بقلم انطوان القزي
رحل أمس الاول الاثنين عن ٨٥ عاماً الكاهن والباحث والمؤرّخ والناشر والاستاذ الجامعي والعميد الاب جوزيف القزي (ابو موسى الحريري) الذي ادركتُه في وقت متأخر وأنا في صف الفلسفة في الكسليك.
ولد ابونا جوزيف كليم كما يسمّونه في بلدته الجية سنة ١٩٣٧ والتحق بالرهبانية اللبنانية المارونية وهو ابن ١٢ عاماً سنة ١٩٤٩ قبل ان اولد انا بتسع سنوات.
ولدتُ وكبرت وبلغت صف البريفيه ولم اعرفه الا من بعيد يزور والديه في منزلهما الذي يبعد عن منزلي خمسين متراً.
كنت اعرف ان لديه كتباً دينية وانه غيّر اسمه لأسباب خاصة، وكثيرون يقولون، لماذا غيّر اسمه ولماذا ابو موسى الحريري، يقول ابونا جوزيف ان موسى هو رأس (جبّ العائلة- بيت بو موسي) والحريري معناه القزي وهو جدّ العائلة الأكبر و خبير تربية القز ( دود الحرير) الذي جاء به الامير فخر الدين
من توسكانا في ايطاليا بعد عودته من المنفى.
وكي يتأكد الاب جوزيف من هذه المعلومة سافر الى فلورنسا ووجد ان عائلة قزي هي من اكبر عائلات هذه المدينة الايطالية.
أما كيف تعرّفت على الاب جوزيف سنة ١٩٧٧ فهنا القصة: سنة ١٩٧٦ تهجّرنا من الجية وكنت انا في الصف الثانوي الاول (علمي)
سكنت في ريفون عند الراهبات الكرمليات اسوة بأبناء بلدتي الذين توزعوا على اماكن كثيرة. وكنت انزل سيرا على القدمين الى عجلتون كل يوم حيث انتقلت مدرسة ال» دولاسال» السنة من عين سعادة الى مدرسة راهبات المحبة قرب قصر الرئيس فؤاد شهاب القديم في عجلتون وهناك انهيت البكالوريا القسم الاول (علمي) ١٩٧٦-١٩٧٧.
في السنة التالية توقّفت المدارس في المنطقة الشرقية بسبب الحرب وانصراف الشباب الى الدفاع عن المنطقة، ولأن والدي شاء الّا اضيّع سنة دراسية، توجّه الى الكسليك وكان يومها الأب جوزيف القزي مدير الاكليريكية التي يتابع فيه الاخوة الدارسون دراستهم وكان يحق لي
متابعة الدراسة لأنني كنت وحيداً بين الذكور لدى اهلي.
بدأ العام الدراسي(١٩٧٧-١٩٨٧ ) كنت آتي بالسرڤيس من طبرجا حيث كنت مستأجراً وتحوًلت الى صف الفلسفة (ادبي) لأنه لم يكن في الكسليك فرع علمي.
– كان معي في الصف على ما اذكر ٢٨ اخاً بينهم الاخ طنوس نعمة الذي كان يجلس الى جانبي والذي اصبح في ما بعد اللباني طنوس نعمة الرئيس العام للرهبانية المارونية والاخ المخلصي سليمان ابو زيد الذي اصبح في ما بعد الارشمندريت في الرهبانية المخلصية توفي سنة ٢٠١٩ (رحمه الله) واخوة عازاريون من مدرسة عينطورة.
في بداية العام كان ابونا جوزيف متوجّساً، فأنا ابن بلدته وعائلته كان يخشى الّا اكون بمستوى من ادرس معهم وهم القادمون من افضل المدارس وانا الاَتي من مدرسة مار شربل في الجية.
مرًت الاسابيع الاولى وكان ابونا جوزيف (لا يجاملني كثيراً) وعندما ظهرت نتيجة امتحان الفصل الاول بدأ ابونا جوزيف يدخل الى الصف يقترب مني ويربّت على كتفي مبتسماً، وفي الفصل الثاني راح يخبر معارفه عني كلما زار بلدته الجية وانه فوجيء بي.
توثّقت في الكسليك علاقتي بالابونا جوزيف وبإبن بلدتي الآخر المغفور له الاباني بطرس القزي.
في العام التالي عدت الى الجية والتحقت بالجامعة اللبنانية في الاونيسكو ثم في الفروع الخامسة في الجنوب.
وبعد سقوط الاقليم سنة في ٢٨ نيسان سنةً ١٩٨٥ استدعاني كل من الاباتي بطرس والابونا جوزيف وطلبا مني ان اضع كتاباً عن تاريخ الجية وعائلاتها، والحّا عليّ بذلك.
ومن يومها انطلقت بمشروعي وانا احمل عبئاً كبيراً، فزرت مكتبات الجامعة الاميركية واليسوعية وقابلت اساتذة التاريخ وعلى رأسهم الدكتور المرحوم فؤاد افرام البستاني الذي اخبرني قصة صورة سيدة النجمة التي اهداها الامير بشير الى كنيسة الجية وهي من عمل رسام ايطالي شهير وقصة قدوم عائلة البستاني الى الجية و غيرها من القصص ، وفي دراسة العائلات قابلت الأمير بشير شهاب حفيد الامير بشير لابنته سعدى وحصلتُ من على معلومات وصور نادرة. معلوم ان الى شهاب كانوا يملكون قصراً في بلدة الجية. كما اجريت عشرات المقابلات الاخرى الى ان صدر كتاب (بورڤيريون- الجية رصيف الفتوحات) سنة ١٩٨٨ عشية سفري الى استراليا واصبح مرجعاً في الجامعات اللبنانية.
– وفي هذه الفترة توطّدت العلاقة كثيراً بيني وبين الابونا جوزيف ، انا اجمع المعلومات وهو يأخذ بيدي بالترتيب والتنضيد وهو صاحب الباع الطويلة في التأليف والتأريخ وله سلسلتان من الكتب: «الاديان السرية والحقيقة الصعبة» وكان يوزَعها مجاناً على الأصدقاء وكان كلما وضع كتاباً يرسله اليّ مع اول مسافر الى استراليا.
– الاب جوزيف القزي اتحدّث عنه بشهادة اناس كثر يعرفونه او يعرفون عنه ويجمعون على انه مفكّر علامة سافر الى عدّة دول ليوثّق ابحاثه ، منها فرنسا والمانيا وهولندا وايطاليا وأميركا وتركيا ومصر وغيرها.
– وكم كبر قلبه في احدى زياراته الى استراليا (١٩٩٦) يوم حضرني وانا ادير ندوة عن السينودوس من اجل لبنان الذي انعقد في الفاتيكان والى جانبي المغفور لهما المطرانان جبران رملاوي ويوسف حتي.
صحيح انني ادركته متأخراً لكنني قضيت اياماً جميلة وغنية مع الاب جوزيف الذي قدمته في مطلع التسعينات في صالة الويستيلا القديمة ( الشرق الاوسط) استاذاً وقدوةً وعالِماً من بلدتي وجمعتني به صداقة عميقة قبل ان تمنعه حالته الصحية من زيارة اخيرة الى استراليا.
رحمه الله قلماً من الزمن الجميل، اعزّي نفسي والرهبانية المارونية وابناء بلدتي الجية بخسارة هذه القيمة الفكرية.. رحمه الله واسكنه الى جوار الصديقين.
الصورة الثانية : مع الاب جوزيف وابنة اخته ريما في رحلة الى منطقة ( ستانويل بارك) جنوب سدني
الصورة الثالثة في مناسبة ندوة السينودس سنة ١٩٩٦ في سدني مع المطرانين يوسف حتي وجبران الرملاوي.