رغيد النحّاس_ سدني

ها أنا هذا أجلس على شرفة منزلي أكتب سطورًا من حياتي. أتذكّر طه حسين و»دعاء الكروان»، منه تعلمت «ها أنا هذا»، وهو تعبير أحبّه لفخامته وقوة تأكيده، حسبما أرى، بعيدًا عن الصفات البلاغيّة التقنيّة التي لا أعلم مفرداتها، والتي يمكن أن تستخدم لوصف تعبير كهذا.
ذكريات الماضي تتردّد أمامي كدعاء الكروان الذي «كان يرجع صوته هذا الترجيع حين صرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض». ولكنّها الآن محمولة على حناجر أصناف أخرى من الطيور، منها المهاجر، والمستوطن، والأصليّ. ومنها ما يصادقني ويتردّد على حديقتي، يوقظني على تغريده، ويتناول بذور عبّاد الشمس من يدي.
الفضاء أمامي عريض يكتنف الأفق عند التقاء البحر بالسماء، تاركًا لعينيّ التجوّل ببطء بين نجوم بدأت تتحدّد معالمها مع اقتراب الغروب، مرورًا بمياه المحيط الهادئ التي لا تعرف الهدوء، والتي يُطلق عليها اسم «البحر التسماني» في تخوم شرق أستراليا، إلى الشاطئ، ثم التلال التي ترتفع لتصل إلى الموقع الذي شيّدت عليه مسكني في ضاحية «مرتفعات إيلانورا».
أنا على شرفتي سيّد المشهد. ليس أمامي ما يحجب الرؤية، بل كلّ ما أرى يأتي إلى ناظريَّ آية من آيات الجمال والإبداع. هذه هي سيدني، أجمل مدن العالم طبيعةً. وهذا هو الموقع الذي أسكن فيه، وأسكن إليه لأمارس حبّي في هندسة العمارة. ليس فقط من حيث التصميم والتنفيذ، ولكن العيش في صلب القضيّة، والاحتفاء بما يبدعه العقل والقلب والأيادي. ولهذا أردت أن يكون مسكني تتويجًا لثقافة الجمال والراحة والطمأنينة والانتفاعية. تلك هي فلسفتي المعماريّة، أحاول تنفيذها مراعيًا ما أمكن من شروط الحفاظ على البيئة، والاندماج معها.

بصري الآن يغطّي حديقة الدار التي تقع تحت شرفتي مباشرة، وقد أضاءت مصابيحها تلقائيًا مع الغروب. مصابيح ركّبتها ونسّقتها بيدي. أما مصابيح بركة السباحة، المغمورة بالماء، فتضيء بعد نصف ساعة من ذلك، لينبعث من البركة ضوء أزرق يتراقص مع تموّج سطحها، وينعكس بدلال على أشجار النخيل المصطفّة بانتظام حول ثلاثة أرباع محيطها. أضواء تستهلك قدرة ضئيلة، لكنّها تستكمل أجواء الجمال بفيض من الأناقة، وتزيد من أمان المنزل.

تنهار من عيني حفنة من القطرات، لا حزنًا على صدّام حسين الذي أعدموه منذ أيّام، ولكن أسفًا على تلك المهزلة العالميّة التي أدت إلى محاكمة لا يمكن أن تكون عادلة في ظل تلك الظروف التي تعكس ذهنيّة عالميّة مريضة، وذهولًا من هذا الإحباط الذي وصل «الشرق الأوسط» إليه، وبكاء من شعور شديد بالعجز. ها أنا هذا في حضن الغرب الذي آمنت بقيمه، وكنت عنصرًا بنّاءً في صرحه، أراه يخذلني بريائه مثلما سبق لبني قومي أن فعلوا. ما أصعب أن أكون في هذا النعيم الجغرافيّ، ولا ألبث أتلقّى وخز جحيم التاريخ. نعم! عقدة 1967 تلاحقني، لا لأنّها كبّلتني فلجمتني عن مواصلة حياتي، بل لأنّ تطوّر الأحداث نقل المنطقة إلى وضع أشد سوءًا وأكثر تعقيدًا. أسائل نفسي: هل فعلت مافيه الكفاية لأقول إنّي قمت بما عليّ؟
يَرُدّني القمر، الذي كان يقترب من الاكتمال تلك الليلة، إلى الجوّ الساحر الذي أحظى بتنفس كلّ ثانية تمرّ من تكوينه. وكلّما حلّ الظلام أكثر، كلّما اختال القمر بجماله الوضّاء. استعددت لمثل تلك اللحظات بتركيب فاصم كهربائيّ إضافيّ على شرفتي. قمت فقطعت التيّار عن الحديقة ليصير القمر سيّدة الكون. أردت أن يكون هذا المشهد إحياءً لحدث أعتزّ به، واستذكارًا مسرحيًّا له، فهو من ألهمني الفكرة. كنت في بعلبك، في لبنان، أحضر إحدى عروض فيروز. بعد فترة من العرض، توقّف كلّ شيئ فجأة، وانقطعت الأنوار كلّها، فأصاب المكان صمت مهيب وظلام دامس، إلّا من ضياء البدر المكتملة الوجه تلك الليلة. وفجأة انطلق صوت فيروز صادحًا: «نحنا والقمر جيران». أنا متأكّد أنّ القشعريرة التي أصابتني يومها أصابت كلّ الحضور، ولا أعتقد أنّ مثل تلك اللحظة تتكرّر كثيرًا.

لكنّني اليوم دون فيروز، وبلا هنادي. القمر شفيعتي لكنّها لا تكفيني. أما هنادي التي أنا بصددها، فإنّما سمّاها أبوها كذلك بعد أن قرأ «دعاء الكروان» هو الآخر. لكنّه هو الذي صُرع، لتبقى ابنته وحيدة بين أربعة أخوة حين لم تتجاوز الثانية من عمرها. ولترميها الأقدار ذات يوم في حياتي، فتعود لتنتزعها منّي بعد أن تركت لي ولدنا الوحيد.