوحيدة التي تستعمل المرحاض، بأمر منها طبعًا. لديها مفتاحه، وتتجنّب استعماله عادة حين يكون الأطفال في الباحّة. هناك مرحاض آخر جانب مكتبها، ولكن يمكن التخمين أنّها تتجنّبه لأنّه يستعمل أحيانًا من قبل زوّار المدرسة. وداد خانم معروفة بهوسها الشديد بالنظافة والترتيب، خصوصًا ما يتعلّق بالصّحة العامّة.
​ذات يوم، اتجه شامي وفاروق نحو الباحّة الصغيرة حيث يمضيان استراحتهما عادة في ركن خلف البوّابة الثانويّة للمدرسة، بعيدة عن ضجّة بقيّة التلاميذ. ولكن كانت يومها مشغولة من قبل تلاميذ آخرين. يقرّران الجلوس على العتبة العريضة أمام باب مرحاض وداد خانم. وبمجرّد أن يجلس شامي ويميل للخلف ليدعم ظهره بالباب، يرتَدُّ للخلف فينفتح الباب. ويصاب بدهشة كبيرة، وربما هي بصدمة شديدة، حين يلمح تلك الكتلة الضخمة من جانب فخذ وداد خانم العاري، وهي تجلس القرفصاء. ينهض كالبرق ويغلق الباب. سويًّا، مع فاروق المتفاجئ أيضًا، يهرعان إلى الباحّة الرئيسة. لم يسمعا من وداد خانم، التي لا بدّ نسيت تأمين الباب بعد دخولها، أو أنّها اعتقدت أنّه لا يمكن لأحد أن يجرؤ على الجلوس على تلك العتبة. في اليوم التالي تمّ التعميم على كافّة الطلّاب أنّه لا يسمح لأحد الجلوس على عتبة المرحاض لأيّ سبب كان.
​الباحّة الرئيسة هي أكثر جهات المبنى تعديلًا، ولهذا البيت العربيّ تشويهًا. لن تجد فيها البركة بنافورتها المعهودة، ولا الأحواض الجانبيّة التي تحتضن النارنج والكبّاد والياسمين. أزيل كلّ ذلك لجعل الباحّة صالحة للهو الطلّاب بلا إعاقة، ودون مخاطر. استثناءٌ واحد هو شجرة نارنج يتيمة، تنتصب جانب باب مكتب وداد خانم الذي يطلّ على الباحّة. أمّا الباب الرئيس لمكتب المديرة فينفتح، في الجهة المقابلة، إلى فسحة تقع خلف بوّابة المدرسة الأساس.
​مكتب وداد خانم يرتفع عن أرض الباحّة، ويمكن الوصول إليه بصعود درجتين عريضتين من الحجر الأسود. يمكن للمديرة وداد خانم أن تراقب معظم الباحّة وهي تجلس إلى منضدتها، ولكنّها غالبًا ما تجلس على كرسيّ تضعه بطريقة تمكّنها من مراقبة الباحّة بأكملها. وأحيانًا تُشاهَد مع صديقة لها تلازمها وهما تجلسان، تستمتعان بدفء الشمس، على كرسيّين من الخيزران في الباحّة، جانب مدخل المكتب مباشرة.
​يمكن لكلّ الأطفال اللعب في هذه الباحّة، لكنّ صبيًّا واحدًا يتمتّع بامتياز خاصّ. يمكن لفاروق استعمال سيّارة حمراء تحتفظ وداد خانم له بها في أحد مستودعات المدرسة. كلّما عنّ على باله استخدامها أثناء الاستراحة، تقوم أم هادي، عاملة النظافة المقيمة في المدرسة، بإحضارها تاركة واجباتها الأخرى لتركّز على الإشراف على فاروق. الولد الوحيد الذي يشارك في هذا هو شامي، كلّما أذن فاروق. الأطفال الآخرون يراقبون فقط، ربّما بحسد، وغِيرة، وكبت، وربّما بغضب شديد.
​لا يتذكّر شامي، اليوم، إن كان لديه وقتها أيّ شعور بالذنب تجاه الآخرين الذين كانوا يراقبونه يلهو بقيادة السيّارة الحمراء. لكنّه يتذكر أنّه لم يكن مرتاحًا كثيرًا. لم يشعر في هذا الموقف شعوره حين كان فوق الطاولة يختار المدعوّين إلى بيته. ربّما كانت ملكيّة فاروق للسيّارة، وسلطته عليها هما ما جعلا شامي يشعر أنّه بريء من هذا الموقف.
شامي محبوب جدًّا من قبل كلّ معلماته. معظم الوقت، أثناء الاستراحة في الباحّة، يلتصق بالآنسة بسمة، أثيرته، ويمشي معها حين تشرف على الطلّاب. أحيانًا ترمي بذراعها حول كتفه وهما يمشيان حول الباحّة. ينتهز الفرصة بالالتصاق بها أكثر لـ»يشمشم» روائحها، التي عادة ما توحي بأروقة المستشفيات. الآنسة بسمة هي «الممرّضة بسمة» في المساء، وحين لا تكون في المدرسة. حين يكون ملتصقًا بها ما فيه الكفاية، يرفع رأسه نحو صدرها، ويشعر أنّه صدر غاية في الجمال. يفرك جبينه على قميصها القطنيّ الناعم.
​يبدأ الأطفال، وبعض الأمّهات المدعوّات، بالوصول إلى الحفل. يحصل كلّ طفل على كيس مملوء بالحلوى واللعب المسليّة. وداد خانم تستقطب الاهتمام أكثر من أيّ شيء آخر. لكنّ الآنسة بسمة توجّه عنايتها نحو تسلية الأطفال، والمساعدة في استلام الهدايا وترتيبها على طاولة إلى جانب غرفة الطعام. أمّا الطاولة الرئيسة فكانت مليئة بالطعام والفاكهة والحلويات.
​يتذكر شامي العدد الكبير من الهدايا التي تلقّاها ذلك اليوم، لكنّه يسهى عن أيّ من الألعاب التي مارسها مع رفاقه. أما ضجيج الصفّارات التي كان الأطفال يتسلّون بها، وهي من جملة ما تلقّوه في كيس الهدايا، فلا زال عالقًا بذاكرته.
​والدته وعمّتاه اهتممن بالضيوف بتقديم الطعام والشراب بصورة مستمرّة. الخادمة مريم كانت تسعى بين طفل وآخر لتمنع سقوط الطعام، واندلاق الشراب على السجّاد العجميّ الذي يفترش أرض المنزل. شامي يلاحظ حبور أصدقائه وصديقاته بالطعام والحلوى.
​شامي يرى كلّ ذلك، لكنّه لا يرى نفسه بوضوح بين الزحام. لا يتذكر كعكة العيد، ولا الشموع. وفقط حين تغادر الزائرات وأطفالهن، ويبدأ رجال العائلة بالحضور، يباشر هو بفتح الهدايا. يرى الآن نفسه بوضوح يحمل طائرة أحضرها له عمّه. ويحبّ هديّة أخرى: قطار كهربائيّ. وكانت هناك أشياء أخرى مثل السيّارات، والأحاجي، والمكعّبات، وأقلام التلوين، والكتب، والملابس. عدا عن طائرة عمّه، لا يذكر من أهداه ماذا!
​تصبح أخبار الحفل على كلّ لسان في الحيّ والمدرسة. لم يسبق أن أقيم حفل كهذا لولد في السابعة في ذلك المجتمع حينها. وترتقي تلك السمعة بفضل شادية، ابنة عمّ شامي، وهي في الصفّ الخامس الابتدائيّ في المدرسة عينها.
​كانت شادية كابوس وداد خانم الرهيب. شادية مثال الفشل الأكاديميّ. رسبت أكثر من مرّة خلال سنواتها الابتدائيّة، فصارت في الثالثة عشرة في صف أكبر من فيه لا تتجاوز الحادية عشرة. جسمها جسم امرأة ناضجة. ولا تشترك فقط باسمها مع واحدة من أهمّ نجوم السينما المصريّة، بل تشبهها شبهًا كبيرًا، وجهًا وجسمًا. أمّا صوتها فلم يكن بمستوى صوت شبيهتها، ولكنّ هذا لم يمنع من أن تكون رائدة المدرسة في المسرحيّات ومهرجانها السنويّ. هي سيّدة مسرح المدرسة، تقوم بتأليف وإخراج والمشاركة بتمثيل مسرحيّات المدرسة بعد أن تنقل الأفكار من أحدث الأفلام السينمائيّة التي تقوم بحضورها دون علم أهلها أو المدرسة. لديها زميلة تتشارك معها في التغطية على حضورها بالادعاء أنّهما كانا معًا يراجعان فروضهما المدرسيّة.
​ظلّت شادية لأسابيع بعد الحفل تخبر زوّار والدتها، والأطفال الذين لم يحضروا، كيف أنّهم خسروا خسارة كبرى. وتخبرهم كيف كانت هي نجم الحفل، تغنّي وترقص أمام إعجاب الأمّهات والأطفال. شامي لا يذكر هذا أبدًا!
​تقنع وداد خانم نفسها أنّ الحاجة لموهبة شادية المسرحيّة تطغى على مساوئها. صحيح أنّها تعاقب شادية على أشياء كثيرة، لكنّها تغضّ النظر عن أشياء أخرى. في كلا الحالين تتقن اللعبة بامتياز. تُري عائلة شادية أنّها المربيّة المهتمّة، دون أن تتجاوز حدودها في إغضاب ابنتهم المحبوبة.
​تعلم شادية أنّها الرابحة، وأنّها يمكن أن تفعل ما تريد باللعب على هذين الحبلين المتعاكسين الملفوفين حول عنق وداد خانم. شامي معجب بتمرّد شادية، رغم أنّ شادية لا تبدي أيّ اهتمام بشامي. المديرة وداد خانم تنتظر نهاية العام بفارغ الصبر حتّى تتخلّص من شادية بسلام. عندها تذهب شادية إلى مدرسة إعداديّة، وينتقل شامي إلى الصف الثاني في مدرسة الصبيان. التقاؤهما بعد ذلك سيقتصر على الاجتماعات العائليّة.
​حين انتقل شامي إلى الصف الثاني في مدرسة الصبيان المقابلة لمدرسة البنات، بدأ فصلًّا جديدًا من حياته، لكنّه ظلّ لفترة على علاقة بمدرسة البنات. كلّ عصر، بعد انتهاء الدوام المدرسيّ، كان يقطع الشارع لينتظر أخوته الأصغر سنًّا، وحين يجتمعون يكون من حضر لاصطحابهم للبيت قد وصل. أثناء فترات الانتظار تلك كان أحيانًا يرى وجه وداد خانم بين جموع التلاميذ المغادرة. ربّما كانت تؤكّد حضورها أمام أهالي الطلّاب لتثبت لهم اهتمامها، مع العلم أنّ الكلّ كان يشهد بكفاءتها ويحلف بحياتها. يستغرب كثيرًا أنّه لا يذكر مطلقًا من كانت الناظرة، أو ربّما إحدى المعلّمات، التي وضعته فوق الطاولة ليغرق في بئر تأنيب النفس، لكنّه، من ناحية أخرى، يشعر أنّه مدين لهفوتها في نشوء وعيه، وصحوة فكره الدائم في التركيز على المساواة والعدالة الاجتماعيّة.
​غادرت وداد خانم الحياة منذ أمد طويل. ومنذ مدّة أقرب، غادر بعض ممّن تشارك شامي معه الرحلة المدرسيّة. ومعظمهم لا زال مثله على قيد الحياة: منهم من بقي في وطنه الأصل، ومنهم من توزّع في أرجاء الأرض، ومنهم من لا زال شامي على اتصال معهم، خصوصًا مع سهولة وسائل التواصل الحاليّة.
​يعلم شامي أنّ فاروق بخير ويعيش في بلد غربيّ، لكن ليس بينهما أيّ تواصل. الآنسة بسمة لا يعرف عنها شيئًا سوى أنّها تزور مخيّلته بين الحين والآخر، وحين تفعل تأتي بكثافة الحواسّ الخمس فتثير في نفسه عواطف حبّ سرمديّة، ومشاعر جنسيّة متأخّرة.
​لكنّ أعمق المشاعر تطغى عليه حين يتذكر وقفته على طاولة الصفّ البيضويّة. يستجمع في تلك الذاكرة الأساليب الاجتماعيّة السائدة بكلّ جهلها وبراءتها، بتعمّدها وعدم قصدها. الاستبداد، والنفاق، والتمييز بين الناس، وعدم التمييز بين المعطيات. طيلة حياته كانت معه ردّة فعله المستاءة من كلّ تلك الممارسات الاجتماعيّة دون أن يتخلّى عن محبّته واعترافه بفضل الجوانب الأخرى لمن كان يمارسها، وبعضهم من أقرب الناس إليه. لكنّه الآن فقط ربط بينها وبين تطوّر سلوكه الحياتيّ الذي جعل منه رجلًا مباشرًا صريحًا لا يجامل، ولا يخشى، فيما يعتبره الحقّ، لومة لائم. لم تترك له أساليبه كثيرًا من الأصدقاء، لكنّه يفتخر بأنّه فكّر بتلك الشوائب المسلكيّة، التي يدّعي الناس أنّهم يريدون التخلّص منها، وهو لم يتجاوز السابعة.

يمكن متابعة المزيد من أعمال رغيد النحّاس على موقعه التالي:
www.raghidnahhas.com