عبد الله المدني
كما في حالة جنوب أفريقيا، التي كانت جزيرة معزولة للأوروبيين وسط بحر أفريقي، ظلت استراليا ـ مع فارق التشبيه والسياسات ـ حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، كياناً يهيمن عليه العرق الأبيض والثقافة الغربية.
ضمن إقليم يسوده العرق الأصفر، والثقافة الآسيوية، إلا أن صحوة الأقطار الآسيوية في السبعينيات وما تبعها منذ ذاك من نهضة وتقدم مشهود على مختلف الصعد، أوجد فرصاً اقتصادية ومصالح غير مسبوقة لاستراليا مع جوارها الآسيوي، أكثر من تلك التي تربطها بحلفائها التقليديين في الغرب البعيد، وكانت هذه مقدمة لظهور أزمة الهوية، التي تعاني منها استراليا، بمعنى هل هي دولة آسيوية أم دولة غربية؟
هذه الحيرة الاسترالية ما بين ثقافة غربية تجذبها نحو الولايات المتحدة وأوروبا، وموقع جغرافي ومصلحة اقتصادية يشدانها نحو آسيا، صارت في العقود الأخيرة مادة للجدل على الساحة المحلية، وموضوعاً ساخناً في أوقات الانتخابات. وبصفة عامة برز اتجاهان: الأول لا يعترض على توثيق العلاقة مع الجوار الآسيوي.
لكنه يعطي الأولوية للتعاون الاستراتيجي والأمني مع الديمقراطيات الغربية انطلاقاً من أن هوية البلاد وقيمها وثقافة غالبية سكانها هي غربية، ناهيك عن التاريخ المشترك الطويل بين الطرفين وتضحياتهما من أجل القيم والأهداف المتشابهة. أما الاتجاه الآخر فينطلق من حقائق الجغرافيا والاقتصاد وما طرأ من تغييرات نسبية على المكونات العرقية للشعب الاسترالي، ليدعو إلى الانخراط الكلي مع دول الجوار، واكتساب الهوية الآسيوية.
قاد الطرح الأخير حزب العمال، الذي كان زعيمه السابق بول كيتينغ أول المدافعين والمتحمسين عن فكرة الالتحاق بآسيا، بل الذي قام بمجرد فوزه في انتخابات عام 1991 بخطوات عملية في هذا الاتجاه، منها توقيع حكومته اتفاقية دفاعية مع إندونيسيا، عـُدت وقتها بمثابة تثوير لسياسات استراليا الآسيوية، وانتقال من مفهوم الأمن في مواجهة آسيا إلى مفهوم الأمن ضمن آسيا،
بيد أن هزيمة كيتينغ وحزبه في انتخابات عام 1996، ووصول حزب الأحرار بقيادة جون هوارد إلى السلطة بما عُرف عنه من سياسات خارجية محافظة ومرئيات أمنية متفقة مع الاستراتيجيات الأمريكية، حجّم كثيراً اندفاع كانبيرا نحو جاراتها الآسيويات، مقابل تركيز أكبر على توثيق العلاقات الاستراتيجية مع واشنطن خصوصاً.
والغرب عموماً، ثم جاءت تطورات ما بعد 11 سبتمبر 2001 لتجعل استراليا أكثر انخراطاً في المشاريع العسكرية والأمنية الأمريكية، وحليفاً رئيساً لواشنطن في حربها على الإرهاب، إلى الدرجة التي قيل معها أن كانبرا صارت الذراع الأمنية لواشنطن في الشرق الأقصى ومنطقة الباسيفيكي،
إلا أن هوارد وسط هذا الاندفاع نحو الغرب، حاول أيضاً أن يتقرب من آسيا مدفوعاً بمصالح بلاده الاقتصادية ومصالح حزبه الانتخابية، خصوصاً في ظل حملة حزب المعارضة عليه واتهامه بأنه يفوت على البلاد فرصاً ذهبية للاستفادة من النمو والحراك الاقتصادي في الصين، وبقية أقطار آسيا الصاعدة، بل ويستفز الأخيرة بسياساته التمييزية حيال موضوع طالبي اللجوء الآسيويين وبقراراته حول تخفيض الدعم الحكومي لبرامج تعلم اللغات الآسيوية في المدارس والمعاهد الاسترالية.
ومن أمثلة ما قام به هوارد في فترة زعامته الثانية توقيعه لاتفاقيتين للتجارة الحرة مع كل من سنغافورة وتايلاند، وتدشينه لمفاوضات من أجل الغرض نفسه مع ماليزيا وإندونيسيا والصين، وقيامه بزيارات رسمية إلى الأقطار الآسيوية أكثر من تلك التي قام بها إلى الولايات المتحدة، ودول أوروبا مجتمعة، فبدا كما لو كان يحاول خلق نوع من التوازن ما بين علاقات بلاده مع كل من آسيا والغرب.
على أن ذلك التوازن أصبح حلماً بعيداً، بعد أن وقعت كانبيرا العام الماضي شراكة دفاعية وأمنية تاريخية جديدة مع واشنطن ولندن تحت اسم «أوكوس AUKUS»، بهدف حماية المصالح الغربية في المحيطين الهندي والهادي في مواجهة العملاق الصيني، الذي اعتبر الخطوة بمثابة «حرب باردة جديدة».
وأن استراليا نصبت بذلك نفسها خصماً للصين، ولم يزعج الحلف الجديد الصين وحدها، وإنما أزعج أيضاً إندونيسيا وماليزيا اللتين تخوفتا من أن يحول أوكوس استراليا إلى قوة نووية ويجر المنطقة إلى سباق تسلح.
ويبدو الآن أن الأزمة الأوكرانية وتداعياتها الأمنية ستقرب كانبيرا من الغرب بصورة أقوى، وستحدث في الوقت ذاته خللاً أوسع في علاقاتها مع بكين، خصوصاً أن رئيس حكومتها سكوت موريسون لم يكتف بالانضمام إلى الدول، التي فرضت عقوبات على روسيا، وإنما وصفت أيضاً قرار بكين بتخفيف القيود التجارية على موسكو بـ«القرار غير المقبول».